بحكم عبقرية مكانها وزمانها.. مصر تخون نفسها حين تلغي دورها وتكبح جماح ارادتها
بقلم : فهــد الريمــاوي
سواءً شاءت او أبت.. رضيت او رفضت.. اقتنعت او امتنعت.. ارادت او لم ترد، ليس من حق مصر العريقة والضاربة في التاريخ ان تخذل نفسها، وتخسف وزنها، وتشطب دورها، وتُبخّس اقتدارها، وترهن قرارها وخيارها، وتُنكر صفتها العبقرية الخالدة مكاناً وزماناً، وفق ما سبق للمفكر المصري النابغة جمال حمدان ان صنّفها في كتابه الشهير “شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان”.
ليس من حق حكام مصر “الطارئين” ان يجوروا عليها، ويشلّوا ارادتها، ويفرّطوا في سيادتها، ويتنازلوا عن مياه نيلها وتراب أرضها، ويجوّعوا شعبها وينغّصوا حياته ويصادروا حرياته، ويُزهقوا روحها القيادية التي طالما تمثلت في قيادتها لأمتها العربية، ورعايتها لقارتها الافريقية، وخدمتها لعقيدتها الإسلامية.. فمنذ ان وجِدت مصر في قديم الزمان، شكّلت “الوسط الذهبي” في التكوين العربي من المحيط الى الخليج، و”حجر الزاوية” بين قارتي آسيا وإفريقيا، و”همزة الوصل” بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي.
لو لم تكن مصر جديرة بالوجود والديمومة لما صمدت سبعة آلاف سنة حتى الآن، ولما عبرت كل هذه القرون والدهور بجدارة واقتدار، ولما بقيت حاضرة وماثلة للعيان وشاهدة على هذا العصر، رغم تعدد الأنظمة والعهود التي تقلبت عليها.. في حين دال الكثير من الدول، وزال العديد من الممالك والكيانات والامبراطوريات التي عاصرتها وتزامنت مع مسيرتها.
قَدَرُ مصر ان تكون قائدة في أمتها، وقادرة على قهر أعدائها.. فكل الانتصارات العربية والاسلامية التاريخية الحاسمة والقاطعة نهضت بها مصر، وحملت لواءها المضرج بأغلى الدماء.. بدءاً من انتصارات صلاح الدين على الصليبيين، ومروراً بانهزام التتار أمام جحافل السلطان قطز، ثم زلزلة الإمبراطورية العثمانية على يد محمد علي، وليس انتهاءً بجيش العبور الذي اعده عبد الناصر للثأر والنصر في حرب أكتوبر عام ١٩٧٣.
وعليه.. مصر ابنة نفسها وسليلة تاريخها، وحافظة درسها ومالكة دورها.. فعلى مدى عمرها المديد غزت وغُزيت.. انتصرت وانهزمت.. قويت ووهنت.. تمددت خارج حدودها وانكمشت في نطاق عزلتها، وقد كان السبب في كل هذه التقلبات والتغيرات عائداً بالدرجة الأساس – ولا يزال – الى كفاءة او رداءة حكامها وأولياء أمرها، فحيث كانوا كباراً واحراراً وعظماء ومن سوية عالية قويت مصر وازدهرت وانتصرت، وحيث كانوا صغاراً وجهلاء وعملاء هزلت مصر وخضعت وانغلبت وانكسرت شوكتها، شأن الحاصل هذا الأوان في عهد الجالسين على سدة الرئاسة بقصر الاتحادية.
ما يجري في مصر بالوقت الراهن أغرب من الخيال، وأبعد ما يكون عن التصديق، وأقرب ما يكون الى العبث والا معقول.. فمصر تعمل الآن من خارج قانونها الطبيعي وناموسها الخالد ودورها الطليعي والريادي المعهود.. وهي تصدع بالكامل لأوامر بايدن وتخضع لعنجهيات نتنياهو.. وهي تُقعي داخل سجن رهيب مدجج بالتسلط والقمع، وفقاً لسياسات دخيلة وهزيلة قوامها “التثبيط والتفريط”.. تثبيط الهمم والعزائم والمشاعر الشعبية الفائرة، ومن بعدها التفريط بالحرية والمسؤولية الوطنية والرسالة القومية والمكانة الرفيعة التي تضعها على قدم المساواة مع افضل الدول.
والله ان الجاري في مصر محض تخريب وافساد واستبداد ممنهج على الصعيدين الداخلي والخارجي.. فهي مأزومة داخلياً حد العجز عن توفير رغيف الخبز للسواد الأعظم من شعبها.. وهي مهزومة خارجياً حد الفشل التام في حماية معبر رفح، حتى ولو طبقاً لبنود معاهدة كامب ديفيد الملعونة.. وهي بائسة ومفلسة وفاقدة للوزن النوعي في موازين المقارنة بين مواقفها المُخجلة ومواقف “الجوهرة السوداء” دولة جنوب افريقيا الباسلة.
نحار في فهم ذهنية القابضين على أعنه الحكم في أرض الكنانة، ونشعر بكل اسى وأسف انهم إما أغبياء وإما جبناء وإما عملاء وإما كل ذلك، ونجزم بيقين وثقة ان مئة مليون مصري لا يعجبهم هذا الحال المائل، ولا يرضيهم هذا الفيض من الاستخذاء والتفريط والتنازل، ولا يُلهيهم ويصرف اهتماماتهم عما يجري في غزة هذا العبء الثقيل من الهموم والانشغالات المعاشية.. ولا مشاحة ولا مجازفة في اعتقادنا ان صبر المصريين لن يطول، وان طاقة تحملهم لن تدوم، وان غداً – او بعد غدٍ – لناظره قريب !!