المثقفون الفلسطينيون.. ما بين صناعة الواقع والغرق فيه
بقلم: حسن عبيد
لم يتوقف النقاش يومًا حول دور المثقف، فهو موضوع جدل وتنظير قديم جديد، وقد كُتب فيه المئات من الكتب والمؤلفات، سواء في دور المثقف في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أو علاقته بالسلطة والطبقات والثورات، أو العلاقة مع السلطة والشعب، وكذلك دور الحركات الثقافية التي أسّست لأيديولوجيات ودول وأنظمة محلية وعالمية.
ومن الأمثلة في التاريخ الحديث التي لعب فيها المثقفون دورًا اجتماعيًّا مركزيًّا، فترة الحراكات والاحتجاجات التي شهدتها فرنسا في فترة 1848-1851، وقد أُطلق عليها وصف ثورة المثقفين أو المفكرين.
في التاريخ الفلسطيني، ومنذ الانتداب البريطاني، وبعد النكبة الفلسطينية عام 1948، لعب المثقفون دورًا محوريًّا وهامًّا في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، كآلية تعبير عن أصالة المجتمع الفلسطيني وجذوره الضاربة في المنطقة، لتعتبر الهوية والثقافة الفلسطينية بمثابة الوطن الوجداني والمعنوي للفلسطينيين في أماكن تواجدهم، وأنها الحاضنة التي تعبّر عن ذاتهم وأحلامهم وتوحِّد نضالهم.
وكذلك التي من خلالها يكون للفلسطينيين روايتهم لقضيتهم وحقهم في تقرير المصير، ومن هنا أخذ المثقف الفلسطيني دوره وأهميته، إلا أن هناك تحولات جوهرية طرأت على أدوار المثقف خاصة بعد اتفاق أوسلو، وهذا ما سيتطرق إليه المقال لاحقًا.
هذه التراكيب المتمثلة بالثقافة والهوية وما نتج عنها من أعمال ومؤسسات، وكذلك المثقفون والرواية، شكّلت ما أسماه جميل هلال بالحقل الثقافي، الذي يعتبر أنه حافظ على استقلاليته وأقدميته عن الحقل السياسي، وهو ذلك الحيّز الذي نشط من خلال حركة التحرر الوطني في إطار سعيها إلى نيل دولة، ويشمل كل ما يحقق ذلك من مؤسسات وأحزاب ومرجعيات سياسية وقانونية.
ويرى هلال أنه بعد نكبة عام 1948، وتفكُّك الحقل السياسي، حافظ الحقل الثقافي الفلسطيني على حيويته، وساهم لاحقًا في إعادة بناء حقل سياسي وطني جديد، ما جعل للمثقف الفلسطيني خصوصيته التي تختلف عن المثقفين في العالم.
وبعيدًا عن التعريفات التي لا تعدّ ولا تحصى للمثقف، فإن المثقف في السياق الفلسطيني له تعريفه الخاص، وهو الأقرب إلى ما وصفه أنطونيو غرامشي فيما كتب في “رسائل السجن”، بـ”أن جميع الناس مفكرون أو مثقفون، لكن وظيفة المثقف أو المفكر لا يقوم بها كل الناس”.
فقبل أوسلو كان المثقف محور عملية تسييس الثقافة، ولا تكتمل الدائرة النضالية إلا من خلاله، ابتداءً من الفكرة والمعرفة، مرورًا بالتنظير وانتهاءً بالممارسة السياسية والنضالية، والدور الفعّال في المؤسسات والأحزاب الفلسطينية، ليدرك المثقف الفلسطيني أنه ليس واعظًا، إنما أقواله من لحم ودم، لذلك ربما نشأت ظاهرة التحزُّب الفكري والثقافي التي سارت جنبًا إلى جنب مع التحزُّب السياسي، ويزخر التاريخ الفلسطيني بهذه النماذج الثقافية، مثل غسان كنفاني وكمال ناصر وناجي العلي وعبد الوهاب الكيالي.
إلا أن هناك تحولات جذرية طرأت على أدوار المثقفين الفلسطينيين بعد أوسلو، تفسّر الضعف في دورهم في الحرب على قطاع غزة التي اندلعت بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، هذه التحولات أدخلت المثقفين في طور الاستعصاء في استعادة دورهم التاريخي.
والاستعصاء هنا لا تسبّبه العوامل الخارجية وحسب، إنما العوامل الذاتية، والتي تصبح مقيِّدة أكثر من عدة عوامل، وتصبح هذه العوامل مقيِّدة لبعضها، وحتى يتحرر أحد هذه العوامل يجب أن تتحرر عوامل أخرى مرافقة له.
من أبرز التحولات التي طرأت على دور المثقف الفلسطيني بعد أوسلو، هو انفكاك علاقة المثقف بالحقل السياسي، فبعد أوسلو اعتبر السياسي الفلسطيني أنه قد أنهى مقولته الثقافية، ولم تعد الأولوية للرواية والسردية الفلسطينية التي هي بطبيعتها تتغذى على الثقافة وتتشكّل بأيدي المثقفين، واُستبدلت الهوية كوطن وجداني للفلسطينيين في أماكن شتاتهم بالكيانية المؤسسية، وانصبَّ السياسي الفلسطيني على مقولات الدولة والكيانية والحكم والسلطة.
هذا الاستعصاء في استعادة دور المثقف مردّه أنه بعد أوسلو بتنا بلا مشروع ثقافي تسوّغه المدرسة الوطنية والفعل السياسي المجتمعي، وهذا دفع بعض المثقفين إلى مقاربات تعتمد بشكل مركزي إسقاط بعض التجارب العالمية على الحالة الفلسطينية، واستخلاص مسارات التجارب العالمية لمقاربتها مع الحالة الفلسطينية، دون الاستقلال بمسارات فكرية خاصة تراعي خصوصية القضية الفلسطينية والطبيعة الاستعمارية لفلسطين.
بعد أوسلو، أصابت الحقل الثقافي والمثقفين حالة استعصاء في إحداث تأثيرات على الحالة السياسية والنضالية كما كانت سابقًا، فبعد أوسلو تفكّكت الحركات أو التحزُّبات الفكرية، والتي كانت رغم اختلافها في مقارباتها، إلا أنها في معظمها تتفق على الهدف وهو التحرير والآلية، وهو الكفاح بكافة أشكاله.
ولم يستطع المثقفون ومثلهم السياسيون إيجاد مسارات تخرج عمّا أنتجته أوسلو، وأصبحت أوسلو منطق ومحدد التفكير، والصندوق الذي لا يمكن الخروج عنه في الأفكار، ورغم أن المسارات النضالية لم تتوقف وخرجت عن آليات الإخضاع والتنميط، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى كسر التنميط في الرؤى والأفكار الذي أصاب العديد من المثقفين والسياسيين.
وكما أن هناك استعصاء لدى الحقل السياسي الفلسطيني في تحويل المسارات النضالية المبهرة للمجتمع الفلسطيني إلى إنجازات سياسية معتبرة، فإن هذا الاستعصاء أيضًا لحق بالحقل الثقافي الفلسطيني، فلم يشكّل المثقفون تيارًا أو حركة قادرة على التأثير في الحقل السياسي، أو تسخير النضال الجماهيري في تحقيق إنجازات سياسية.
حيث إن العديد من المثقفين شددوا على الواقعية السياسية، لكن دون تغيير الواقع، أو تبرير الواقع والخضوع للسياسة، أو في أحسن الأحوال الطعن في السياسة دون إيجاد بدائل، أو الاكتفاء بمظاهرات التواقيع واللوائح الاحتجاجية على بعض السياسات المحلية أو الدولية.
ساهمت أوسلو في تكريس دور ما أسماه غرامشي المثقف العضوي، لكن باتجاه تفكيك المشترك الثقافي، حيث انحاز العديد من المثقفين إلى أحزابهم السياسية ومؤسساتها، وانخرطوا في التنظير لرؤاها وخياراتها، وتنظيم وظيفتها وتكييف بقائها.
فقد استقطبت السلطة الفلسطينية العديد من المثقفين للمساهمة في التنظير لمشروعها السياسي، وانخرط جزء من المثقفين في مؤسسات المجتمع المدني، والتي اضطلع جزء كبير منها بأدوار ارتبطت بشروط المانحين الدوليين، أو الحزبيين الذين انخرطوا في الدفاع عن الخيارات السياسية لأحزابهم، بمعنى أن أوسلو ساهمت في تقسيم المثقفين لمجموعات تنحاز إلى مؤسسات معيّنة، وتستمدّ قوتها وسلطتها من هذه المؤسسات، لا العكس.
وتكاتفت التحولات العالمية مع أوسلو في التأثير على دور المثقفين الفلسطينيين، فقد تراجع النضال من أجل القيم العالمية العليا إلى القضايا المحلية، ومن الاهتمام بالقضايا المحلية والتأثير فيها إلى الانكفاء على الوظيفة والتخصص والسجالات الأكاديمية.
ولا يقتصر دور المثقفين في التأثير على الحقل السياسي فحسب، إنما في التنظيم الاجتماعي، ولربما هو أهم ما يحتاجه المجتمع الفلسطيني اليوم، فدور المثقف لا يقتصر على الخصائص الجوهرية لنشاطه الذهني فحسب، بل يتعداها إلى الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المثقف لمجتمعه.
فالمثقفون هم الطليعة السياسية والاجتماعية التي تعمل وتجتهد لجلب وعي الفئات الاجتماعية المتنوعة، في سبيل تحقيق المعنى والفهم لموقع الفلسطيني في المجتمع ودوره النضالي في تقرير المصير.
من المهم حتى يستعيد المثقف دوره الطليعي في الحالة الفلسطينية، أن يكون هناك اعتراف بالتقصير والتراجع في الدور، فربما مهمة المثقف اليوم أصعب من السابق، فالمطلوب منه أن يعيد رواية القضية الفلسطينية من جديد، وأن يعيد تشكيل حقل ثقافي ريادي غير منطوٍ على نفسه، وإنشاء حركة ثقافية تخرج الفلسطينيين من مأزقهم السياسي، وتساندهم في نضالهم، وتعيد تجميعهم من جديد.