7 أكتوبر.. مقاومة حقاً وليست انتحاراً
بقلم: أكرم السيسي*
لا شك أن أحداث “طوفان الأقصى” الواقعة يوم السابع من أكتوبر2023 تعتبر فارقة فى تاريخ القضية الفلسطينية، فقد وصلت هذه القضية قبل هذا التاريخ إلى حالة من اليأس التام، بل ربما لنسيان القضية وفنائها، هكذا كان أمل ومسعى العدو الصهيونى بعدم الوصول لأى حل فى القضية، وذلك بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا من توقيع اتفاقية أوسلو (1993) -أول اتفاقية رسمية مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية – التزم بموجبها الطرفان باعتراف كل منهما بالآخر، ونبذ العنف المتبادل، واللجوء إلى الخيار السلمى فى كل الأحوال.
كان شعور الجانب الإسرائيلي -الذى وصل إلى حد اليقين- أن القضية الفلسطينية كادت أو بالفعل ماتت ودُفنت للأبد، وذلك بدليل أن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ78 فى 23 من سبتمبر 2023، أى قبل أيام معدودات من طوفان الأقصى، تحدث عن الشرق الأوسط الجديد، وقام بعرض خريطة لا يوجد بها أى إشارة لدولة فلسطين – لا الضفة الغربية المحتلة ولا غزة – كما كتب بُعيد إلقاء خطابه تغريدة على حسابه على موقع إكس موجَّهة للشعب الإسرائيلى: “إن أعظم إنجاز فى حياتى هو أن أقاتل من أجلكم ومن أجل بلدنا” شابات شالوم (أى تحية ليوم السبت)، وتعنى مجازًا تحية لليهود!.
كان هذا الاطمئنان العميق لدى نتنياهو هو نفسه الذى شعر به كل من جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية ووزير دفاعها موشى ديان قبل 6 أكتوبر 1973، ودائمًا الغرور والتعالى يجعلهم لا يرون الحقيقة، ويكررون نفس الأخطاء، هذا ليس بالنسبة للإسرائيليين فقط، ولكن أيضًا لدى الولايات المتحدة والدول الغربية بأكملها فى التاريخين أو الحالتين، ولهذا جاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023 كزلزال مدمر تخطت قوته التسع درجات على مقياس ريختر – أقصى قوة للزلازل على الأرض الكروية- ونسوا حِكَم وتجارب التاريخ التى تُقِر بأن القوة فى الحق وليس بالسلاح ولا بالظلم!
* • •
هذا الزلزال المدوى أفقد العدو الصهيونى توازنه، فقد أحس القادة الإسرائيليون بالإهانة وبالذل والقهر لأن أجهزة استخباراتهم باعتبارها الأقوى – حسب اعتقادهم – لم تستطع التنبؤ بعملية الـ7 من أكتوبر، ولأن جيشهم المصنف من أقوى جيوش العالم لم يستطع أيضًا التصدى لمجموعة قليلة من رجال المقاومة الفلسطينية البواسل المدعمة بأسلحة بدائية يحملونها على أكتافهم وبأيديهم، وعلى دراجات نارية، ولكنهم تمكنوا من اجتياز حاجز إسرائيل، ومهاجمة 11 موقعا عسكريا، بالإضافة إلى إطلاق الصواريخ على الداخل الإسرائيلى، وقتلوا وأسروا المئات من الجنود الإسرائيليين المحتلين لأراضيهم التى أقاموا عليها المستوطنات غير الشرعية حسب القانون الدولى!
وعلى الفور، أعلنت إسرائيل الحرب على الشعب الفلسطينى بكل فصائله (حماس وغيرها)، واستدعت 300 ألف جندى احتياطى لتنفيذ العمليات العسكرية، واستنفرت كل جيشها، كما انضم إليهم كل قوى الغرب الداعمة لهم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأكبر الدول الأوروبية (إنجلترا وفرنسا وألمانيا)، وأرسلوا العتاد والبوارج الحربية إليهم، ولكن هذا الأمر فضح “ازدواجية المعايير” لدى هذه الدول بالمقارنة بما يحدث فى حرب روسيا/أوكرانيا، ثم تفاقم الأمر عندما وجدت شعوب العالم أن الاعتداءات الإسرائيلية قد جاوزت ما سُمِى بـ”الدفاع عن النفس”، وتحولت إلى “مجازر” و”إبادة جماعية”، فدمروا قطاع غزة بكل ما عليه من مستشفيات ومدارس وطرق، وتخطى عدد الشهداء 37 ألفًا، والمصابين أكثر من 80 ألفًا من الشعب الفلسطينى الذى يبحث عن حريته، واسترداد وطنه لأكثر من خمسة وسبعين عامًا دون أن تلتزم فيها إسرائيل بأى قرار دولى!
وعليه، يتساءل بعض الناس: هل ما قامت به حماس – نظرًا للخسائر الضخمة – يعتبر عملًا انتحاريًا غير محسوب العواقب،وسببًا فى المذابح التى وقعت على الشعب الفلسطينى؟ وللإجابة على هذا التساؤل نطرح سؤالًا آخر: هل هذه المذابح هى الأولى من نوعها التى تستهدف الشعب الفلسطينى من الجانب الإسرائيلى؟، بالطبع وبكل تلقائية وتأكيد “لا”، ليست الأولى ولنتكون الأخيرة، فالتاريخ يسجل أن إسرائيل من قبل نشأتها الأولى في 1948، ارتكبت تسع مجازر ضد الشعب الفلسطينى من1938 إلى 1947، حيث كان إرهابيو عصابتى “إتسل” و”ليحى” وغيرهما يلقون القنابل على سوق حيفا وقرية الشيخ بريك ومسجد القدس…، ومرورًا بمذبحة دير ياسين 1948، وحتى يومنا هذا وإلى الغد!
فى الحقيقة، هذه طبيعة الكيان الصهيونى العنيد والمتكبر والسادى الذى لا يهدأ إلا برؤية الدم، فضلًا عن أنه نرجسى لايقبل الشراكة مع أحد، ويرفض التفاوض مع أى من كان، لا يفهم إلا لغة القوة والعنف، الأمر الذى أوصل الجانب الفلسطينى إلى اللجوء إلى أعمال يمكن أن تحسب بأنها “انتحارية”، ولكنها في الحقيقة “دفاع عن النفس”، وتتوافق مع نظرية: لكلِّ فعلٍ ردُّ فعلٍ مساوٍ له فى المقدار ومضادٌّ له فى الاتجاه، كما أنها محاولات مشروعة لاسترداد حقوقه المغتصبة، واستعادة وطنه المسلوب وأراضيه المحتلة!
* • •
لعل النتائج العديدة التى تحققت من «طوفان الأقصى” تدلل على صحة النظرية السابقة، وأهمها:
* أن طوفان الأقصى جاء كاشفا عن رخاوة جيش الاحتلال، وأن دولة إسرائيل هشة كبيت العنكبوت، وأسقط مجددا أكذوبة “الجيش الذى لا يقهر”، وهذا ما حدث فى حرب 6 أكتوبر 1973، وأن إسرائيل لا تستطيع أن تحارب بمفردها، ولكنها دائمًا وأبدًا فى حاجة لكل دول العالم الغربى الاستعمارية، وخاصة الولايات المتحدة لحمايتها ومساعدتها، وهكذا فقدت هيبتها التى لن تعود!
* أن طوفان الأقصى زرع الخوف والرعب فى قلوب “المستوطنين” بغلاف غزة، وأوضحت هذه التجربة القاسية التى عاشوها عجز الكيان الإسرائيلى وجيشه عن حمايتهم، وبالتالى بدأت “الهجرة الإسرائيلية العكسية”، مما أفشل كل مساعي إسرائيل التى سعت طوال تاريخها لجذب يهود العالم للهجرة إليها باعتبارها دولة قوية وآمنة!
* أن الطوفان مزق تماما الصورة التى لطالما رسمتها إسرائيل لنفسها حول العالم باعتبارها دولة قوية لا تُهزم، ولا تنال منها أى قوة.
* أن صورة إسرائيل أمام العالم باعتبارها واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط انقلبت إلى النقيض، ووضحت صورتها الاستعمارية الحقيقية الكريهة لدى الشعوب الأوروبية والأمريكية، فعمَّت المظاهرات فى عواصمها، وفى مدنها، وفى شوارعها، وفى جامعاتها!
* أن لأول مرة تُدين محكمة العدل الدولية مسئولين إسرائيليين، فأصدرت حكمًا فى 24 من مايو 2024 تأمر فيه إسرائيل بوقف هجومها على رفح جنوبى قطاع غزة، فى إطار قضية أوسع تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، علمًا بأن الأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية التى تحكم في النزاعات بين الدول ملزمة قانونا، ولا يمكن الطعن عليها!
* أن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قدم طلبات فى 20 من مايو 2024 إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى قطاع غزة، وهذه سابقة!
* أن ثلاث دول أوروبية اعترفت رسميا بدولة فلسطين، وهم إسبانيا وأيرلندا والنرويج، علمًا بأن الأخيرة هى الدولة التى احتضنت المباحثات التى مهدت لتوقيع اتفاقية أوسلو، وأخيرًا وليس آخرًا اعترف البرلمان فى سلوفينيا بدولة فلسطين بإجماع الأصوات فى الرابع من يونيه 2024، وبهذا أوجد الطوفان انقسامًا فى الاتحاد الأوروبى!
* • •
فى الحقيقة هذه النتائج غير مسبوقة، ولم تكن مُتخيلة، لا في المنظور القريب، ولا فى المنظور البعيد، فهى تعتبر إعجازا في تاريخ مسيرة الكفاح الفلسطينى!
ولهذا نستطيع أن نقول – بملء الفم – أن طوفان الأقصى فى الـ7 من أكتوبر 2023 كانت عملًا مُزلزلًا، فهو من صميم المقاومة المشروعة للشعوب ضد قوى الاستعمار، وضد الظلم والعدوان، مع الاعتراف بالخسائر الهائلة للشعب الفلسطينى ماديًا وبشريًا، وكما يقول المثل الشعبى المصرى: “الحديد لا يفله إلا الحديد”، وفى المثل الشامى الشائع: “ما بجيب الرطل إلا الرطل ونص”!
إنها حقًا مقاومة وليست انتحارًا مجانيًا!
*أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر