لماذا جمال عبد الناصر؟؟
بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة
لماذا عاش جمال عبد الناصر في الذاكرة العامة، بالاتفاق والاختلاف معه، كأن مصر لم يحكمها غيره؟! في استهدافه حيًا وميتًا شهادة على قوة مشروعه وحجم تأثيره.
أي كلام يتجاهل الانقلابات الاستراتيجية والاجتماعية على مشروعه، أو يلحق به سياسات أنور السادات وحسني مبارك وما بعدهما، تجهيل بالتاريخ يستهدف الذاكرة العامة حتى يكفر المصريون بأي معنى حقيقي للثورة، وحقوقهم الطبيعية في التحرر والاستقلال والعدل، أو أية تطلعات للتصحيح والتصويب حتى يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، كما طمحت ثورة يناير المجهضة.
بقوة الفعل التاريخي، لا الافتراضي، اكتسب شعبيته وامتد إرثه بكل ما فيه من أحلام أُجهضت، وأخطاء ارتُكبت حتى الآن.
حسب تعبير شهير للإمام أحمد بن حنبل عندما اشتدت محنته: “بيننا وبينكم الجنائز”.
كانت جنازته بحجمها الاستثنائي والحزن العميق فيها شهادة لا تخطئ بعمق تجربته وإلهام مشروعه.
وكان مثيرًا طغيان صورته بعد الرحيل حيث مصداقية الرؤية في اختبار الزمن.
لكل ثورة سياقها التاريخي، وأي كلام خارج سياق زمنه تهاويم في الفراغ.
التاريخ ليس أسطورة، لكن بعض الرموز تلخص المعاني الكبرى وتستعصي على محاولات الهدم.
ثورة يوليو لعبت دورها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقدر ما لعبت ثورة (١٩١٩) دورها في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى.
رغم أية محاولات لاصطناع القطيعة بين ثورات مصر، إلا أنّ كلًا منها تتصل بما سبقها وتؤسس لما بعدها.
قد تتفق أو تختلف معه، لكنك لا بد أن تستشعر اتساقًا كبيرًا فيما يقول ويفعل.
قيمة “عبد الناصر” الحقيقية أنه كان يصدق نفسه ويصدقه الناس، ونزاهته الشخصية كرّست صورته في التاريخ، غير أنّ التناقض كان فادحًا بين اتساع المشروع وضيق النظام.
ذلك يستدعي المراجعة بأكبر قدر من الموضوعية حتى تستبين الحقائق أمام أجيال جديدة يُراد لها أن تُنكر تاريخها حين حاربت وانتصرت، أو تراجعت وهزمت، دون أن تُدرك وهذا حقها: كيف.. ولماذا؟.
لا توجد ثورة واحدة في التاريخ بلا أخطاء جسيمة ارتكبتها، ولا ثورة هدمت قديمًا متهالكًا، وأسّست لجديد يتطلبه عصره، جرت وقائعها في معامل كيمياء تتوافر لتفاعلاتها كل شروط الأمان.
كما لا توجد ثورات عابرة للعقود والقرون، وثورة يوليو بنت عصرها وتحدياته ومشروعها، كأي مشروع آخر، يجرى عليه التصحيح والتصويب بالنقد والإضافة، حتى يكتسب جدارته في الانتساب إلى المستقبل.
إرث الثورات لا يُدفن في مقابر الصدقة، فهو موضوع مراجعة تجارب وتراكم خبرة، وتأكيد على القيم السياسية التي رسختها، والأحلام التي أطلقتها حتى يُبنى عليها دون الوقوع في الأخطاء التي أودت بها.
ذات مرة قال الزعيم الصيني ماو تسي تونج: “إننا نحترم تاريخ الآخرين الذين دفعوا ثمنه دمًا وعرقًا، ولكننا نحترم أكثر تاريخنا الذي دفعنا نحن ثمنه من دمنا وعرقنا”.
لم يأتِ “عبدالناصر” إلى السلطة من خارج سياق الحركة الوطنية، ولا كانت أهدافه تتعدى مطالبها الرئيسية.
في اللحظة التي أمم فيها “الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية”، لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريح.
وفي اللحظة التي أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة “سنقاتل”، دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير في العالم الثالث.
عندما وُلدت زعامته في أتون حرب السويس مضى قدمًا في بلورة مشروعه العروبي والاجتماعي، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أي إلهام.
في سنوات يوليو أطلق أوسع عملية حراك اجتماعي نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها، كما تصدّر مشهد حركات التحرير الوطني في العالم العربي وأفريقيا ملهمًا العالم الثالث كله.
كان عهده هو عهد البناء الكبير.
قل ما شئت في نقد التجربة الناصرية، لكنك لا بد أن تعترف أنّ مصر لم تشهد في تاريخها كله منذ فجر الضمير عدالة اجتماعية تماثل ما جرى في عهده.
بحس تاريخي هتف ملايين المصريين في جنازته: “من بعدك هنشوف الذل”.. وقد كان.
صاغ تجربته في عصرها، أحلامه لاحقتها معاركه وجسارته صنعت زعامته.
لا يولد شيء من فراغ ولا تجربته وُلدت من عدم.
كانت القاهرة في عهده عاصمة العرب المركزية بتعبير الكاتب الصحفي اللبناني الراحل طلال سلمان.
وكانت في الوقت نفسه عاصمة تحرير القارة الأفريقية، أوسع عملية تحرير في التاريخ الإنساني كله.
برزت من حوله قيادات أفريقية تاريخية من حجم “نكروما” و”لومومبا” و”نيريري” و”سيكوتوري”، وهو ما دعا الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا أن يصف رجلًا لم يتسن له أن يراه بـ”زعيم زعماء أفريقيا”.
أسس مع الزعيم الهندي جواهر نهرو والزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو حركة “عدم الانحياز” لتجنّب الانصياع لإحدى القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي.
سأله “نهرو” ذات مرة: “لماذا تصف مصر يا سيادة الرئيس بأنها دولة نامية؟.. مصر دولة كبرى”.. فأجابه: “دولة كبرى بعالمها العربي”.
تلك العبارة تلخص رؤيته لمصر وأدوارها.
بقوة انتسابه للعروبة وفلسطين في قلبها، اكتسبت مصر أدوارها القيادية عن استحقاق.
وبقوة مشروعه اكتسب صفة “آخر العمالقة”، بتعبير الكاتب الأمريكي سيروس سالزبرجر.