فخ يونيو المنصوب!
بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة
قبل الهزيمة العسكرية فى (5) يونيو (1967) تواترت إشارات ومعلومات أن مصر قد تتعرض لضربة عسكرية وشيكة تستهدف التخلص من «جمال عبدالناصر».
بدا الوصف الأمريكى لعملية يونيو دالًا على أهدافها: «اصطياد الديك الرومى»، الذى يتيه بقيادته لحركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث كله.
كانت خطة العدوان تبحث عن ذريعة.
بتقدير سياسى لم يكن صحيحًا وقعت مصر فى الفخ المنصوب.
هذه مسئولية «عبدالناصر» وحده.
لم تأخذ القيادات العسكرية الملتفة حول المشير «عبدالحكيم عامر» تحذيرات الرئيس على محمل الجد.
استند «عبدالناصر» فى تحذيره على رسالة شفاهية عاجلة نقلت إليه من الزعيم الفرنسى «شارل ديجول» عبر السفير المصرى فى باريس «عبدالمنعم النجار».. أن مصر سوف تتعرض يوم (5) يونيو لضربة عسكرية كبيرة.
كان الاستخفاف مروعًا فى مركز القيادة العسكرية.. «هوه يعنى من أولياء الله الصالحين حتى يعرف موعد الحرب، وأنه الاثنين بالذات!».
بعد سبعة وخمسين عامًا على (5) يونيو لم يعد محتملًا تمديد حجب وثائقها الكاملة: ما الذى حدث بالضبط؟.. وأين كانت مواضع المسئولية؟
نشر الوثائق مسألة ذاكرة وطنية ينبغى صيانتها حتى لا تتكرر أخطاء الماضى.
اتساع النظرة على القصة بكامل جوانبها يساعد على بناء ذاكرة صلبة لا تسمح لثقافة الهزيمة أن تكون مكونًا فيها.
الصورة الكاملة تضرب ركائز ثقافة الهزيمة، فقد نهضت مصر من جديد وأعادت بناء القوات المسلحة على أسس احترافية بإشراف كامل من «عبدالناصر».
خاضت مصر حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر» دون أن تصل ثمار التضحيات إلى أصحابها الحقيقيين الذين عبروا الجسور.
فى (1967) لم تنكسر إرادتنا السياسية.
هذه حقيقة لا ينبغى التجهيل بها.
الهزيمة الحقيقية جرت بإهدار ثمار النصر العسكرى فى (1973) بإدارة سياسية أفضت إلى تهميش أدوار مصر وأوزانها فى محيطها وعالمها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
بتعبير نقيب الصحفيين الراحل كامل زهيرى: «عبدالناصر أكبر من الهزيمة والسادات أصغر من النصر».
لماذا لا تنشر، شأن كل دول العالم التى تحترم حق شعوبها فى الاطلاع على حقائق تاريخها، وثائق حربى «يونيو» و«أكتوبر»، حتى يمكن للأجيال الجديدة أن تطل عليها من مصادرها الأصلية؟
لماذا لا ينشر على وجه الخصوص تقرير المؤرخ العسكرى المعتمد اللواء «حسن البدرى»، بعد تحقيق وتمحيص فى أوضاع الجيش ومسئولية قياداته، الذى استخدم كمرجع رئيسى فى إعادة بنائه؟
وفق القدر المتاح من المعلومات الموثقة فقد أكدت لجنة تحقيق عسكرية ترأسها الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الجديد: «فى الساعة ١٢٠٠ مساء ٢٩ مايو حضر الرئيس جمال عبدالناصر اجتماعًا فى مقر القيادة العليا وقدر رئيس الجمهورية احتمالات بدء إسرائيل للحرب بنسبة ٨٠٪».. «فى اجتماع تالٍ رفع نسبة احتمالات الحرب إلى ٩٠٪».
مساء ٢ يونيو أكد ضرورة الاستعداد لتلقى الضربة الجوية الأولى خلال يومين.
اقترح الفريق أول صدقى محمود، قائد سلاح الطيران ضربة مصرية أولى، غير أن الحال التى كان عليها السلاح دعت إلى استبعاده، كما كان من المرجح فى هذه الحالة أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريا بحجة حماية إسرائيل من العدوان عليها.
لم يكن «عبدالناصر» على دراية حقيقية بما يجرى داخل القوات المسلحة.
هذه حقيقة ثابتة دفعت مصر ثمنها غاليًا.
عندما توافرت الذريعة بدت النتائج محتمة.
كانت الذريعة، التى سوغت العدوان، إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة البحرية الإسرائيلية.
طلبت مصر إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين طابا ورفح، غير أن السكرتير العام المساعد «رالف بانش»، أمريكى الجنسية، كان رأيه أنه لا مجال للانسحاب من جزء والبقاء فى آخر، كأنه إحكام للفخ المنصوب.
أغلق خليج العقبة «تمسكًا بحق السيادة ونزولًا على مقتضيات الحرب».
وهذه مسئولية سياسية أخرى لم يجر التحسب فى لحظته لعواقبه وأخطاره.
تحركت قوات إسرائيلية من الشمال إلى الجنوب، حيث الجبهة المصرية، وبدا الوقوع فى الفخ نهائيًا والعدوان مؤكدًا.
فى الساعة الثامنة من صباح الإثنين (٥) يونيو بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية بغارات طيران مكثفة فى سيناء والداخل قوضت سلاح الجو المصرى، وباتت الأجواء تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.
تحددت نتائج الحرب عند الساعة الحادية عشرة والنصف.
كان الأداء العسكرى فى مركز القيادة مزريًا، والقائد العام عاجزًا عن الاضطلاع بمهامه.
لم يكن أغلب هؤلاء القادة صالحين لتولى مهامهم.
فى حرب «الاستنزاف» أُسندت المهام وفق معايير الكفاءة وحدها.
بلحظة الهزيمة كان من رأى «عبدالناصر» أن النظام الذى يفشل فى صيانة التراب الوطنى لا يحق له البقاء.
تقوضت شرعيته وسقط نظامه، غير أنه تبدت فى تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو شرعية مستأنفة رفضت تنحيه وفوّضته الحكم من جديد لإزالة آثار العدوان.
لم يسبق لأمة مهزومة ومجروحة فى كبريائها الوطنى أن راهنت على قائدها المهزوم، باعتباره أملها فى رد اعتبارها وتحرير أراضيها التى احتلت.
بأى قياس تاريخى فإنه حدث استثنائى.
المفاجأة أخذت «عبدالناصر» نفسه، الذى كان يتصور أن تُنصب له المشانق فى ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة وتطالبه بالبقاء.
لا تضاهى تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو سوى جنازته بعد ثلاث سنوات.
كانت تلك شهادة على قوة مشروعه وعمق الثقة فيه، التى أثبتت بالأدوار التى لعبها صحة رهانها عليه.
هناك من يطلب الآن تثبيت الصورة على ما جرى فى (5) يونيو، كأنها فخ منصوب للإرادة الوطنية يشكك فى كل قدرة على النصر الممكن، كما ثبت فى (6) أكتوبر (1973) على الجبهتين المصرية والسورية و(7) أكتوبر (2023) على الجبهة الفلسطينية.