.. وماذا عن جنازة جمال عبد الناصر ؟؟
بقلم: أحمد عمرو/ نيويورك
• استمعتُ لِكلِمَةِ السيّدِ حسنِ نصْرِ اللهِ يومَ الخميسِ سابقِ أمسِ ، في تأبينِ الرّئيسِ إبراهيمَ رَئيسي وَ أصحابهِ ، رضوانُ اللهِ عليهِمْ .
وكانَ الشيخُ – كَدَأبِهِ – فائقَ الإبداعِ ، والوضوحِ ، والأمانةِ ، وَ كسبِ سامِعِيهِ إليهِ بِصِدْقِهِ ؛ فإنّهُ لا يقولُ إلّا حقّاً ، بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ ، إذا عثرَ مرّةً أو مرتينِ في الكلامِ كلّهِ * فما أعجلَ رُجُوعَهُ إلَىٰ الصوابِ ، كلمحٍ بالبصرِ ، و هَٰذَا – لعَمْرِي – لا يكونُ بالجهدِ والمثابرةِ والإلحاحِ ، إلّا أنْ يكونَ فوقَ ذلكَ توفيقٌ مِنَ اللهِ وَ هُدًىٰ وَ نُورٌ ( وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلىٰ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) .
والحَقُّ أنّي في سلاسلِ كلماتِ السيدِ حسنٍ ، لَمْ أجِدْ ما يؤاخَذُ بهِ في شيئٍ ، إلّا مرّةً بعيدَةً في حديثهِ عَنْ آيةِ الرومِ ( .. وَيَوْمَئذٍ يفرحُ المُؤمنونَ بنصرِ اللهِ ) وَ هذهِ المَرَّةُ الواحِدَةُ في كلامِهِ الآخِرِ هَٰذَا .
وَ يا لَيْتَ شِعْرِي ، كَيْفَ يعثَرُ المرءُ علىٰ أكثرَ مِنْ ذلكَ في كلامِ رجُلٍ ، كأنّما جعلَ اللهُ عَلَىٰ لسانِهِ ملَكاً ، يلقّنُهُ كَيْفَ يقولُ !
هذهِ المرّةَ ، سمعتُهُ يقولُ ، وَأينَ كانَ في العالمينَ جِنازَةٌ مثلُ جنازَةِ هؤلاءِ ( الخميني وسليماني وَ الَّذِينَ يُؤبَّنُونَ ) ؟
فَإنّا لا ندْرِي ، فربّما يكونُ السيدُ حسنٌ أُتِيَ منَ النسيانِ ، لِأنّ جِنازَةَ الرّئيسِ جمالِ عَبْدِ النّاصرِ ، يومَ الخَميسِ ، الأوّلِ مِنْ تشرينَ الأوّلِ سنةَ ١٩٧٠ م ، كانَتْ هيَ الكبرىٰ في تاريخِ الإنسانِ عَلَىٰ الأرضِ ، منذُ قالَ اللهُ لآدمَ وَ زَوجهِ ( اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً ) .
كانتْ جِنازَتُهُ في القاهرةِ تَعُدُّ ثمانيةَ ملايينَ نَسَمَةً ، وَ لَولا أن سَدَّ الجيشُ مداخلَ القاهرةِ لَغَشِيَها مِنْ ” بَحْرِ ” المُشَيِّعينَ ” نِيلٌ ” آخَرُ ، يقطَعُها نصفينِ شَمالاً وَ جَنُوباً .
حَتّىٰ إذا كانَ القَوْلُ عنِ المدائنِ الأُخَرِ ، والقرىٰ وَ النجوعِ في مِصْرَ ، كانَ الخبرُ بالجنائزِ في كلٍّ منها طاغياً عظيماً .
ذلكَ فضلاً عنِ الجنائزِ الرمزيّةِ لحبيبِ الملايينِ في طولِ البلادِ العربيةِ وَ عرضِها .
وَ مَنْ يَدْرِي ! فربّما يكونُ الفتىٰ حسنُ عَبْدِ الكريمِ نَصْرِ اللهِ ، ذو العشرَةِ الأعوامِ حِينَئذٍ مشىٰ في إحدىٰ هذهِ الجنائزِ في لبنانَ ، وَ سمعَ إرسالَ ” الأقواسِ ” في سماءِ لبنانَ ، وبكىٰ كَمَا بكَيْنا ، وَ الْتَدَمْنا ، وَ اتّشَحْنا بالسّوادِ ، وَ ظَنَنّا أنَّ السّماءَ سَتَقَعُ عَلَىٰ الأرْضِ .
يُشارُ علىٰ جانبِ هَٰذَا إلَىٰ أنّ مِصْرَ انفردتْ عنِ العالمينَ انٍفِراداً مُغايِراً ، تارَةً أُخْرَىٰ ، بجِنازَةِ الرّئيسِ أنورَ الساداتِ ؛ فإنّهُ شَيّعَهُ يومَ السّبتِ ( ١٠ / ١٠ / ١٩٨١ م ) ثلاثُمِئةُ نسَمَةٍ ! كانَ نصفُهُم يهوداً ، ونصفُهُمُ الآخَرُ سفراءَ وقناصلَ أجانبَ .. وَ كانَ المصريُّونَ كلُّهُمْ ( أجْمَعونَ أبصَعونَ أبْتَعونَ ) في أعمالهِمُ اليوميّةِ ، وَ في شغُلٍ شاغلٍ عنِ الساداتِ وَ جِنازَتِهِ ، وُ عَمَّنْ حيَّ وَ مَنْ ماتَ فيها ( عظيمةٌ يا مِصْرُ) !
هَٰذَا شيئٌ كتبتُهُ كارهاً ؛ فإنّي لَمْ أكُنْ أظُنُّ أنّ فلسطينيّاً ” معتّرْ متلِ حكايتي ” يفتحُ علىٰ بطلِ موفقٍ معتصِمٍ بحبلِ اللهِ ، مستمسِكٍ بالعروةِ الوثقىٰ ، ءاخِذٍ بِأزِمَّةِ القلوبِ في بلادِ العربِ والمسلمينَ ، كَمَا كَانَ عَبْدُ النّاصِرِ وَ زيادَةٌ ، كحسنِ نصرِ اللهِ ، وَ لكِنَّهُ الحَقُّ ، وَ الحَقُّ أحَقُّ أنْ يُتّبَعَ .
رَبَّنا اغْفِر لنا الزّللَ ، وَ تَقَبَّلْ ما تَرْضَىٰ مِنْ قولِنا والعمَلِ ، وَ احفظْ حَسَناً مِنْ بينِ يديْهِ وَ مَنْ خلفِهِ ، وَ ثَبِّتْهُ بالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ في الآخِرَةِ ، وَ اغْفِرْ لأمّهِ الَّتِي ماتتِ اليومَ ، وَ اجْزِها عَنِ المُسلِمينَ خَيْراً ، وَ اجْعَلْها في الّذِينَ يُساقُونَ إلىٰ الجَنَّةِ زُمَراً ( حَتَّىٰ إذا جَاءُوها وَفُتِحَتْ أبْوَابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيكُم طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خَٰلِدِينَ ) .
—————————————-
* قَصَّ علَيَّ صديقُنا عصامُ نورِ الدينِ أنّهُ شَهِدَ لِقاءً عامّاً ، تَكَلَّمَ فيهِ السَّيِّدُ حَسَنٌ ، فَلَمّا فرغَ ، جاءَ عِصاماً يَسْألُهُ إنْ كانَ ” غَلَّطَ ” في الكلامِ اللّيلةَ ؟ فَقَال لهُ : لا لَمْ يكُنْ شَيْئٌ مِنْ ذلكَ ، وَ لَوْ كَانَ ، فإنّا نَرُدُّ اللغَةَ إلَىٰ ما تقولُ ، وَ لا نَرُدُّكَ إليْها !
غَفَرَ اللهُ لِعصامٍ ، وَ تَقَبَّلَ عنْهُ أحْسَنَ مَا عَمِلَ ، وَ تَجَاوَزَ عنْهُ في أصْحابِ الجَنّةِ ( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) .