٢٣ يوليو .. ثورة نموذجية
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن
في مثل هذه الأيام من عام ١٩٥٢ أطلت ثورة يوليو على مصر و كانت اطلالتها ميمونة مباركة و كانت طلعتها بهية مشرقة و مُبَشِّرَةً بخير كثير. كانت الثورة تعيش في وجدان الملايين من الشعب المصري من سنين طويلة فقد كانت أملاً يعيشونه في يقظتهم و يحلمون به في منامهم كما كانت رجاءً تنشده نفوسهم من عشرات السنين. كانت مصر تئن تحت نير الاحتلال البريطاني البغيض و تتألم لكثرة ما استفحل فيها الفساد السياسي و تكاد تصرخ بضرورة الثورة. في الأشهر التي سبقت انطلاقة الثورة كانت مسامع الشعب المصري قد تعودت على وتيرة أخبار الصباح: وَزارات تتشكل ثم تسقط و معاهدات تُبْرَم ثم تُلغى و تعديلات حكومية و مرسومات ملكية لا حصر لها. كان الجو السياسي مكفهراً و مريباً و الشعب متبرماً ضجراً من كثرة الكلام و الوعود و قلة الفعل و الحيلة كمن يسمع طحناً و لا يرى طحيناً. في ذلك الصباح من ذلك اليوم المجيد من يوليو استيقظ الشعب على بيان مختصر من الجيش يتحدث عن ”حالة عدم الاستقرار التي كانت تمر بها البلاد و عن نية الجيش لتطهير صفوفه من الرشوة و الفساد“. كان بياناً مختصراً مقتضباً و لم يدرك أبعادَه أكثر الناس، لكن تكرار إذاعته في ذلك اليوم خلق جواً من الإثارة و الترقب فاستبشر الناس خيراً على أي حال. كانت الصورة و كأن الجيش لديه مفاجأة سارة للشعب من غير أن يفصح عن مضمونها، كالمحب يقدم لحبيبته هدية مغلفة لإثارة الفضول، و ما أن نُزِعَت عن الهدية أربطتها و أُزيلت أغلفتها حتى تجلت الثورة بمحاسنها و اتضحت معالمها و تبين أن مواصفاتها كانت مطابقة لما أراده الشعب و تمناه. فلا عجب أنه سرعان ما تبوأت الثورة مكانتها في قلوب الشعب المصري و سرعان ما انخرطت في حياته بسلاسة و ليونة و بلا صخب و لا ضجيج و لا عجيج.
البيان الذي صدر لم يتكلم عن انقلاب و لا تغيير نظام الحكم فقد بقي الَملكُ مَلِكاً و عاد أحد رجاله ليشكل وزارة جديدة. و لم يذكر شيئاً عن الثورة لكنه وَعدَ أن يضع حداً لحالة الفساد و عدم الاستقرار. استمع الناس إلى البيان ثم انصرفوا إلى شؤونهم و أعمالهم و مكاتبهم. لم يُحظر التجول و لم يُتَّهم أحد بالخيانة العظمى و لم يُحاكم أحد و لم تُنصب المشانق لأحد و لم يُطلَق الرصاص على أحد. لم تتضح ”ثورية“ حركة الجيش، كما أُطلق عليها حينئذ، إلا بعد أسابيع عندما أصبح واضحاً أن شمس عهد جديد قد أشرقت و أضاءت بنورها أرض الكنانة و مهدت لعهد لا وجود فيه لاحتلال و لا إقطاع، و لا سادة و لا عبيد بل مواطنون متساوون كأسنان المشط. لم يلمس الشعب في ”حركة الجيش“ غلظة و لا شِدَّة بل أريحية و مروءة فأقبل عليها معانقاً و التف حولها مشجعاً و ازداد حبه لها مع تحقيق كل هدف من أهدافها التي شرعت في انجازها.
كانت ثورة يوليو سِلْمية و بيضاء كما أرادها قائدها و تلك ميزة تحمد فيها و حسنة في ميزانها و مفخرة تُعَلَّق كالنيشان على صدرها. سِلْمية الثورة لم تأت عفواً و لا مصادفة و لا كانت نتيجة تخطيط يوم أو يومين بل نتيجة سنين من الإعداد و التحضير في ذهن عبد الناصر حتى إذا أَزِفَ الوقت و حان الأجل و لاءمت الظروف وُضِعَت النقاط على الحروف و تشكلت خطة التنفيذ النهائية. يزعم البعض أن الثورة كانت سلمية لأن الملك اختار أن لا يقاوم و هو زعم كاذب لأن الملك كان قد قرر فعلاً القتال و طلب من قادته الاجتماع في مقر القيادة للانقضاض على الثورة و إخمادها و لكن كان عبد الناصر أغذ للخطى و أكثر براعة و مهارة ”فالتهم رجالهُ الملكَ على الغداء قبل أن يلتمهم هو على العشاء“ حسب تعبير الملك شخصياً.
غادر الملك معززاً مكرماً لكن بقيت الملكية ممثلة بمجلس الوصاية الذي لم يحس بروح الثورة و لا استنبط طبيعة العهد الجديد الذي عمت ضياؤه البلاد مما جعل إلغاء الملكية ضرورة حتمية بعد عام . و يجدر التذكير هنا أنه حتى بعد خروج فاروق و بعد إلغاء الملكية بقي بعض أفراد العائلة المالكة يعيشون في مصر و يتمتعون بكامل حريتهم و حقوقهم كمواطنين مصريين و يتقاضون معاشات مناسبة في حماية النظام الجمهوري.
قارن ذلك بالانقلاب العسكري الذي حدث في العراق سنة ١٩٥٨، عندما أُبيدت العائلة المالكة في العراق تماماً و سُحل أحد أفرادها، كما سُحِلَ آخرين، في الشوارع. و قارنه بالطريقة التي رافقت تولي صدام منصب رئاسة الجمهورية العراقية سنة ١٩٧٩ حين اقتيد العشرات من قادة حزب البعث العراقي، و أمام كاميرات التلفزيون، ليكون مصيرهم التعذيب و الإعدام فيما عرف بمجزرة الرفاق.
و قارنه بالثورة الفرنسية سنة ١٧٨٩، و التي تعتبر أم الثورات، لكن سرعان ما عمَّتْ فيها الفوضى و مهدت لسنين من الرعب و نمط جديد من الاستبداد. فقدت الثورة رؤيتها و حارت في اتجاهاتها و سيطر الفزع و الهلع على الناس و أُقيمت المقاصل و تدحرجت الرؤوس و قُتِل مئات الآلاف. لو أُتيح لفرنسا اليوم أن تعيد تاريخها و تختار ثورتها لاختارت أن تكون على نمط ثورة ٢٣ يوليو.
و قارنه أيضاً بالثورة البلشفية في روسيا سنة ١٩١٧، و بثورات شعوب أخرى اشتعلت قبل و بعد سنة ١٩٥٢، بما في ذلك ثورة ١٩١٩ في مصر و ثورات الربيع الغربي و كلها تسببت في دمار و خراب كثير و أنتجت أوضاعاً أسوأ من الأوضاع التي قامت لتصحيحها. الثورة حق مقدس لأي شعب مظلوم و مظهر من مظاهر الحمية و عزة النفس و ردة فعل مشروعة ضد البغي و الاستبداد. لكن الثورات الشعبية لا تأتي بتخطيط مسبق و لا تتبع استراتيجية محددة و لا يكون لها أهداف واضحة، بل تأتي نتيجة لغليان شعبي و غضب عارم و تنفجر كالبركان من غير زمام يمسكها و لا لجام يحجمها.
لم يكن السيطرة على السلطة هدفاً من أهداف الثورة، و عبد الناصر بالذات كان زاهداً فيها و راغباً عنها و راضياً بالجلوس في مقعد خلفي طالما أن البلاد تسير على مبادئ الثورة لكنه لم يتردد في الإمساك بزمام الأمور عندما تطلب الأمر ذلك. تعيين نجيب كقائد للثورة كان أمراً مرغوباً فيه في البداية بسبب رتبته و سِنّه لكنه لم يكن أمراً لا بد منه، فكما أثبتت الأحداث فيما بعد فقد كان عبد الناصر أشد همةً و أصلب عوداً و أمضى عزيمة … و باختصار كان أجدر بالقيادة.
يزعم بعضهم أن عبد الناصر ”ضحّى“ برفاقه و هو زعم كاذب، فقد كان الاتفاق من الأساس أن من يختلف مع الأغلبية عليه أن ينسحب بهدوء. و فعلاً انسحب بعض الرفاق بهدوء و أعطيت لهم كامل حقوقهم و عاشوا في مصر معززين مكرمين. نجيب و عامر لم ينسحبا بهدوء و أصبحا خطراً على البلاد و كان لا بد من تحديد إقامتهما. عاش نجيب عمراً طويلاً في قصر/ فيلا و كانت تستجاب طلباته الكثيرة و كان يُؤْذن له التواصل مع أقاربه و أصدقائه و المشاركة في مناسباتهم الاجتماعية.
و يقولون أن ”الثورات تأكل أبنائها“ و أن ثورة يوليو لم تكن استثناءً. إذا كانت هذه المقولة صحيحة فإن ثورة يوليو كانت بالقطع استثناء لأنها كانت رحيمة بأبنائها طيلة حياة عبد الناصر، و إن كان بعضهم انهال عليها فيما بعد بالخناجر. ليس من طبع علاقات الود و الوئام بين البشر أن تدوم للأبد فهي تصدأ و تتصدع مع الزمن و تنهار أمام المحن و الخطوب. إذا كانت الخلافات تقع بين الأخوة في الأسرة الواحدة فلماذا نستهجنها عندما تقع بين رجال السياسة و أعضاء الحكومة؟ و رغم ذلك فقد صانت ثورة يوليو نقائها و أبقت على سمعتها و حافظت على تماسكها أكثر من أنظمة الحكم الأخرى التي عاصرتها و استمر ذلك حتى رحيل قائدها. نستطيع أن نسوق أمثلة كثيرة على امتياز ثورة يوليو و رجحان كفتها في هذا المجال لكن يكفي أن نذكر أنه في عصر عبد الناصر و بينما كان الحال مستقراً في مصر كانت القصور السعودية تعيش في بيئة موبوءة بالخلافات و عدم الرضى إلى حد تشكيل حركة ”الأمراء الأحرار“ التي كان أعضاؤها خمسة من أبناء الملك عبد العزيز. كانت لأولئك الامراء اعتراضات جوهرية على نظام الحكم السعودي و هربوا ليعيشوا في منفاهم بين القاهرة و لبنان. و على مستوى أعلى كان النزاع مستعراً على العرش بين الملك سعود و أخيه ولي العهد فيصل. استمر الخلاف سنيناً وحُسم باستيلاء الأخير على عرش أخيه الذي عُزِلَ بطريقة مُهينة آوى بعدها إلى مصر ليعيش في حماية عبد الناصر. و نذكر أيضاً أنه في نفس الفترة تقريباً أذعن الشيخ زايد لأوامر الاحتلال البريطاني و انقلب ضد أخيه الشيخ شخبوط آل نهيان الذي لم يكن متعاوناً مع السلطات البريطانية.
كانت ثورة يوليو نموذجاً يحتذى للثورات، جرى التحضير لها بعناية فائقة و تم إنجازها بمهارة و إتقان و انطلقت تحقق أهدافها بعزيمة و إصرار و متوخية الحذر في تقدمها و الاتزان في خطاها و مسيرتها. كان لها إخفاقات و عثرات اعترفت بها و تعلمت منها، وإن كانت لم تصل للكمال فلأن الكمال ليس من خصال البشر، لكنها سعت نحوه راغبة صادقة كما لم يفعل أي نظام حكم آخر. ليس من السهل الطعن في ثورة حالها كذلك إلا عن طريق اختلاق الاحداث و تلفيق الأباطيل و تزييف الحقائق و الإسفاف في الكذب كما فعلت الحملة الظالمة التي انطلق نعيقها في سبعينيات القرن الماضي. ثورة يوليو تعتبر علامة فارقة في التاريخ و أعداؤها يدركون هذه الحقيقة و يمقتونها لأنه بوقفتهم ضدها إنما يقفون ضد التاريخ.
تاريخ ثورة يوليو تاريخ معاصر شاهدناه و عاصرناه و تفاعلنا معه، و الثورة قامت و سادت على مشهد من العالم بما فيه من أصدقاء و أعداء. أفكار جمال عبد الناصر و معتقداته السياسية و الاجتماعية لم تكن سراً على أحد و كانت معروفة للجميع. و كذلك كان كل ما صدر منه من أقوال و أحاديث و تعليمات و قرارات سواء كانت في جلسات أو اجتماعات أو خطابات، كل ذلك مسجل في محاضر و يمكن قراءته أو الاستماع إليه و مشاهدته. كل ذلك التاريخ كُتب عنه في حينه بإسهاب و نُشر في الصحف و المجلات و المجلدات و محفوظ في سجلات الدول المعنية و أرشيفات الصحافة العالمية. فمهما لفق الخَرَّاصون الحاقدون و مهما افتروا و مهما حاولوا تزوير التاريخ فإن أكاذيبهم لن تصمد أمام كل تلك الجبال من الحقائق.