على قدر أهل العزم تأتي العزائم
بقلم: حسين خيري*
من رحم الألم يولد التحدي، وإنه لفوز عظيم لمن يذوقه، وأشخاص حرمت نفسها من لذته، وخارت قواها بسرعة، وامتنعت عن محاولة الوقوف مرة ثانية للتغلب على الألم، فقد نلتمس العذر لقلة منهم أقعدها الألم وشل حركتها، لكننا عهدنا عن أصحاب العزيمة عدم استسلامهم بسهولة للألم، وأنهم يبدرون البذور ليحصد ثمارها الأجيال.
العظماء على مدار التاريخ حملوا السحاب إلى الأرض البور، برغم أن الألم أوجع الكثير منهم، وتوماس أديسون صاحب الألف اختراع، عانى من مشاكل في الحفظ والتركيز وفي السمع عند سن مبكرة، وقهرها، وكانت لاختراعاته فضل كبير على البشرية.
ناهيك عن مشقة وفقدان بصر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ويذكر التاريخ الحديث معجزة الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي، الذي أصابه مرض التيفود منذ صغره وأفقده سمعه، مما حجبه عن مواصلة التعليم النظامي، وحصل فقط على الشهادة الابتدائية، ولم يصبه الإحباط، وعكف على القراءة والتعلم مستخدمًا إمكانياته الذاتية، وتحتوي المكتبة العربية على العديد من المؤلفات الأدبية المهمة، وأشهرها حديث القمر وديوان النظرات ووحي القلم، وكتب النشيد الوطني لتونس المعروف بحماة الحمى.
وعند العودة إلى ما قبل ألف عام نرصد روادًا تحملوا عبء توصيل رسالة الإسلام وترسيخها في النفوس، ولم تمنعهم الإعاقة عن المضي في مسيرتهم الشاقة، فكان معاذ بن جبل أعرج، وعبدالله بن أم مكتوم ضريرًا.. وغيرهما من الأعلام، شهد الله ورسوله على صلابة همتهم، وأثبتوا أن ضعف الهمة نتاج إعاقة نفسية وفكرية.
ورب العزة أبتلي الرسل وكثير من عباده الصالحين ابتلاءً شديدًا، يخرج أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم من النار سالمًا، ليتحدى النمرود ويناظره، ويلقي الشيطان الروع في نفس إبراهيم، حتى يثنيه عن إتمام ذبح ابنه، ويرجمه سيدنا إبراهيم بالحجارة، ثم يواصل هو وابنه عملية بناء الكعبة المشرفة في ظل ظروف قاحلة، واليوم يأتي حصاد ثمار دعوته، ويهوي إليها ملايين أفئدة المسلمين، ولم يفزع قطز من ذبح الآلاف على أيدي المغول والتتار، ويصر على محاربتهم، وينتصر عليهم في موقعة عين جالوت، وكانت الدولة في أضعف حالاتها، بعد انهيار الأسرة الأيوبية.
ورجال أعمال حول العالم نشأوا وسط أسرة فقيرة، استطاعوا الإصرار على تحديد مسار مختلف، ووضعوا خطتهم للصعود، وحلوا قيود الفشل، وصرفوا آذانهم عن أصوات اليأس، ودولا نهجت نفس نهج هؤلاء الأفراد، وارتقت سلم المجد، وطوعت مشاكلها البيئية وكوارثها الطبيعية لخدمة مشروعاتها، وجلسوا بجوار الدول الصناعية الكبرى، واليابان أصدق مثال على ذلك، وهي عبارة عن مجموعة جزر، الزلازل لا تسكت عن ضربها، لكن أبناءها أعادوا بناءها من جديد على أسس علمية، واستغلت حكوماتها الطاقة البشرية لشعبها في نهضتها والحفاظ عليها.
والمتنبي من عدة قرون نشد لأهل العزم وعظم شأنهم في بيته الشعري الشهير:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
والعزيمة كالطفل تنمو ويشتد عودها كلما تجاوز صاحبها المحن والأحزان، وحولها إلى وقود ينبض بالحياة والأمل.
*كاتب مصري