بعدما انتصر الدمُ الفلسطيني على الحُلم الصهيوني.. تعظيم سلام لسرايا القدس وكتائب القسام ورفاقهما
بقلم : فهــد الريمــاوي
آن لليل ان يفارق عتمه، وللحزن ان يكفكف دمعه، وللبؤس ان يخلع بؤسه، وللحق ان يرفع رأسه، وللنصر ان يُعلي رايته، وللتشرد ان يكتب نهايته، وللوطن الأسير ان يعانق حريته ويسترد عروبته، وللقرار الوطني الفلسطيني ان يفرض حضوره واستقلاليته، وللعدو المحتل ان يغادر أرض المعراج والإسراء، ويشدّ الرحال ليعود من حيث جاء والى حيث يشاء.. او يستوطن القبور اذا ما عاند واختار البقاء.. فقد دارت عجلة التاريخ ولن تتوقف حتميته الحاسمة قبل عودة فلسطين الى خارطة عروبتها، ولو على مراحل وبعد ألف حين.. فمن هو الذي كان يتصور ان يقوى بضعة آلاف من رجال “الضيف والسنوار” على هدم الأساطير وردم الأوهام الصهيونية المتغطرسة قبل صياح الديك وإنبلاج الفجر ؟؟
آن للمستحيلات ان تحقق نفسها، وللمعجزات ان تفعل فعلها، وللأعاجيب ان تخطف الأبصار من حولها، وللأساطير الخيالية ان تكتسب وقائعها الحقيقية وتجلياتها العصرية، وللشجاعة الخارقة ان تتواضع في حضرة فرسان غزة، ولسيوف حطين واليرموك والقادسية وعين جالوت ان تُشرَع مُجدداً في نابلس والشجاعية وجنين وخان يونس، لتطهير القدس من الرجس، وحز رقاب الغزاة وحصد رؤوسهم التلمودية العفنة.. فقد جاء نصر الله والحق، الذي قد يراه البعض بعيداً ونراه – من وسط الدماء والدمار – قريباً جداً، بعدما انهار البنيان النفسي والروح المعنوية لكيان هذا العدو خلال بضع ساعات من ليلة السابع من أكتوبر .
آن لكل خامل او مناضل عربي، وكل جاهل او عاقل مسلم ان يؤدي التحية العسكرية لغزة الأبية، وان يفتخر انه يحيا في عصر “حماس”، ويعتز انه يعايش بطولات “كتائب القسام” و “سرايا القدس” وعموم فصائل المقاومة الفلسطينية المظفرة التي أذهلت البشرية، وأثارت دهشة العدو قبل الصديق، حين زلزلت الكيان الصهيوني، وخلخلت قواه العقلية، وكشفت نقاط ضعفه الوجودية، وأسست لقرب نهايته الحتمية، وقهرت جيشه الذي زعم انه لا يُقهر، وأذلته وحطّمت صلفه وغروره وتبجحاته الفارغة، وأثبتت بالملموس انه مجرد راجمة دمار وليس قوة انتصار.. ولولا “فزعة” أمريكا الطاغية وأذنابها في الغرب والشرق لما صمد هذا الجيش الجبان حتى وقتنا الراهن.
آن للعوالم الآسيوية والافريقية والأمريكية اللاتينية ان تبصق على العصر الأمريكي المفلس إنسانيا واخلاقياً، وان تتقيأ من ادعاءاته ومزاعمه بالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، وان تستنّ لنفسها سُنة أخرى مغايرة تماماً لسُنن حكومات الغرب وشرائعها ومواقفها الفاشية والعنصرية والاستعمارية “والهمجية الجديدة”، التي باتت تتصادم حتى مع آراء ورغبات وتطلعات شبابها ومعظم شعوبها، وفق ما نرى ونسمع هذا الأوان من صرخات ومظاهرات عارمة مؤيدة لقضية فلسطين، ومنددة بالعدوان الإسرائيلي في عدة عواصم ومدائن غربية، أبرزها صيحات الرفض والاستنكار الصادرة عن جيل جديد من طلبة الجامعات الأمريكية، الذين أعادوا للأذهان احتجاجات أجيال طلابية سابقة ضد الحرب الامبريالية على فيتنام.
بين عشية اليوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وضحاه، هاج “طوفان الأقصى” وماج، فقَلَب الدنيا رأساً على عقب، ونقل الشرق الاوسط من النقيض الى النقيض، حيث اغرق الصهاينة في خضم المفاجآت الصاعقة، وباغتهم من حيث لا يتوقعون ويحتسبون، وأصابهم بدوار البحر ومتلازمة الذهول والشلل، وسرعان ما ترددت اصداؤه في واشنطن، عاصمة جرائم الابادة التاريخية، ووريثة الأحقاد الصليبية القديمة، وولية أمر الخونة العرب والمارقين والسارقين اليهود، التي هرعت بكل قواها السياسية والعسكرية لانتشال الكيان المهزوم من لُجة هذا الطوفان الجامح.. ولا ريب عندي ان هذه الواشنطن سوف تدفع الثمن غالياً على صعيد سلامها الداخلي، ومكانتها الدولية، ومصالحها الاقتصادية، ومصداقية خطابها المتبجح بحقوق الانسان والديموقراطية.
يا لكتائب القسام واخواتها كم صنعت وكم برعت وكم أبدعت.. يا لها من عصائب موهوبة ومرهوبة اتقنت صُنع العجائب، واحسنت حبك المفاجآت، واجادت فنون النفاذ والاختراق، وتفوقت في نشر شبكة خداع وتضليل انطلت على ادق اجهزة الرصد والاستخبار والمراقبة الصهيونية، وتحولت خلال بضع ساعات الى “قوة عظمى” قلبت موازين القوى، وركبت بساط الريح، واجتاحت كل بلدات غلاف غزة، والقت الرعب في قلوب المستوطنين، واكتسحت في طريقها سائر المراكز الامنية والمواقع العسكرية التي عكف العدو على توطيدها وتمنيعها وتحصينها منذ جملة سنين، وما زالت تقاتل بأبسط الأسلحة أعتى الجيوش المدججة بأحدث آلات الفتك والدمار على مدى ستة أشهر قابلة للتجديد والتمديد، وما زالت تضيف لقضيتنا الوطنية المزيد من الانصار والكثير من الاحرار في سائر أرجاء العالم، بعدما بذل الصهاينة والامبرياليون كل الجهد في محاولات طمسها وتغييبها وإهالة التراب عليها.
نعرف ونعترف ان “طوفان الاقصى” قد رتّب على غزة الصامدة وابنائها الصابرين اعباءً ثقيلة تنوء تحت وطأتها الجبال، وتتواضع في حضرتها أعتى الاهوال، ولكن هذه هي “العادة النضالية” الدائمة لشجعان غزة هاشم على امتداد التاريخ.. فقد كُتب على الفلسطيني الغزاوي ان يُجاهد حتى قبل ان يولد، وان يستشهد حتى بعد ان يُلحد، فهو الكادح المكافح فيما يسبق المهد ويتبع اللحد، وانظروا كيف يعاقب جيش الصهاينة النساء الحوامل وينبش قبور الشهداء في غزة، جراء حقده المزمن على شعبها المقدام الذي يغشى الوغى دون تردد، ويكابد الجوع ولا يرتضي الركوع، ويقدم التضحيات الجسيمة بكامل الأريحية والحماسة والرضا، ويعتبرها مكاسبَ وارباحاً صافية لا خسارة فيها، ما دامت مبذولة في سبيل الوطن السليب ومن اجل تحريره.. فخلافاً لكل جرائم العدو ومذابحه التي ذهبت هدراً بحق الفلسطينيين الابرياء في بلدات الطنطورة ودير ياسين وكفر قاسم وغيرها عام ١٩٤٨، ها هي غزة المقاتلة تكبّده اليوم اثماناً فادحة، وتكيل له الصاع صاعين، لقاء جرائمه بحق ابنائها المدنيين.
واذا كانت القدس الشريف هي زهرة المدائن، وعاصمة فلسطين الخالدة، وحاضنة المسجد الاقصى وكنيسة القيامة، وبوصلة الشمس عند شروقها وغروبها.. فان غزة هاشم هي جمل المحامل، وعرين الفصائل، وسيف فلسطين المسلول على مدى الزمان، ورائدة فريضة الجهاد وفضيلة الاستشهاد على طريق تحرير الارض والانسان، ومُلهِمة الضابط جمال عبد الناصر – الذي سال دمه على بطاحها عام ١٩٤٨ – للتسريع في اشعال ثورة ٢٣ يوليو المجيدة عام ١٩٥٢، ومن ثم تشييد “مُجمّع ناصر الطبي” ورعايته في مدينة خان يونس بعد قيام الثورة.. فقبل الاحتلال، كانت غزة في عُهدة مصر، وفي رعاية جمال عبد الناصر الذي اضاف بسالته الى بسالتها، والتحم بروحه الثورية مع روحها، واطلق “كتائب الفدائيين” من بين ابنائها حيث ابلوا بلاءً باسلاً في عدوان السويس عام ١٩٥٦، ثم ما لبث “ابو خالد” ان أسس، بالتعاون مع المرحوم احمد الشقيري عام ١٩٦٤، جيش التحرير الفلسطيني الذي كان صاحب الطلقة الاولى في مقاومة الاحتلال عام ١٩٦٧، ولو امتد العمر بأبي خالد لعام او عامين فقط، لما بقيت غزة المُتميزة وبقية الاراضي العربية المحتلة رهينة العدو الغاصب حتى اليوم.
كم هو موجع ومفجع ان يجلس السيسي على مقعد عبد الناصر في دار الرئاسة المصرية، وان يتشابه مع بقية الحكام العرب في عمالتهم ونذالتهم وتخاذلهم عن نصرة شعب غزة، بل في تآمرهم الخسيس على أشاوس المقاومة وأبطالها، حتى بات “العار” نفسه يخجل من مصافحتهم، ويأبى ان ينتسب اليهم ويتلوث بقذارة سياساتهم ونجاساتهم.. فالعار – على وضاعته – اطهر من اطهرهم واشرف من اشرفهم، بعدما فضحهم “طوفان الأقصى” وتكشفوا عن خدم في بلاط البيت الأبيض، وأُجَراء – من الباطن – لدى تل أبيب، فلا وزن لهم ولا قرار ولا خيار، ولن تحمل لهم قادمات الأيام غير التساقط المُهين والنهايات التعيسة، وربما عض أصابع الندم بعد فوات الأوان.
اما الشعوب العربية ونخبها المهزومة والمأزومة، فلا بارك الله فيها، ولا سدد خطاها، ولا كان في عونها.. فهي فاقدة للوعي، وغائبة عن الفعل، وهائمة على وجهها، ومسكونة بالخوف والبلادة وقلة الحيلة، وليس عليها – والحالة هذه – الا ان تنظر الى صورتها الخانعة في مرآة شعوب العالم الرافضة قولاً وفعلاً للتنكيل الوحشي الصهيوني بفقراء غزة، بل ليس عليها الا العودة بالذاكرة الى دروس الأجيال الشعبية العربية طوال العقود السابقة، ونضالاتها الثورية التي كثيراً ما أسقطت العروش الرجعية والأحلاف الاستعمارية والمؤامرات المتعددة على القضية الفلسطينية.
بقي ان نقول.. مهما كانت النهايات، ومهما عَظُمت التضحيات، ومهما بلغت المفاجآت، ومهما تضاربت الآراء واختلفت الاجتهادات، ومهما تعددت المؤامرات والمكائد والمناورات، فقد حُمّ القضاء، ونفذ أمر الله، ونفق الكيان الصهيوني وانطفأ سراج حياته وحيويته ليل السابع من أكتوبر، حتى ولو بقيت جثته مُحنّطة وماثلة للعيان بغير دفن مئة عام.. ومن يَعشْ يرَ !!!