روسيا وغزة من المسافة صفر !!
بقلم: عبد الله السناوي/ القاهرة
مرة بعد أخرى يطرح السؤال الروسى نفسه تحت وهج النيران فى غزة بحثا عن شىء من التوازن الدولى المفتقد منذ انهيار الاتحاد السوفييتى مطلع تسعينيات القرن الماضى وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم والتحكم فى مصائره.
هناك الآن خشية واسعة من الانجرار المحتمل إلى حرب إقليمية واسعة تشمل إيران ودولا أخرى تتداخل معها المصالح الاستراتيجية الروسية.
ما طبيعة وحدود الدور الروسى إذا ما أفلتت كتل النيران من مكامنها؟
روسيا ليست الاتحاد السوفييتى هذه حقيقة يستحيل إغفالها قبل إصدار الأحكام والتحليق فى فراغ التصورات.. لكنها لاعب جوهرى لا يمكن تجاهله فى العلاقات الدولية.
قوة كبرى، لكنها ليست عظمى فى أوضاعها الحالية من اقتصاد مستنزف بأثر العقوبات المفروضة عليها وتراجع قدراتها على الإسناد الاستراتيجى فإنه من غير الممكن التعويل عليها فى ردع الدور الأمريكى.
حاولت السياسة الروسية منذ اندلاع الحرب أن تجد لنفسها دورا مؤثرا بقدر ما تطيقه أحوالها مدفوعة بمصالحها الاستراتيجية فى أكثر أقاليم العالم أهمية وخطورة وتأثيرا على مستقبلها المنظور.
أدانت العدوان على غزة دبلوماسيا وسياسيا فى المنتديات الأممية دون أن تدخل طرفا مباشرا فى الأزمة المشتعلة بالنيران والمخاوف.
إذا ما نشبت حرب إقليمية واسعة يصعب أن يظل الدور الروسى فى حدوده الحالية مكتفيا بإدانة العدوان على غزة، أو استخدام حق النقض فى مجلس الأمن لإجهاض أية مشروعات قرارات أمريكية تعمل على إدانة المقاومة الفلسطينية، أو تمديد العدوان على غزة والتنكيل بأهلها.
وفق موسكو فإن مشروعات القرارات، التى دأبت الولايات المتحدة على طرحها، “مسيسة بشكل مبالغ فيه”.
عندما مررت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت قرارا قدمته عشرة دول غير دائمة العضوية فى مجلس الأمن ينص على وقف مؤقت للحرب خلال شهر رمضان اغتالته فى اللحظة نفسها باعتباره !غير ملزم! ووفق واشنطن: المواقف الروسية غير بناءة فى محاولة حل الصراع.
كانت تلك حدود المساجلة الاستراتيجية الأمريكية مع موسكو. تركزت الإدانات الروسية على واشنطن أكثر من تل أبيب، على الطرف الداعم للحرب لا الطرف المباشر فيها. إنها حسابات معقدة تحاول أن تتضامن مع غزة دون أن تلحق أضرارا تربك أية تفاهمات سابقة مع إسرائيل بشأن قواعد الاشتباك فى سوريا.
لم يكن خافيا على أحد المكاسب الاستراتيجية المفاجئة التى جنتها روسيا بأثر اندلاع الحرب على غزة.
تراجعت أولوية الحرب الأوكرانية فى الخطابين السياسى والإعلامى الدوليين، حتى كادت تنسى وسط طوفان المآسى الإنسانية فى القطاع المعذب.
رافقت حرب غزة بتداعياتها وأجوائها ومساجلاتها أوضاعا عسكرية مستجدة على الجبهة الأوكرانية لم تعد سيناريوهات كسب الحرب وإذلال موسكو واردة.
عاد الحديث عن حلول سياسية، أو الذهاب مجددا إلى التفاوض دون أن تبدى موسكو حماسا، فالوقت يعمل لصالحها وسيناريوهات تقليص تمويل الحرب غير مستبعدة.
إذا ما انتهت الحرب على غزة الآن فإن موسكو سوف تتصدر رابحيها.
كلما تأكد المأزق الأمريكى المزدوج فى حربى غزة وأوكرانيا يستشعر الكرملين ثقة كبيرة فى مستقبله المنظور، أن يكسب حربه فى أوكرانيا، يحفظ أمنه القومى عند حدوده المباشرة، ويفرض أغلب مطالبه على الحلفاء الغربيين.
خسارة الحرب الأوكرانية قد تفضى إلى تفكك الدولة الروسية، وكسبها يساعد إلى حدود بعيدة فى استعادة الأوزان الروسية السابقة، أو تأسيس نظام دولى جديد على أنقاض الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة.
بصورة مباشرة تداخلت روسيا فى ملف المصالحة الفلسطينية حتى تكون هناك إجابة أخرى على سؤال اليوم التالى.
دعت إلى اجتماع فى عاصمتها لفصائل المقاومة، شملت الدعوة الحكومة الفلسطينية، توصلت الاجتماعات إلى مخرجات تساعد على إنشاء حكومة فلسطينية من التكنوقراط وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بضم حركتى “حماس” والجهاد”، غير أن تلك المخرجات تقوضت تماما بإعلان سلطة رام الله حكومة جديدة دون تشاور مسبق.
الأوزان والأدوار كلها الآن على المحك إذا ما جرى الانجراف إلى حرب إقليمية واسعة.
المصالح الروسية عند المسافة صفر.. فى مرمى النيران مباشرة.
انخراط روسيا فى أى حرب إقليمية مكلف وأثمانه لا تحتمل بالنظر إلى ما أصابها من إنهاك سياسى واقتصادى وعسكرى فى الحرب الأوكرانية.
التجاهل شبه مستحيل وخسائره قد تفضى إلى هزائم استراتيجية لا قبل لموسكو على تحملها. إنه مأزق استراتيجى محكم.
المثير هنا أن روسيا والولايات المتحدة لا تريدان، وليس من مصلحتهما بأى حساب، توسيع نطاق الحرب فى غزة إلى صدامات إقليمية واسعة لا يعرف أحد كيف تنتهى.
إنه السؤال الأكثر إلحاحا من المسافة صفر وإجابته تتوقف على طبيعة وحجم الرد المنتظر على استهداف القنصلية الإيرانية فى دمشق.
الرد قادم لا محالة، والأطراف كلها باستثناء الحكومة الإسرائيلية تتمناه محدودا رهانا على أنها تساعد “بنيامين نتانياهو” فى بقائه على رأس الحكومة حتى لا يزج به خلف قضبان السجون بتهمتى الاحتيال والرشى فضلا عن مساءلته فى تقصيره الفادح يوم السابع من أكتوبر
فى السياق يسعى “نتنياهو” إلى اقتحام رفح، لكنه واقع تحت ضغط الإدارة الأمريكية التى لا تكف عن طرح بدائل عليه خشية أن يفضى ذلك الاجتياح إلى مجازر بشرية تنال من مليون ونصف المليون نازح فى تلك المدينة الحدودية الضيقة.
من وقت لآخر تتصاعد احتمالات اشتعال الجبهة اللبنانية بكاملها، أو نقل مركز المواجهات إلى الشمال بذريعة الأمن وعودة النازحين الإسرائيليين.
جر المنطقة كلها إلى حرب واسعة هو أخطر سيناريوهات التصعيد الإسرائيلى المحتملة.
والأمريكيون لم يتورعوا عن التهديد بالتدخل المباشر إذا ما تعرضت إسرائيل إلى الخطر. هكذا فإن سيناريو الحرب الإقليمية الواسعة لا يمكن استبعاد الانزلاق إليه.
حسب التأكيدات الروسية فـ”إن أحدا لم يطلب منا أن نتدخل للتهدئة”.
كانت تلك إشارة مبطنة إلى إدراكها قدر ما يصيبها من أضرار استراتيجية إذا ما اندفعت كتل النيران إلى المنطقة كلها واستعدادها فى الوقت نفسه للعب أية أدوار تمنع الحرب الإقليمية المحتملة.