من وحي معجـزة “طوفـان الأقصى”.. حـوارٌ لا بدّ منه بين الكاتبِ والمُحارب
بقلم : فهــد الريمــاوي
بعدما انداح “طوفان الأقصى” ليَعُمّ العالم ويملأ الدنيا ويشغل الناس، آن للكتابة الصحفية ان تجدد نفسها، وتثوّر مفرداتها، وتطور اساليبها، وتعبر بمنتهى الحماس والإخلاص عن مُخرجات هذا الحدث التاريخي العظيم، الذي سيكون له ما بعده من عواقب وحصائل وتأثيرات حاسمة على غير صعيد فلسطيني وعربي واقليمي ودولي.
آن للكتابة ان تواكب هذا الفتح العظيم والزلزال الذي حرّك كل أحرار الدنيا.. فتتقدم من القارئ بأوراق اعتماد جديدة، وبمنطلقات نهضوية متفائلة ومفعمة بالأمل، وبأفكار سياسية خلّاقة تليق بهذا الزلزال وتؤسس لما بعده من مستجدات كمية ونوعية طارئة، وبصياغات إبداعية شامخة تنبذ خطاب المهادنة والانهزام لحساب خطاب البأس والعنفوان، وتبتكر مُسمى “حروف العافية” لتحل بجدارة محل “حروف العلة”.. ذلك لأننا دخلنا والعدو الصهيوني مرحلة الجزم والحزم وكسر العظم وتخليص الأرواح.. فاما نحن أصحاب هذه الديار الأصلاء، او هم الغرباء الطارئون على هذا الشرق.
أروع وأنفع المداخلات والتفاعلات والحوارات ما يجري بين الكاتب والمحارب.. بين القلم والبندقية.. بين الكلمة والطلقة، فمن جدل هذه الأطراف تتحقق التعبئة الروحية والتربية الوطنية، وتنبثق القوة الفاعلة والحكمة العاقلة معاً، وتنطلق مُحركات نهوض الامم واستقلالها، وتندفع مُحفزات اقتدارها على تقرير مصيرها بمحض حريتها واختيارها.. فليس بعد “طوفان الأقصى” من مبرر لأي قطيعة او خلاف بين المثقف الملتزم بوهج ضميره، وبين المقاتل الحامل روحه على راحته.
ثم نقول: اشتدي أزمة تنفرجي، فلطالما تفتق العُسر عن اليُسر، والليل عن الفجر، والنضال الدامي عن النصر، والامتحان المُضني عن الفوز بأسمى المراتب وأعلى الدرجات وأغلى المكافآت والإنجازات، ذلك لان الشدائد تشحذ الهمم، وتفولذ الارادات، وتشكّل مدارس ثورية تُخرّج اعظم القيادات .. فالتحديات غالباً ما تستدعي المقاومة وتستوجب المواجهات، وتستجرّ الردود الناجزة وما عَظُم من الاستجابات.
واحدة من أبرز أفضال ملحمة “طوفان الأقصى” البطولية وبركاتها، الكشف بكل جلاء عن وجهين متناقضين بشدة لواقع الحال العربي الراهن.. الوجه السلبي المتمثل في كل هذا السبات حد الممات وغياب العلامات الحيوية الذي يلفّ الحاكمين والمحكومين معاً، ويحشر الجمع العربي بأسره في حالة انعدام الوزن الاقليمي والعالمي.. والوجه الايجابي المتجسّد في صولات كتائب القسام وسرايا القدس الحافلة بالبطولات والعابرة للمعجزات، والمعبّرة بصدق عن جوهر الانسان العربي المدجج باستبسال تاريخي منذ زمن الفتوحات الاسلامية، والمؤهل للثورة والمنازلة ومواجهة الأعداء بمجرد ان يمتلك إرادته، وتتوفر له الفرص والظروف المناسبة.
على مدى التاريخ لم يخذل الانسان العربي أمته، ولم تفتر عند الشدائد همته، ولم يتقاعس عن التضحية والفداء في سبيل وطنه، ولم يتخل عن واجبه الديني والقومي مهما إحتدت المِحن وحمي وطيس الحروب والمنازلات.. غير ان مشكلة هذا الانسان تكمن حالياً في ابتلائه بأنظمة خائرة وخائنة فبركها الاستعمار البريطاني اولاً، وورثتها الامبريالية الأمريكية/ الصهيونية/ الماسونية في وقتنا الحاضر، وسخّرتها لترهيب شعوبها وتخريب أوطانها، وانتاج نُخب سياسية وعسكرية وثقافية على هيئتها البائسة.
لقد أثبت “طوفان الأقصى” ان أمريكا هي أم الخطايا والبلايا، وهي العدو الأول والرئيس لأحرار فلسطين والعرب والمسلمين.. بينما إسرائيل مجرد “كلب مسعور” محشور في “بيت عنكبوت” هش وطارئ ومؤقت مزروع في خارطة الشرق الأوسط.. فلولا الدعم العسكري السخي والغطاء السياسي والدبلوماسي من لدن اليانكي لهذه الإسرائيل، ولولا الاسناد السري والعلني لها من القادة العرب العملاء الصادعين بالأوامر الأمريكية، لما استطاعت الصمود أمام فرسان محور المقاومة لعدة أشهر، ولما تمكن رعاديد جيشها من مُقارفة كل هذا التدمير والإجرام في قطاع غزة المُرابط والمُصابر.
وليس من قبيل أحلام اليقظة او الكتابة بالتمني، القول بكامل اليقين وصادق الرأي والرؤية، ان ما بعد “طوفان الأقصى” سوف يختلف جذرياً عما قبله، فقد سقطت – معياراً واعتباراً – هالات القوة والهيبة عن العدو الصهيوني وعملائه من الحكام العرب، فيما إزدادت ثقة المواطن العربي بنفسه وأمته وهو يرى اخوانه في غزة يسطّرون الملاحم والبطولات، ويشكّلون أشرف قدوة واسوة و”قوة مثال” لكل أحرار الدنيا.. وليس من المُستبعَد ان تؤدي مفاعيل هذا الطوفان وتداعياته، على الصعيد العربي، الى ما يقارب تلك المفاجآت الداهمة التي أعقبت “نكبة عام ٤٨”، وأدت فيما أدت الى تفجير الاوضاع العربية التي كانت سائدة آنذاك، وهدم عروش أنظمة الخيانة والفساد التي تقاعست عن نصرة أهل فلسطين، واندلاع عاصفة هائلة من الاغتيالات والانقلابات والثورات، وفي مقدمتها ثورة ٢٣ يوليو المجيدة.
اما على الصعيد العالمي، فلن تكون أمريكا ذاتها بمنأى عن مفاعيل هذا الطوفان العاتي الذي دهمها في عقر دارها، ووضعها مباشرة أمام حقيقتها العنصرية الفاشية المجردة من كل معاني العدل والإنصاف والروح الإنسانية، حد تقويض مكانتها وتلطيخ سمعتها وتعكير صورتها في نظر العالم، بل وفي عيون النُخب والمحافل والمنظمات الواعية من شعبها، الذي رأينا طلائعه الشبابية والطلابية واليسارية، وشرائحه الواسعة من الأصول اللاتينية والأفريقية والعربية والإسلامية وحتى اليهودية ترفض مواقف إدارة بايدن المتصهينة الباغية، وترفع ملايين الرايات والكوفيات الفلسطينية في ميادين المظاهرات وساحات الجامعات، وتؤسس – طال الزمن او قَصُر – لتحولات نوعية تاريخية، تحققها الأجيال الصاعدة، في مجمل التوجهات الأمريكية المستقبلية.