بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية.. “أبو عبيدة” ظاهرة لغوية أيضاً
بقلم: فراس حج محمد| فلسطين
الناطق الرسمي باسم كتائب القسام “أبو عبيدة” صنع رمزيته الخاصة، فمنذ ظهوره الأول وهو على هذه الشاكلة؛ رجل مقنّع بالكوفية الحمراء، يزين جبينه شعار كتائب عز الدين القسام، هذه الصورة التي حازت على كثير من التحليل من وجهة نظر إعلامية، كون الناطق الإعلامي الرسمي لأية جهة لا بد من أن تتوافر فيه كثير من السمات في شكله، وحركة جسمه، وملامح وجهه، ولغته، ومصطلحاته. كل هذه التقاليد المتعارف عليها، تجاوزها أبو عبيدة، ولا يريد للمحللين السياسيين أن ينشغلوا بغير الفكرة الخارجة بلغة واضحة، قوية ومتحدية، معجونة بالثبات وبالنصوص الدينية، وترتكز كثيرا على لغة الخطاب، وليس على لغة الخبر والمعلومات. هذه الكيفية من الخطاب الإعلامي لها الأثر الكبير فينا؛ نحن المتلهفون على سماعه، من أبناء الشعب الفلسطيني أو ممن يؤيدون المقاومة من العرب والعالم، عدا أثره النفسي العظيم جدا في نفوس الأعداء الذين وضعوه على قائمة الاستهداف والاغتيال وانشغلوا به لتحديد هويته، ولفّقوا لذلك الكثير من الصور والأخبار، وأشاعوا عنه أنه قُتل أو أصيب.
أضف إلى هذين البعدين بعداً ثالثاً، وهو أن وعد أبي عبيدة ووعيده كانا صادقين، يفرغهما بلغة عربية فصيحة، لا تكاد تجد فيها أية أخطاء، ولا تحتاج إلى تأويل، فلم يتعمد إثارة الخلافات حول ما يريد قوله، وكان يصيب المستمعين إليه بالفرح والرغبة من جانبنا نحن المتربصون أمام الشاشات، وكان يصيب الآخرين بالدهشة والخوف والذهول.
بدت مرئيات أبي عبيدة وتسجيلاته الصوتية ذات سمت لغوي واحد، وقد شكلت مصدرا مهما للتحليل اللغوي، وليس فقط للتحليل العسكري والسياسي، وباعتقادي أن هذه المصادر تكمن أهميتها اللغوية في كونها تعبّر عن خطاب الحرب، بكل ما يعني ذلك من بعد نفسيّ، ضروريّ جدا وجوده في لغة المتحدّث الرسمي باسم الحرب.
لقد لفتت لغة أبي عبيدة العربية الرسمية جدا، والصحيحة جدا، إلا فيما ندر، نظر المشاهدين، وأشار إليها كثيرون في منشورات قصيرة غير تحليلية على الفيسبوك، وعزوا ذلك إلى أنه حافظ للقرآن للكريم، وتوصلوا إلى نتيجة أن من يحفظ القرآن الكريم ستكون لغته قوية، وصحيحة، ولا يقع متحدثها بمطبات الأخطاء اللغوية، حتى في أدق مسائل اللغة التي تحتاج إلى تركيز المتحدث ليخرج الكلام صحيحاً، كان أبو عبيدة ماهراً ومتقناً لتلك اللغة، ولا بد للمرء في مثل موقعه من أن يتقن اللغة، فهي معيار فكري أيضاً، وليست مجرد قشور تحمل معلومات وأخباراً، عدا أن اللغة العربية في حربنا مع المحتل جزء من صراع الهوية، ليس في فلسطين وحدها، بل في كل منطقة احتلّ فيها غاصب شبر من أرض العرب والمسلمين، فكانت اللغة العربية دائما مهددة بحروب شتى، كما هي مهددة بمزاحمة اللغة الدخيلة في فلسطين من خلال الكثير من الإجراءات التعسفية التي طالت اللغة العربية، ليس هذا محل بيانها.
أعتقد أن لغة أبي عبيدة بمواصفاتها المشار إليها أعلاه كانت تتسق اتساقا تاما مع ما كان يقوله من معلومات وأخبار وما يتوعد به الأعداء، فكأن هذه الصحة اللغوية كان لها قائمتان أخريان من صحة الخبر، وصحة الوعد وصدق الوعيد، وعليه، فإنه بلا أدنى شك قد شكل ظاهرة خطابية ولغوية، لا تقوم على الصراخ ورفع الصوت والانفعال، بل تقوم على الرصانة في الطرح، والهدوء في الإلقاء، والعقلانية الدينية العسكرية السياسية في الخطاب، وبالمحصلة فقد شكلت نوعاً خاصا يعرف لدى الأوساط الإعلامية بالثبات الانفعالي، ولذلك لم يكن “ظاهرة صوتية” كما كان غيره من الناطقين الرسميين العرب فيما سبق من حروب، لم تجلب لنا إلا العار والغرق في وحول من الوهم والزيف، وكأننا كنا نقاتل طواحين الهواء. وأما أبو عبيدة فكان ظاهرة حقيقية، لا زيف فيها ولا تزييف، ولذلك استحق هذا الحضور البلاغي الحقيقي الكامل في تجلياته كلها التي سأتحدث عن شيء منها أدناه.
وزاد من ترسيخ هذه الصورة واستقرارها أن أبا عبيدة لم يكن يلقي خطاباته مباشرة أمام جمهور من الصحفيين، كما يفعل غيره من الناطقين الرسميين، هذا منح أبا عبيدة قوة أكبر، وثباتا أشد، فلم يكن معرّضا لأي سؤال قد يحرجه، أو يبدو في الإجابة عليه مرتبكاً، إنما كانت تقوم إستراتيجيته في عمله هذا على أن هذا ما يجب أن أقوله، وعليكم أن تتعاملوا معه كما هو، ولا شيء غيره في هذه المرحلة، ولو وجد شيء يستحق الذكر لقلته. كأن أبا عبيدة أتى بتقاليد جديدة للناطق الرسمي العسكري غير الخاضع لشروط البث المباشر والتعامل مع الراهن المتحول الذي هو بطبيعته مربك؛ فلا يكون بمواجهة صحفيين مختلفي التوجهات ومتعددي الآراء، ويحملون وجهات نظر مغايرة لما يحمل، ولا يريد لأي شيء أن يشوّه تلك الأفكار التي يريد أن يلقيها بلغةٍ بليغةٍ واضحة، ثمّ ليذهب ويذهبوا؛ كلّ إلى شأنه، وهذا كل ما في الأمر.
لكل ذلك صار أبو عبيدة، الظاهرة التي اكتسحت بحضورها الشاشات كلها، من المحيط إلى الخليج، وأزاحت ما عداها لتحتل صورته الشاشات الصغيرة الفردية للمواطن العربي في فلسطين وفي العالم أجمع، ولذلك فقد حازت نسبة مشاهدة عالية منذ الدقائق الأولى لبث ذلك الخطاب، وتحول إلى نجم وأيقونة، وله الأولوية عند الصغار قبل الكبار، بل يتصدر البث المباشر، ويقطع البث المعتاد وسير الندوات ليحتل أبو عبيدة الصدارة. هذه هي الظاهرة المسماة “أبو عبيدة”.
توسعت هذه الظاهرة وتمددت، ودخلت إلى شعر الشعراء. وهنا ربما تنبغي الإشارة إلى أن اللغة، أية لغة، تتسع مفرداتها وتُثرى بالأدب، شعره ونثره، فيدخل الكثير من الألفاظ الجديدة إلى اللغة بفعل الأدب، والأمثلة كثيرة، بالإضافة إلى أن ثمة ألفاظا قديمة بمعان قديمة قد يصبح لها معان جديدة بفعل هذا الأدب، ولأن الأدب مواكب للأحداث ولصناعة الشخصيات، فقد حمل الشعراء شخصية أبي عبيدة إلى عوالم الشعر، وجعلوه شخصية مختفى بها شعريا بكثير من القصائد التي رسمت له صورة شعرية تتمحور حول أثر هذه الشخصية وأهميتها في السياق العربي والفلسطيني على السواء، وللتعريف بصورة أبي عبيدة بطلا أسوق هذا النص للشاعر عمر علوش:
أبا “عبيدةَ” لا تحزن إذا انصـرفت
عنكَ العروبةُ قاصيها ودانيها
عشـرونَ جَيْشًا كَأُفٍّ منْ مَهَانَتِهمْ
وأنتَ وحْدَكَ جيشٌ قائِمٌ فيها
باعُوا القَضِيَّةَ ما عادت لهم صلةٌ
بأهلها واسْتراحوا من مآسيها
واسْتَطْعَمُوا الخوفَ حتى صار أشجعُهم
يكفيه أنْ يختفي إنْ قام داعيها
فاشْرَحْ لهُمْ سِرَّ مَا يُبْقِيكَ مُنْتَصِباً
والأرضُ حولك قد مادت رواسيها
لَعَلَّ فِيهمْ بقايا مِنْ كرامتهم
تحيا بشـرحك تقريعا وتنبيها
يا أيها العربيُّ القحُّ يا جبلا
ما مدَّ هامتَه إلا لباريها
هذه صورة بطل مقدام، له صفة الجيش، عربي، قحّ، جبل، منتصب، ثابت، إن مادت من حوله الأرض لا يتزعزع، ولا يمد هامته إلا لله وحده.
وفي قصيدة أخرى للشاعر علوش نفسه، يوضح معالم أخرى لأثر أبي عبيدة:
لأبي “عبيدةَ” في القلوب محبةٌ
تتغيَّرُ الدنيا ولا تتغيَّرُ
أحيا بها روحَ الشهامة بعدما
كادت على وقع الهزائم تُقبر
وطوى بنا الأزمانَ حتى أصبحت
للنـصر رائحةٌ تُشمُّ وتُبصـر
فكأنما ما زال فينا خالدٌ
وكأنما ما زال فينا حيدرُ
لا تحسبوا وضعَ اللثام نقيصةً
تُزري به وهو الهمام الأكبرُ
هو ما يزال على عهود جدودِه
وطباعُه بطباعهم تَتَأثّر
كانوا إذا حمي الوطيسُ تلثموا
وتعطروا وتنمَّروا وتبختروا
حتى إذا انكشف الغبار بنصـرهم
مثلَ البدور على الكريهة أسفروا
تتبدى أهمية هذا النص في الدرجة الأولى أنه يعيد القارئ إلى صورة أبي عبيدة الحقيقية، كونه رجلا ملثماً، وكما هو معهود الشعر العربي فإن الشاعر يستخدم “حسن التعليل” لظاهرة الرجل الملثم، فوضع اللثام ليس نقيصة، إنما هي عادة عربية قديمة عند فرسان العرب الأقدمين، فهم متأثر بهم، ويسير على دربهم، فقد كانت هذه هي تصرفاتهم إذا حمي الوطيس، إذاً، فاللثام علامة على الفروسية ليس غير، لينبلج وجه الملثم كالبدر بعد انتهاء المعركة، دلالة على الانتصار والفرح بالنصر، وفي هذا استبشار واستشراف لنصر المقاومة بإذن الله.
ومن جميل الشعر في ظاهرة “أبي عبيدة” تصوير الشاعر سعيد يعقوب انتظار سماع خطابات أبي عبيدة في هذه الأبيات:
و”أَبَا عُبَيْدَةَ” حِينَ يَبْدُو
هِلَالُ العِيدِ يَبْزُغُ فِي السَّماءِ
فَكُلُّ النَّاسِ نَاظِرَةٌ إِلَيْهِ
بِأَفْئِدَةٍ تَفِيضُ مِنَ الرَّجَاءِ
تُسَـرُّ بِهِ النُّفُوسُ كَبَرْدِ مَاءٍ
عَلَى عَطَشٍ شَفَى غُلَّ الظِّمَاءِ
لِعَذْبِ حُرُوفِهِ فِي السَّمْعِ وَقْعٌ
كَوَقْعِ الَّلحْنِ فِي عَذْبِ الغِنَاءِ
وهذا ما أعاده شاعر آخر يدعى براء جبر، فقال:
يصيبنا اليأس حتى يظهر الأملُ
حيوا الملثم فيه العين تكتحل
سَبّابَةُ الرُعبِ للأعداءِ قاطبةً
وهي الحياةُ لمن ضاقَتْ به الحِيَلُ
هي الشهادةُ توحيداً لخالقِهِ
هي الوعيدُ لأنذالٍ أن اشْتَعِلوا
هذا المُلثمُ كم نشتاقُ طَلعتَهُ
خيرٌ منَ اللهِ مِثلَ الغَيْثِ ينهمرُ
يا طلةَ البدرِ عزَّتْ فيكَ أمتُنا
يا نظرةَ النصـرِ من عينيكَ بي أملُ
إني لَأُبْصـِرُ في عينيكَ مُنتصـِراً
تصيحُ بالناس للأقصـى غداً نَصِلُ
وغير هذا كثير، وكثير جدا، مما خلفته ظاهرة أبي عبيدة اللغوية والخطابية، وبلا شك فإن هذه الظاهرة تحتاج الدراسة والمتابعة والاستقصاء ليس لتدرس فقط في المعاهد العسكرية والإعلامية، بل لتدرس في معاهد اللغات والأدب، فلهذه الظاهرة أثرها في اللغة العربية، كما أنها استطاعت أن تخرج من الدائرة الحربية إلى الدائرة الإبداعية لتثري اللغة العربية بقصائد لها جماليتها وشعريتها الخاصة، ولعلها أهم رسالة لأبناء الضاد عليهم أن يلتفتوا إليها وهم يحتفلون بلغتهم العربية في عيدها الأممي الذي يصادف يوم الثامن عشر من ديسمبر، هي أنه لا بد من أن يكون العربيّ قوياً لتحضر لغته قوية معه، فقد أجبر أبو عبيدة الذي أصر على الحديث باللغة العربية أن يسمعه الجميع بلغته هو، فلم ينجرّ لاستخدام لغات أخرى، فهو القوي، وليسوا هم، عليهم أن يتبعوه ويترجموه هم، لا هو، ودون أن تصاحب مرئياته وتسجيلاته أية ترجمة، فكأنه كان يفرض عليهم أن يتعلموا لغته ليفهموه، وهذه هي الرسالة اللغوية الأبلغ في ظاهرة الملثم أبي عبيدة، حفظه الله، فقد منح اللغة العربية حضورا يوازي حضور المقاومة ذاتها في سياق أكبر من حضور القضية الفلسطينية لتصبح القضية الأولى في العالم. فنعم الرجل أبو عبيدة، ونعمت اللغة العربية لغته، لغة المقاومة، وليست فقط لغة القرآن الكريم والدين والعبادة المحصورة في المساجد والزوايا والحسينيات العربية.