الخروج من الفوضى الفكرية

بقلم: علي محمد فخرو *

 

التغيرات المتلاحقة والمتضادة أحياناً، في المشهد السياسي العالمي، ومن ثم المشهد السياسي العربي، تجعل من الصعب الوصول إلى استنتاجات تحليلية فكرية مستقرة وموثوق في واقعيتها. فإذا أضيف إلى ذلك انتشار الضعف الالتزامي الخلقي عند الكثير من المتابعين لتلك التغيرات، وتراجع الثقة في الكثير من مصادر المتابعة التاريخية السابقة، مثل بعض محطات الراديو أو التلفزيون المعروفة، بانتهاج الموضوعية المتوازنة، حتى لو كانت نسبية، يتبين عِظَم المأساة التي تعيشها مصادر نقل وتحليل ونشر الخبر في هذا العالم، الذي وصل إلى مشارف الجنون. يفسر البعض كل ذلك بأن الفلسفة البراغماتية السياسية تقتضي ذلك، لكنهم ينسون أن ازدياد ضعف الضمير والموضوعية والقيم في أية ممارسة براغماتية، يقلبها إلى ممارسة فاشستية قبيحة مبتذلة. وهذا ما هو حاصل الآن في أمريكا، فقد بدأت المحاكمات المكارثية المريضة تنتشر في كل مكان، وأصبحت المشانق الإدارية تنصب حتى طالت رؤساء الجامعات الشهيرة، من الذين تجرأوا على إبداء تعاطف مع، أو تفّهم لمآسي الشعب الفلسطيني المحتلة أرضه، والمهانة كرامته والمحارب في معيشته، والمهدد بإعادة تشريده إلى فيافي الأرض، أو تجرؤا وانتقدوا الهجمة الحيوانية الهمجية الصهيونية على أرض غزة وساكنيها، قتلاً وتدميراً لم يعرف العالم مثله، بل أصبح الخطاب الفاشستي جزءاً من الخطاب السياسي الأمريكي، ونسيت أمريكا كل ما تجمع لديها سابقاً من فكر براغماتي معقول.

أصبح الخطاب الفاشستي جزءاً من الخطاب السياسي الأمريكي، ونسيت أمريكا كل ما تجمع لديها سابقاً من فكر براغماتي معقول

أما في الوطن العربي، صاحب القضية وحامل مآسيها، فإن الانقلاب أخذ صورة أخرى: تجرّع الذل، وتنكيس الرؤوس، والاكتفاء ببضع جمل باهتة مثيرة للشفقة، وخذلان الأخ والأخت والولد في فلسطين المنكوبة، وأحياناً وصل الأمر عند البعض منع حتى انتقاد العدو الصهيوني بالكلام خوفاً من بطشه وبطش من وراءه. في هذه الأجواء الحزينة المأساوية أصبح تكوين الاستنتاجات المعقولة مستحيلاً بعد أن تغير من كانوا يلبسون جلود الأسود في بلاد العرب، إلى لبس جلود الخراف المذعورة، وبعد أن أصبحت اليد الطولى لمن كانوا لا يجرؤن على المساس بهذه الأمة في خمسينات القرن الماضي، من دون أن يواجهوا بنضال وصمود الملايين من شعوب العرب لدحر تدخلاتهم. ما يجب أن تعيه شابات وشباب الأمة أنهم في هذه اللحظة يحتاجون إلى عدد هائل من القيم ليفعلوها حتى يستجمعوا ما تمزق في نفوسهم ويعاودوا النضال من جديد. أول هذه القيم هو عدم تراجع المشاعر الوطنية والقومية والإسلامية في نفوسهم، تجاه محاربة أعداء الأمة التاريخيين والجدد، وعدم تراجع الإرادة السياسية عندهم والإصرار على عدم السماح لأية قوة انتهازية داخلية بهجر الالتزامات العروبية. لكن ذلك يتطلب بالحاح شديد أن يكونوا قادرين على أن لا ينجرفوا في بحر الإعلام المزيف الذي يحيط بهم ولا في بحر المؤامرات، باسم الطائفة أو القبيلة أو القطر أو الجهة، أن يجرفهم. نحن في فترة قلق شديد، وضباب سياسي مكثف، ومناظر متناقضة لا تنتهي، ولذلك فإن شباب الأمة لن يخرجوا من تلاطم الأمواج ويعودوا إلى النضال المنظم التراكمي إلا إذا تسلحوا بثقافة سياسية متينة عميقة تحميهم من كل ذلك. في الماضي كانت هناك مؤسسات رسمية ومدنية شعبية تقوم بذلك. الآن يحتاج الشباب والشابات أن يعتمدوا كثيراً على أنفسهم. وهذه ملحمة جديدة تضاف إلى قدرهم لمواجهة عصرهم.

*كاتب ومفكر بحريني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى