احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية.. الوصول إلى الحقيقة بات سهلاً
بقلم: زياد غصن
ليس مبالغة القول إن ما تشهده الجامعات الأميركية من احتجاجات طلابية مناصرة للقضية الفلسطينية يمثّل الحدث الأبرز والأهم في تداعيات الحرب التي تشنّها “إسرائيل” على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر.
وأهمية هذه الاحتجاجات لا تنبع فقط من مطالبتها بوقف تلك الحرب، وانضمامها تالياً إلى ملايين الأميركيين الرافضين لسياسة إدارة بايدن في التعاطي مع هذا الملف، وإنما من مطالبة الأساتذة والطلاب المحتجين بوقف الدعم الأميركي المقدّم لـ “إسرائيل” من جهة، ووقف أيّ تعاون علمي أو استثماري بين تلك الجامعات وبين المؤسسات “الإسرائيلية” على اختلاف أنواعها وأشكالها من جهة ثانية.
وهذا يفسّر جانباً من الأسباب التي دعت السلطات الأميركية إلى استخدام العنف في محاولتها إخماد تلك الاحتجاجات. وسواء تمكّنت السلطات الأميركية من قمع تلك الاحتجاجات أو فشلت في ذلك، إلا أن هناك واقعاً جديداً فرضته الحركات الطلابية يصعب تجاوزه أو التقليل من شأنه، ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة، وإنما على المستوى العالمي أيضاً. هذا الواقع الجديد يتعلّق بتشكّل رأي عام جديد داخل الجامعات لم يعد من الممكن التنبّؤ بتوجّهاته أو التأثير به عبر وسائل تقليدية، قد تكون نجحت في السابق إلا أنها باتت اليوم عاجزة أو قاصرة عن تحقيق ذلك.
ولعل السؤال الأهم الذي يطرح اليوم على مستويات سياسية مختلفة يتمثّل في الأسباب التي أدت إلى إحداث تغيير جوهري في توجّهات الرأي العام داخل الجامعات الأميركية حيال إحدى المسائل، التي كان ينظر إليها على أنها بمنزلة “مسلّمة” أميركية غير قابلة للنقاش الداخلي أو التشكيك من أي طرف وجهة.
المحتوى المتحرّر من الهيمنة
هناك عدة أسباب اجتمعت مع بعضها البعض أدت إلى حدوث ما يشبه “انتفاضة فلسطينية” داخل معظم الجامعات الأميركية منها ما يتعلّق بتفاعل الموقف لدى أبناء الجالية العربية والإسلامية في الولايات المتحدة، ومحافظة التظاهرات التي تجوب المدن الأميركية، والرافضة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، على زخمها برغم طول مدة تلك الحرب، وهناك أيضاً موقف النخب الأكاديمية والتي من دون شك تركت تأثيراتها على شريحة من الطلاب في تلك الجامعات.
إلا أن السبب الأبرز يكمن في تنوّع مصادر المعلومات التي بات يعتمد عليها الشباب الجامعي في تشكيل وعيه وموقفه من القضايا المحلية والخارجية. إذ رغم تبنّي معظم وسائل الإعلام التقليدية الأميركية الكبرى للسردية الإسرائيلية في الحرب على قطاع غزة بكلّ ما تحتويه من أكاذيب ساذجة وتشويه للحقائق، إضافة إلى تعتيم تلك الوسائل على المجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق آلاف الأطفال والنساء وحرب التجويع بحق من تبقّى، إلا أنها فشلت في محاولة احتكارها للمعلومة المتعلقة بمجريات الحرب الإسرائيلية واستفرادها تالياً بتشكيل الوعي الجمعي.
والسبب في ذلك يعود إلى دخول شبكات التواصل الاجتماعي دائرة المنافسة في تشكيل جزء ليس بالقليل من ذلك الوعي، ولا سيما أنّ تلك الشبكات مرافقة بشكل لحظي للشباب في يوميات حياتهم، والذين وجدوا أنفسهم مرغمين على البحث عن حقيقة ما يجري، وجذور المشكلة بعيداً عن المصادر التقليدية، فكانت شبكات التواصل ومحرّكات البحث سبيلاً لذلك.
لكن كيف تحوّل محتوى شبكات التواصل، والذي عادة ما يتهم بأنه تغلب عليه الخفة والهامشية والتفاهة أحياناً، إلى ناقل للحقيقة في الملف الفلسطيني، ومؤثّر في مواقف شريحة شعبية لا تعرف عن جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي سوى ما كانت تردّده المواقف الرسمية الأميركية واللوبي اليهودي منذ ثمانية عقود؟
أسهم تعدّد مصادر وأشكال تغطية الحدث الفلسطيني في تأثّر محتوى شبكات التواصل، هذا على الرغم من محاولات التقييد التي مارستها بعض الشركات المالكة لتلك الشبكات انحيازاً لموقف الكيان الصهيوني. ويمكن إجمال تلك المصادر بما يلي:
– تفوّق المراسل الصحافي الفلسطيني العامل في مؤسسات إعلامية فلسطينية أو عربية في تغطية أخبار وآثار القصف الإسرائيلي على المدنيين والممتلكات العامة والخاصة. وهذا التفوّق قدّم للعالم صوراً هزّت الضمير الإنساني من جرّاء هول المجازر والإعدامات الميدانية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الأطفال والنساء، وحرب التجويع التي تمارس تحت بصر المجتمع الدولي.
وما ساعد الصورة الفلسطينية على الانتشار أن العديد من وسائل الإعلام العربية والإسلامية خصصت كامل بثّها التلفزيوني والإذاعي وصفحات جرائدها للصور والكلمات المقبلة من غزة والضفة الغربية، والتي كانت أحياناً ممزوجة بدم مراسليها وكتّابها. فكانت أن أثّرت التغطية الإعلامية التقليدية في محتوى شبكات التواصل الاجتماعي العالمية.
– الصور والفيديوهات التي بثّها ناشطون فلسطينيون على شبكات التواصل الاجتماعي لتعريف العالم بمأساة شعبهم وما يتعرّض له من حرب إبادة جماعية. فاتساع رقعة القصف الإسرائيلي لتشمل تقريباً كلّ متر مربع من أراضي القطاع جعل من مهمة مراسلي وسائل الإعلام التقليدية تبدو صعبة في الإحاطة بجميع عمليات القصف والجرائم المرتكبة، فكان الناشطون خير موثّق بالصوت والصورة لكلّ ذلك، وهذا ما جعل محتوى شبكات التواصل ومحرّكات البحث غنيةً بالصور والفيديوهات، والتي سرعان ما وجدت طريقها إلى هواتف وحواسيب شعوب الأرض.
-توحّش “إسرائيل” في جرائمها ومجازرها والتي امتدت لتشمل موظفين أممين وعمال إغاثة دوليين، فضلاً عن طول أمد حربها على القطاع، كلّ ذلك أجبر وسائل الإعلام الكبرى على التخلّي بعض الشيء عن سياستها في مقاطعة أخبار تلك المجازر، تماماً كما فعلت الحكومات الغربية التي وجدت نفسها مرغمة على إدانة بعض تلك الجرائم، ومطالبة “تل أبيب” بحماية المدنيين ووقف حربها على القطاع.
– التعاطي الإعلامي للمؤسسات الحكومية في قطاع غزة مع تداعيات الحرب الإسرائيلية، والذي اعتمد على توثيق مجريات تلك الحرب بالأرقام والبيانات وتقديم المعلومة بشكلها العلمي والمتوازن. ولعل تراجع الإدارة الأميركية عن موقفها المشكّك بعدد الشهداء المدنيين في القطاع يشكّل انتصاراً للموقف الفلسطيني الذي لم يكتفِ فقط بالأرقام، وإنما جهّز قوائم اسمية بكلّ الشهداء والمفقودين والجرحى وتقديم تقديرات لحجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية.
– تفرّد الإعلام الحربي في فصائل المقاومة الفلسطينية في تقديم صورة مختلفة للمقاوم الفلسطيني حظيت بتعاطف شعبي ودولي كبير. فهذا المقاوم الذي يواجه دبابات وآليات الاحتلال في أرضه لم يعد كما حاول الغرب تصويره دائماً كإرهابي يستهدف قتل الإسرائيليين “الأبرياء” ورميهم في البحر. فمقابل الجندي الإسرائيلي المجهّز بأحداث تقنيات القتال والتجهيزات، والذي لم يتوانَ عن قتل عجوز فلسطيني بالصوت والصورة أو قطع الكهرباء عن حاضنات الأطفال الخدّج، يقف الفلسطيني الأعزل إلّا من بندقيته يدافع عن أرضه وعائلته، تلوّح له تارة أسيرة إسرائيلية مودّعة إياه، ويسير إلى جنبه طفل إسرائيلي مبتسماً غير خائف على حياته تارة أخرى.
فرصة ثمينة للشعوب
عندما تهدّد الولايات المتحدة إحدى المنصات على شبكات التواصل الاجتماعي بالحظر إذا لم تستجب لقطع علاقاتها بالشركة الأم غير الأميركية، فهذا يعني أن واشنطن بدأت تدرك أهمية هذه المنصات في تشكيل وعي الأميركيين وفي التأثير على قراراتهم وسلوكياتهم، وحتى لو نجحت في حظر بعضها كما تخطّط، فإنها لن تتمكّن من التحكّم في محتواها كما هو الحال في وسائل الإعلام التقليدية وهوليود، إلا إذا كانت تريد منع استخدامها في العديد من الدول، فعندئذ تفقد مصدر قوتها وتأثيرها.
ولذلك فإن المرحلة الحالية تعدّ فرصة ثمينة للشعوب للتعريف بقضاياها ومشاكلها، وتصحيح ما حاول الغرب تشويهه من حضارتها وتاريخها وحقوقها، وذلك من خلال زيادة المحتوى المعرفي المتعلّق بها على شبكة الإنترنت، فاليوم يمكن لطالب يجلس في قاعته الدراسيّة بإحدى الجامعات الأميركية أن يفتح هاتفه النقّال ويتجوّل في بلد ما، يقرأ عن تاريخه وحضارته ومن عدة مصادر، ويتحدّث مع نظير له في جامعة ما من ذلك البلد ويسأله ويناقشه فيما يريد.
فيما كان على ذلك الطالب سابقاً، وتوخّياً للدقة والموضوعية، أن يزور ذلك البلد ويتحدّث إلى أبنائه ويشاهد معالمه الحضارية والإنسانية ليغيّر ما تقوله له حكومته سياسياً عن ذلك البلد.