بئست أنظمة “الاحتلال” العربية.. فهي تحتل بلدانها وتُكبّل جيوشها وتعتقل شعوبها

بقلم : فهــد الريمــاوي

تأبى كل أوصاف السوء والنعوت القبيحة ان تقترب من واقع الحال العربي الراهن، خشية اصابتها بالأسوأ مما فيها والأقبح مما لديها، نظراً لان هذا الواقع البائس مرزوء بطائفة من العلل والأمراض والتنويعات الوبائية الشديدة العدوى، والجسيمة الأذى، والفادحة الخطر والضرر.

ولهذا لم نجد – ونحن نحاول تسطير هذا المقال – في جعبة لغة الضاد ولسان سيبويه أوصافاً تناسب هذا الواقع المتردي حد الفضيحة، والمؤدي الى تحقير الأمة العربية وتقزيمها حتى باتت أصغر من ذاتها، وأرخص من ثرواتها، وأشنع من سوءاتها وعوراتها، وأجبن من حكامها وحكوماتها.

يعاتبني “جمع القلة” من بقية أصحابي وأترابي بشأن صيامي غير المعهود عن الكتابة، وتباعد قلمي المفاجئ عن القرطاس والورق، بعد نيف وخمسين عاماً من النضال بالكلمة الجريئة، والمنازلات الحامية في مختلف الميادين السياسية والأيدلوجية، وتحمّل مسؤولية الدفاع عن ثوابت الأمة العربية في الوحدة والحرية والتحرير والعدالة الاجتماعية.. سجناً وتشريداً وقطعاً للأرزاق، ومنعاً من دخول معظم الدول العربية.

جوابي،، أنني مُتخم بالقرف والاشمئزاز من الحال العربي الراهن، الذي يكاد يفقدني صوابي، ويضعني على حافة اليأس والجنون، وينتهك رغبتي في الكتابة او قدرتي على منادمتها، ويطفئ روحي ويخمد أنفاسي تحت أنقاض علامات التعجب والاستفهام والاستنكار.. ذلك لان أكثر ما يُحزن الكاتب ويُحبطه ويُعكّر فكره وحبره، ان يكتب فلا مَن يقرأ، ويخاطب فلا مَن يستمع، ويجادل فلا مَن يقتنع، وينادي فلا مَن يُجيب او يردد رجع الصدى، غير الشاعر العربي القديم عمرو بن معدي كرب الذي قال..

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً           ولكن لا حياةَ لمن تُنادي

ليس من السهل علينا معشر قدماء المحاربين من مدمني الحروف الثورية العتيقة والأفكار الوطنية والقومية التليدة، ومن مُعايشي عبد الناصر وبو مدين وصدام حسين وحافظ الأسد وأميل لحود، ان نتفهم او نتقبل هذه “القارعة” العربية المأساوية الراهنة، وان نعبر عنها بلغة التجرد والحياد، وان نحاكمها بعقل بارد كما لو اننا مراقبون او محللون أجانب وغرباء يكتبون بلغة رمادية ومنطق عدم الانحياز.. فنحن من بعض فرسان الاقلام الصحفية الملتزمة بالقضايا والهموم العربية منذ ستينات القرن الماضي، ونحن من بعض الكتاب المستمسكين بالجملة السياسية المعترِضة والمواقف النقدية الحادة لمثالب وسلبيات المجتمعات والنخب والأنظمة العربية حتى أيام الزمن السعيد والزعماء العظماء.

نحن لا نزكي على الله أحداً، ولكننا من بعض المثقفين العرب الرومانسيين الذين ما زالوا مؤمنين بان الصحافة رسالة سامية، وليست ثرثرة او مسخرة على الورق.. وانها بالدرجة الأساس مُهمّة رسولية قبل ان تكون مهنة وظيفية، وان الكاتب المحترم قاصد رسولي ديدنه الحفاظ على شرف الكلمة، والتفاني في خدمة رسالته القائمة على وفق مبادئه وقناعاته فقط لا غير.

‏ثم نقول أن ملحمة “طوفان الأقصى” قد كشفت، فيما كشفت، ‏أن الوطن العربي بات محتلاً وليس مستقلاً، وأن النظام العربي القائم حالياً ‏لم يعد قمعياً تسلطياً فاسداً ومستبداً فحسب، بل أصبح نظاماً احتلالياً بكل ما للكلمة من معنى.. ‏أصبح غريباً ومنفصلاً عن شعوبه، ولا يمثلها أو يعبر عن إرادتها على الإطلاق، وهو في معظم الحالات حليف للكيان الصهيوني سراً وعلانية، فضلاً عن انه أسير للمشيئة ‏الأمريكية بأكثر مما تأمر وتريد.. بينما يعجز او يتعاجز عن الربط والتواصل بين حلقاته المفككة في سائر أقطاره، ولو ضمن ادنى حدود التضامن والتكاتف القومي.

نعم، بل الف نعم، اننا نرزح كشعوب عربية تحت وطأة أنظمة اغتصاب واستلاب واحتلال طاغية وباغية، بعضها ما زال بدوياً قَبَلياً ديناصورياً رغم انقراض هذا النوع من الأنظمة في كل قارات العالم، وبعضها ما زال عسكرياً انقلابياً وانكشارياً غاشماً وجاهلاً وفاشلاً في حماية الوطن ورعاية المواطن، وبعضها ما زال خاملاً وهاملاً وتافهاً وتائهاً بلا بوصلة ولا همّة ولا هدف، فهو لا في العير ولا في النفير، وفق ما يُقال في الأمثال.

واقع الأمر وحقيقته ان كل ما يجري في الوطن العربي خراب ويباب وتكاذب مكشوف وهياكل ديكورية زائفة.. فلا دساتير مرعية ولا قوانين عادلة ولا انتخابات نزيهة ولا برلمانات حقيقية ولا حكومات ذات مصداقية وسلطات فعلية.. لا حقوقَ ولا حرياتٍ ولا أحزابَ مناضلة ولا حياةَ سياسية ولا مجالَ للعمل الوطني العام.. فقط هناك الحاكم المتفرد بكامل السلطات والامتيازات، والمُحاط بشلل من الأزلام والمنتفعين الذين يُسبّحون بحمده صباح مساء، ويتركون للشعوب البائسة ان تزداد بؤساً وذلاً وجوعاً وخنوعاً وهجرة الى فيافي الإغتراب.

عموماً،، لا يجوز ان نقنط من رحمة الله، ولا يصحّ ان نيأس من قدرة أمتنا العربية على التجدد والنهوض، ولكن ما نشاهدة بالبصر اليوم، وما نتشوفه بالبصيرة غداً لا يُطمئن او يُبشّر بالخير.. فقد اخترقت اليهودية السياسية الإبراهيمية – وليس الصهيونية فقط – معظم مواقع السلطة والحكم في الديار اليعربية، وأسقطت بالتالي الكثير من المحاذير والمحظورات والمُحرّمات التي طالما تشبثت أمتنا بها على مر العهود، وها نحن نرى بأم العين حالياً ما كان مستحيلاً ان نتخيله – مجرد تخيل – في الأمس القريب، ونعني به انحياز زمرة خائنة من أنظمة العربان وجيوشها وموانئها ومواصلاتها ورجال مالها وأعمالها الى جانب العدو الإسرائيلي في مواجهة فقراء وبواسل قطاع غزة !!

وبعد،، ماذا بقي لدراويش القومية العربية وعواجيز المدرسة الناصرية من أمثالنا ان يقولوا او يفعلوا، بعد ان وقعت الفأس في الرأس، وضاقت دوائر الحاضر والمستقبل أمام الدولة القُطرية العربية المأزومة، وباتت خيانة أبي رغال مثالاً يحتذى بين ظهرانينا من مملكة المغرب على شواطئ المحيط الى مشيخة الأمارات على ضفاف الخليج.. والعياذ بالله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى