ايران قادرة على تجاوز صدمة الفاجعة
بقلم: حسام عبد الكريم*
لا شك ان الصدمة كبيرة والمصاب جلل. وبعد ان تتجاوز الأمة الايرانية حالة الحزن والحداد من الطبيعي ان تشعر بنوع من القلق تجاه قادم الايام بعد ان فقدت رئيسها بتلك الصورة المفاجئة. فلم يكن السيد ابراهيم رئيسي رئيساً “عادياً” في ايران. مؤهلاته, خبراته, ومسيرة صعوده كانت تجعله بنظر الكثيرين المؤتمنَ على مستقبل واستمرارية نظام الجمهورية الاسلامية الذي أسسه الامام الخميني عام 1979. الكثيرون داخل ايران وخارجها كانوا يعتقدون ان السيد ابراهيم رئيسي هو المرشح الطبيعي والأبرز لخلافة مرشد الثورة وقائد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 عاماً. امتلك السيد ابراهيم رئيسي من العلم الشرعي ما يجعله مؤهلاً ليصبح فقيها ومرجعاً اسلامياً, كما ان تدرّجه في سلك القضاء في ايران الى ان وصل المنصب الاعلى في السلطة القضائية قبل ان يصل الى رئاسة الجمهورية عام 2021 تجعل منه اكثر جامعٍ لمواصفات وشروط قيادة البلد للمستقبل وضمان استمرار نهج ايران الذي اوصلها الى وضعية رياديّة كقوة مؤثرة في المنطقة بل وعلى المستوى العالمي. وخلال سنواته الثلاث في الرئاسة أظهر السيد رئيسي التزاماً راسخاً بالمبادئ التي قامت عليها الثورة الاسلامية في ايران وتجلى ذلك في دعمه لحركات المقاومة ضد العدو الصهيوني وصلابته في التعامل مع التحديات الخارجية التي تواجهها ايران وخصوصاً من طرف الولايات المتحدة التي ضغطت دون جدوى لاعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي الذي خرجت منه ايام ترامب.
لذلك كله كانت خسارة ايران فادحة بغياب شخص يمثل أحد عناصر الاطمئنان بشأن المستقبل. ورغم ذلك نحن نقول ان ايران قادرة على تجاوز الصدمة والمحنة. ليس كلاماً انشائياً بل نستند الى حقائق ومعطيات.
اولها : ان نظام الجمهورية الاسلامية الذي أسسه الامام الخميني يقوم على مؤسسات صارت راسخة الجذور بعد 45 عاماً من انتصار الثورة. مؤسسات تتكامل لتوفر شبكة أمان للنظام تحميه وتضمن استمراره. فمنذ اليوم الاول لتأسيسه سنة 1979 استند نظام الجمهورية الاسلامية الى شرعية الناس في المقام الاول. ومع أنّ ثورة شعبية ملايينية عارمة هي التي أتت به الى الحكم إلّا أن من اولى قرارات القائد الامام الخميني كان اجراء استفتاء شعبي على النظام الجديد الذي ستُحكمُ على اساسه ايران. وبالفعل فإنه لم يمضِ سوى شهرين على نجاح الثورة حتى كان الايرانيون يصوتون بإقبالٍ منقطع النظير على الدستور الجديد للنظام الجديد الذي كان يقوم على انقاض نظام الشاه. والانتخابات الشعبية هي الاساس في اختيار شاغل منصب رئيس الجمهورية وهي انتخابات حقيقية وليست شكلية وتشهد تنافساً صحياً بين شخصياتٍ وتيارات وقد اسفرت على مدار 45 عاماً عن وصول ثمانية رؤساء الى المنصب. ومنصب رئيس الجمهورية له أهمية فائقة في ايران على الرغم من وجود “الوليّ الفقيه” صاحب الصلاحيات الأعلى في النظام. فرئيس الجمهورية هو المسؤول عن ادارة البلد بالكامل من النواحي الاقتصادية والجهاز الحكومي وحتى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. ورغم أن المرشد يتولى وضع السياسات العامة للبلد والقيادة العليا للقوات المسلحة وتعيين رئيس السلطة القضائية, إلّا انه عادة لا يتدخل في عمل الرئيس والحكومة ويترك لهم الفرصة الكاملة لتنفيذ سياستهم وتطبيق قراراتهم ما دامت ضمن اطار دستور الجمهورية الاسلامية. وهذا يترك هامشاً كبيراً لرئيس الجمهورية ليقود البلد في الاتجاه الذي يراه صحيحا, داخلياً وخارجياً, وتنفيذ البرنامج الذي انتخب على اساسه. صحيح أن نظام الجمهورية الاسلامية يقوم على مبدأ “ولاية الفقيه”, إلّا ان الدستور الايراني ربط بشكلٍ ما بين “الوليّ الفقيه” وبين إرادة الناس وذلك من خلال آلية اختياره عبر “مجلس خبراء القيادة” الذي هو هيئة منتخبة من قبل الشعب تتكون من 88 فقيهاً وظيفتها اختيار مرشد الجمهورية الاسلامية في حال شغور المنصب بسبب الوفاة او العجز. أي أن “الوليّ الفقيه” يتم انتخابه من قبل مجلس هو بدوره منتخب مباشرة من قبل الشعب وهكذا فإن شرعيته ترجع في نهاية المطاف الى الناس وليس على اساس ثيوقراطي او وراثي. وهناك طبعاً مؤسسة مجلس الشورى , اي البرلمان, الذي يقوم بدور التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية.
والانتخابات غدت معلماً رئيسياً لنظام الجمهورية الاسلامية. وقد جرت حتى الان 44 انتخابات شعبية, ما بين رئاسية وبرلمانية وبلدية ومجلس خبراء , على مدى 45 عاما من عمر الثورة بمعدلٍ يكاد يصل الى مرةٍ بالسنة! واخيراً لا بد من الاشارة الى المؤسسة العسكرية , بشقيها الجيش وحرس الثورة, التي تدار بالتنسيق ما بين مؤسسة الوليّ الفقيه ووزارة الدفاع (الحكومة). والخلاصة ان هناك نوعاً من القيادة الجماعية في ايران وتكامل في الأدوار ما بين مؤسسات الجمهورية الاسلامية التي هي قادرة على التفاهم فيما بينها و معالجة الأزمات الكبرى بسلاسة في ظل الدستور الذي فصّل القوانين والآليات . وبالفعل لم يمضِ يوم على وفاة السيد رئيسي حتى اعلنت ايران ان الانتخابات الشعبية لاختيار رئيس جديد ستجري في 28 من الشهر المقبل, اي بعد حوالي خمسة اسابيع من الان.
ثانياً : التجربة التاريخية . مرّت ايران بظروف فظيعة نتيجة الارهاب الذي سلّطه اعداء الثورة , من بقايا نظام الشاه ومنظمة “مجاهدي خلق” و أجهزة مخابرات لدول معادية, على القيادات الرئيسية في الثورة الاسلامية من الدائرة المقربة للامام الخميني, وخصوصاً في السنوات الاولى التي تلت انتصار الثورة. في تلك الايام لم يكن نظام الجمهورية الاسلامية قد ثبت وترسّخ وايران كانت في حالة انتقالية ومضطربة, ومع ذلك نجح النظام الجديد في تجاوز أشد الأزمات وأصعبها. كان من ضمن ضحايا موجة الاغتيالات الاولى عام 1979، مرتضى مطهري، رئيس مجلس قيادة الثورة، ومحمد قرني، أول رئيس أركان بعد الثورة، وآية الله طباطبائي. ثمّ تبع ذلك اغتيال آية الله صدوقي، إمام جمعة يزد، وآية الله دستغيب، إمام جمعة شيراز، وآية الله مدني، إمام جمعة تبريز. وعلى مدار عامي 1980 و 1981، وسّعت منظمة “مجاهدي خلق” الارهابية دائرة استهدافاتها إلى أبعد مدى . وفي يوم 27 حزيران 1981، نفّذت محاولة اغتيال لآية الله علي خامنئي (المرشد الحالي)، الذي كان حينذاك يتولّى منصب ممثّل الإمام الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، بالإضافة إلى كونه إمام جمعة طهران. زرعت “مجاهدي خلق” قنبلة في المنبر وفجّرتها، في الوقت الذي كان يُلقي فيه السيد علي خامنئي خطبته في مسجد أبي ذر في طهران. نُقل آية الله خامنئي إلى المستشفى، وهو في حالة الخطر الشديد، بعدما تعرّض لإصابات بالغة، ولكنّه نجا من الموت. وفي اليوم التالي مباشرة، 28 حزيران ، نفّذت المنظمة الارهابية عمليّتها الكبرى. مذبحة حقيقية تعرّضت لها قيادات الصف الأول في نظام الجمهورية الإسلامية. تفجيرٌ هائل يدمّر مقرّ الحزب الجمهوري الإسلامي (كان الإمام الخميني وافق على تشكيله لينافس في سلسلة الانتخابات – كتعبير سياسي عن الثورة الإسلامية) بالكامل، أثناء اجتماع القيادة العليا له. الهدف الأبرز الذي كان مستهدفاً، هو آية الله محمد حسين بهشتي الذي كان يُعتبر أحد أعمدة الثورة وأكثر رجالها تأثيراً في إيران بعد الإمام الخميني، وكان رئيس الحزب ورئيس السلطة القضائية. وصل عدد القتلى في التفجير إلى 73 من القيادات المهمّة. وبالإضافة إلى آية الله بهشتي، ضمّت قائمة الضحايا محمد منتظري (من قادة ومؤسّسي الحرس الثوري وابن آية الله منتظري – نائب الإمام الخميني)، إضافة إلى أربعة وزراء في الحكومة (الصحة، الاتصالات، الطاقة والنقل)، وكذلك 17 من أعضاء مجلس الشورى (البرلمان). لم تكتفِ “مجاهدي خلق” بذلك، بل سرعان ما أتبعت إرهابها بعملية أخرى لا تقلّ ضراوة. هذه المرة، المستهدف كان رئيس الجمهورية الذي لم يمضِ سوى شهر واحد على انتخابه، محمد علي رجائي. كان الرئيس يحضر اجتماعاً في مقرّ رئاسة الوزراء لمجلس الدفاع الأعلى، حين انفجرت قنبلة أسفرت عن مقتل مجموعة جديدة من قيادات الصف الأول في الثورة: الرئيس محمد علي رجائي، ومعه رئيس الوزراء محمد جواد باهنر، إضافة إلى رئيس شرطة الجمهورية الإسلامية العقيد وحيد دستجردي، كانوا أبرز ضحايا التفجير الجديد.
ورغم هذه الخسائر والضحايا والدماء، نجح نظام الثورة الإسلامية في تجاوز المرحلة الحرجة والخروج من عنق الزجاجة. وابتداءً من عام 1982، ضعفت “مجاهدي خلق”، وبدأ عناصرها وقياداتها يهربون إلى خارج إيران، بعدما قويت شوكة الحرس الثوري والأجهزة الأمنية الجديدة. وفي مرحلة لاحقة, ابتداء من 2010, عندما تغيّرت نوعيّة وأهداف عمليات الاغتيال الذي صار يتم على يد جهات خارجية ويتوجّه في معظمه نحو استهداف الكوادر العلمية والتقنية أو شخصيات عسكرية وأمنية رفيعة المستوى, لم تتراجع ايران عن برامجها ونشاطاتها حتى عندما نجح الموساد الاسرائيلي في اغتيال أربعة من كبار علماء البرنامج النووي الإيراني وصولا إلى اغتيال أبي البرنامج النووي ,محسن فخري زاده, اواخر 2020, تلك السنة التي بدأت باغتيال رمز إيران الكبير الشهيد قاسم سليماني على يد امريكا.
كل تلك الضربات المؤلمة والخسائر التي من شأنها أن تهز أقوى الانظمة تجاوزتها ايران, رغم الألم, بكفاءة واقتدار مدهشين، كما نجحت في ايجاد بدائل لقياداتها لا يقلون عزماً واقتداراً عن الذين سقطوا.
.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نترحم على روح الشهيد الذي كانت آخر كلماته قبل وفاته عن فلسطين, وقدسها, ومقاومتها . فقد قال ابراهيم رئيسي اثناء افتتاح السد على حدود اذربيجان قبل ساعةٍ او اثنتين من سقوط طائرته “فلسطين هي القضية الاولى لايران و للعالم الاسلامي”. رحمه الله
*كاتب من الاردن