لم تمت هبة وإن لم تُكمل حكايتها
بقلم: صفاء أبو خضرة | الأردن
منذُ يومين وأنا أقرأ رواية الشهيدة الغزاوية هبة أو ندى (الأكسجين ليس للموتى)، هذه الشابة التي لم أقرأ عنها أو لها من قبل رغم نهمي وشغفي بالكتب وملاحقتها من حيث لا تحتسب. وسألتُ نفسي، ماذا لو كانت هبة حيّة، هل سيكون لوقعِ كلماتها عليّ الإحساس ذاته؟ بذلك الألم الذي يلتهمُ مخيّلتي كنارٍ تحرقُني كلّي… كأنني قشّة سقطت عليها شعلةٌ مجهولة فأضرمت فيّ أسئلة كثيرة ما هي إلا مخاضٌ عسيرٌ لا أعرف موعداً لولادته…
وكم شعرتُ بأشياء لا أدركها حتى اللحظة…!
مشاعر لزجة وفضفاضة وقاسية في آن…
ثمة عصيانٌ داخلي… حواسي… كل ما فيّ انشقّ عنّي… حدّقتْ فيّ ندى بكلماتها المُشبعة بالشعر، كان صوتُها عالياً، حروفُها ثائرة وغائرة في لحمِ الخيبات العربية والهمّ العربي والربيع الذي لم يجلب سوى الدمار والقتل…
هذه الرواية عبارة عن نفق مليء بالمتاهات عليكَ أن تُحكمَ تركيزك وحواسكَ جيداً لتبحث فيه عن نقطة ضوء تصلك بطريق الخروج… ستصل، لكنّ طرقها متعرّجة ومؤلمة وجارحة… ستصل، لكنّ بقلبٍ مفطور ومهزوم وبذاكرة مأزومة… ستصل، لكن بقلبٍ معطوبٍ لم يأخُذ ثأرهُ من الظلم والزيف والدجل… ستصل إلى طرق مؤجلة لتحمل سيفاً يقطعُ رأس الظلم… هناك في البعيد.
صوّرت هبه في هذا العمل الأنظمة بسطوتها وغطرستها على الشعوب التي لم تطالب سوى بعيش كريم وحر ويريد أبسط حقوقه الإنسانية، بعنجهيتهم وأنانيتهم وجشعهم السلطوي لأخذ المكاسب لهم وحدهم كأنهم سيعيشون للأبد، يدوسون كلّ صوتٍ حرّ وثائر، بتجويعه وحرمانه من حقوقه وزجه في اتهامات باطلة في سجون ظالمة وبطش لا حدود له، لكنّ دائماً ثمة ضوءاً، وثمة أصواتاً تعلو فوق الظلم حتى لو كان الثمن غالياً… حتى لو كان حياة بأكملها… تفاصيل كثيرة تزجّنا بها الكاتبة مع شخصية آدم… ضابط المخابرات؛ ابن وزير الداخلية الذي نكتشف معه قصة والده الوزير الذي كان ضابطاً أيضاً من المفترض أن يحمي أهل القرية من البطش فنتعثر بقصة مؤلمة جداً لن أحكيها هنا حتى لا أفسد عليكم الدهشة والعبرة، فيخرج من نفق القصة هذه شخصيات أخرى لا تخطر على البال تمثلت بقيس ونور وعزيز وجميع الأبطال مرتبطين بعضهم ببعض بخيوط رفيعة جداَ ودقيقة تخلق لدى القارئ- وإن كانت حزينة- تلك المتعة التي تجذبهُ لإكمال القراءة دون إفلات سطر واحد.
ستقرأ “الأكسجين ليس للموتى”، وتصرخ مع عزيز عندما أخذوا منهُ حبيبته فثارت على سلطة والدها وانتحرت بالسم، ستبكي مع نور عند قبر أمهِ الغزالة التي ماتت بطلقة متفجرة في البطن، عندما كانت حاملاً به، وماتت مظلومة ومقهورة؛ لأنها كانت أضحية لنجدة القرية، ستكلّم نفسك مع آدم مدّعياً أنّ مجهولاً يتصل به ويعرف كلّ تفاصيله، ستبصق على وجه الظلم في مرآة وزير الداخلية الذي فقأ عينيْ قيس بدلاً من عينه التي انطفأت برصاصة من مسدسه الثائر، ستتقوقع على نفسك معه في كبسولة تمّ حبسهُ فيها طيلة خمسة وعشرين عاماً مفقوء العينين… ستهرب مع مايا خارج البلاد؛ لأنّ البلاد في نظرها تشرب دمَ أبنائها، ستموت مع أم آدم التي كانت نقيض زوجها… امرأة حرة وثائرة… وحكيمة… ستموت مع عزيز… ستنغرز في ظهرك تلك الطلقة التي قصدت صوتهُ الثائر.
كل ما أستطيع قوله: ليت هبة تسمعني لأقول لها شكراً على هذا العمل، شكراً على اللغة العالية والوارفة مثل شجرة مثمرة طيلة الوقت، خضراء يانعة، لغة لها من الأرائك مهجع الجمال والإبداع، لها بقدر عذوبتها لها سوط سليط يجلدُ الباطل ويظهر الحق بصوتٍ قاسٍ ثائر، ولا يعلوه أيّ صوت.
كنتُ أقرأ وأفكر كيف استطاعت هبة أن تموت قبل أن تكمل الحكاية…!