المجتمع والعوامل اللّاماديّة
بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب
من المسلّـم به عـند أمـراء المعـرفة، مـثـل أرسـطو وابـن خـلدون وهـيـغـل، أنّ الاجتـمـاع الإنسـانـيّ يـأتـلف بالمصالـح ويَـنْـوجـد بقـوّة ضغـط الحاجـات الموضوعـيّـة. الضّـرورات هـي ما يُـنْـشِـؤُه وليس الاتّـفاقـات والمواضَـعات كما يـذهـب إلى ذلك فـلاسفـةُ العـقـد الاجتـماعـيّ. والحـاجـاتُ والمصالـحُ تلك تـدورُ، في المقام الأوّل، على قيـمٍ ماديّـة ليس من غُـنْـيـةٍ عنها لأنّ بـها تكـون الحيـاةُ ويـتأمّـن البـقاء؛ ويـدخـل في جمـلة هـذه القـيم القـوتُ والأمـن: مـا يَـسُـدّ الأَوَدَ ومـا يَـحْـفَـظ الوجـود؛ والاجتـماعُ، هنا، ضـروريٌّ لتحصيـل كـلّ منهما لامتـنـاع ذلك التّحصيـل على النّـفـر الواحـد من النّاس.
هـكـذا نـشأتِ المجـتمـعاتُ في التّـاريخ من بَـذْرةِ الحـاجات والمصـالح الـدّافـعـة إلى الالـتحـام والتّـعاوُن؛ وهـكـذا كـانتِ العـلاقـاتُ الماديّـة – الاقـتـصاديّـة ابتـداءً – هي الأسُّ الأسـاس في مـنـظومة العـلاقات التي نسـجـتها الجمـاعاتُ داخلَـها وتـنـاولت جـوانـب شـتّى من حياتـها ومعـيشـها. ولـعـلّ مـا كـان بـه قيـامُ المجتمعات قـديـمـًا هـو عيـنُـه ما يسـتـمـرّ بـمفـعولـهِ وجودُهـا في الحاضـر، وما سيـظـلّ كـذلك مـا ظـلَّ الإنـسان سـيّـدَ نـفسـه.
قـلـنا إنّ مـبْـنى الحاجـات والمصالـح على قيـمٍ ماديّـة. لـكنّ القـولَ هـذا ليس يعـني، في شيء، أنّ الماديَّ وحـده هـو مبـدأُ وجـود المجتـمع أو أنّ هذا يَسَـعُـهُ أن يـسـتـغـنيَ، في وجـوده واشـتـغالـه، عـمّـا هـو في عـداد اللّامـاديّ: الثّـقـافـيّ والرّمـزيّ والـرّوحـيّ… إلخ؛ ذلك أنّ الحاجـات نفسَـها لا حـدودَ لإمكـانـها ولأشـكالـها، وقـد يـدخل فيها ما هـو غيـر مـاديّ أيـضًا؛ وهـذا ما يُـفـسِّـر لماذا يسعى النّـاس إلى إشـباع حاجـاتٍ جمالـيّـة وروحـيّـة وثـقافـيّـة وخياليّـة لـديهـم جنبـًا إلى جنب مع إشـباعهم حاجـاتهم المـاديّـة؛ ولماذا يتـولّـد من ذلك إنـتاجٌ وتـنـشـأ مؤسّـساتٌ خاصّـة تـتعـهّـد هـذه المجـالات غيـر المـاديّـة بالرّعايـة. بل هـذا ما يـفـسّـر ظـواهـرَ مـثـل الحـروب والنّـزاعـات التي مبْـناها على الـدّيـن وعلى مسائـل الهـويّـات الثّـقافـيّـة.
غيـر أنّ الأهـمَّ من التّسليـم بالوجـود المـوضوعيّ للحـاجات الماديّـة، في كيـان المجتمع، الانـتبـاهُ إلى أدوار اللًامـاديّ وتـأثـيراتِـه ووظائـفِـه التي ينـهض بأدائـها داخل الاجتماع الإنسـانـيّ. وحـده هـذا الانتباهُ العـلمـيُّ إلى ذلك كـلِّـه سيُـظْـهِـرنا على أنّ اللًامـاديّ، ليس فـقـط عامـلًا غيـرَ بـرانـيٍّ عـن منظـومـة الحاجـات، التي يـتـكـوّن بها الاجـتمـاع الإنسـانيّ – خـلافًا لِـمَـا يُـعْـتَـقَـد -، بـل هـو جـزءٌ لا يـتـجـزّأ من تلك الحاجات، وأنّ صـلاتِه بالماديّ صـلاتٍ مفـتـوحـةً ومتـبادلـةَ الأثـر وتـحـتاج – لأنّـها مُـرَكَّـبة – إلى وعـيٍ تـركيـبـيّ يـقـف على عـلاقـات التّـبادُل والتّـضافُـر بين فـاعـليّـاتـهمـا في النّـظـام الاجتـمـاعيّ.
إنّ النّـاس يلـتـحمـون ويتـضامـنـون داخل المجتـمعات لا لـدافـعٍ مـاديّ، اقتصـاديّ- اجـتماعيّ، يحملهم على ذلك، فـقـط، بـل لشـعـورٍ مـتبادَل أو جمـاعـيّ لـديهم بـأنّهم يؤلِّـفـون جمـاعـةً متـميّـزة من سـواها من الجمـاعات. قـد يكـون الشّـعورُ هـذا وهـميًّا أو مبـناهُ على افــتـراضٍ غـيـرِ واقـعـيّ، مـن قبـيل الاعـتـقـاد بجامـعٍ يـؤلّـف بين النّـاس هو النّـسـب؛ وهـو الذي دحـضَـهُ ابن خلـدون ولم يعـتـبر بأمـره – في كـلامه على العصـبيّـة – فَـعَـدَّهُ وهْـمًا (حيث الأنسـابُ، عنـده، تسـقُـط والـدّمـاء تـختـلط باخـتـلاط العصائـب بينها وما يـتبـعُـها مـن مصاهـرات)…؛ ولـكنّـه يكـون، في أحيان أخـرى، واقـعيًّا أو، قُـلْ، شعـورًا متـولِّـدًا مـن واقـعٍ قائـمٍ داخـل الجماعـة الاجتماعيّـة، ومؤسِّـسٍ لوحـدتها أو، على الأقـلّ، لتضامـناتـها ولشعورها الـذّاتيّ بـنـفسها بما هي جماعةٌ مختـلفة عن غيرها وذاتُ شخصيّـة خاصّـة أو، كما نـقول اليـوم، ذات هُـويّـة متمـيّـزة.
ماذا يمـكن أن تـكون الثّـقافـة واللّـغةُ والـدّيـن، مثـلًا، غيـر أنّـها تلك العـوامـل اللاّماديّـة التي يتـكـوّن بـها الاجتماع الإنسـانيّ ويـلتـحـم داخل فضـاء واحـدٍ نسـمّيه المجـتـمع؟ ولكـنّـها، في الوقـت عيـنِـه (وإنْ كـان هـذا وجْـهٌ مقـابـل يـتـأكّـد بـه وجـهُـها الأوّل)، العـوامـلُ التي تـرسـم حـدودًا للجـمـاعات والمجتمعات فـتـنـقسـم على حـدودها تلك كـوحـدات مـجتـمعيّـة مـتـمايـزة، وقـد تـنـدلع المنازعـاتُ والحـروبُ بيـنها على أساس ذلك التّـمايُـز (الـدّيـنيّ أو الثّـقـافـيّ أو اللّـغويّ) فتـصبـح العوامـلُ هـذه وَقـودًا لـها وحطـبًا لنيـرانـها. ومـا من مجـتمـعٍ يَـعْرى من أثـر هـذه العوامـل غير الماديّـة فـيه.
استـدخـالُ هـذه العـوامـل غـيرِ الماديّـة في تحلـيل ظـواهـر الجمـاعات والمجـتـمعات والصّـراعات والحـروب – وهـو من فـتـوحات علم الاجـتمـاع والأنـثـروپـولوجيـا – يـحـرّرنا، من غيـر شـكّ، مـن النّـظـرة الاقـتصـادويّـة إلى المجتمع وإلى ظـواهـر التّـاريـخ، لكـنّـه لا يـمـنعنا – أَلْـبَـتَّـةَ – من الانـتـباه إلى حـقيقـةٍ أخرى موازيـة: هي أنّ هـذه العوامل اللّاماديّـة تـتـولّـد منها، حُـكْـمًا، نتائج ماديّـة.