العدو يراوح في «المربّع صفر».. السنوار يراهن أن قواته تستطيع البقاء تحت الأرض أكثر مما يطيق جيش العدو البقاء فوقها
تشير التطورات الميدانية في قطاع غزة، خلال الأيام الثلاثة التي أعقبت نهاية الهدنة، إلى أن المقاومة استطاعت استعادة زمام المبادرة مجدداً، وهو ما تأكد مساء أمس، مع إعلان «الإعلام العسكري» التابع لـ«كتائب القسام» انسحاب 70% من القوات الإسرائيلية خارج شمال القطاع لفشل عملياتها، وتحت وطأة ضربات المقاومين. وفضلاً عن حضور القوة الصاروخية اللافت في مناطق الاشتباك كافةً، ولا سيما أحياء مدينة غزة وشمالها، والتي نالت الحصة الأكبر من الضربات الجوية والعملية البرية خلال الأيام الـ 45 التي سبقت الهدنة، أضحت تلك المناطق أخيراً ميداناً لإطلاق الرشقات الصاروخية الكبيرة، التي طاولت في معظمها مستوطنات غلاف غزة. وإلى جانب ذلك، عادت المقاومة إلى العمل النوعي في محاور تمركز دبابات العدو، ولا سيما في أحياء القاطع الغربي، مثل الشيخ رضوان والنصر، حيث شهدت المحاور المذكورة هجوماً مضاداً شاملاً، عملت فيه الوحدات المضادة للدروع التابعة للمقاومة.ووفقاً لشهادات ميدانية، فقد شهدت منطقة دوار أبو علبة ومفترق طموس ومقبرة الشيخ رضوان ودوار الإيطالي – النصر، مواجهات عنيفة جداً، قام خلالها مقاومو «كتائب القسام» و«سرايا القدس» باستهداف العديد من دبابات العدو ونقاط تمركز الجنود. وقالت المصادر إن المنطقة تحوّلت إلى ساحة حرب، شاغلت فيها المقاومة القوات البرية الإسرائيلية على المحاور كافةً، ما دفع بالأخيرة إلى تنفيذ عملية تمشيط نارية وقصف عنيف للمنازل ومفترقات الطرق، استُخدمت فيها القنابل الدخانية بغرض إعماء المقاومين عن نقاط التمركز التي تغيّرها الدبابات بين الفينة والأخرى. وتضيف المصادر ذاتها، لـ«الأخبار»، أن «دبابات الاحتلال تحافظ بشكل مستمر على التحرّك. تتقدّم بضعة أمتار وتتراجع مجدداً».
على أن ما كان صادماً، هو عودة الاشتباكات إلى مخيم الشاطئ، الذي دمّرت طائرات الاحتلال بالأحزمة النارية نحو 70% من كتلته العمرانية؛ إذ خاض المقاومون هناك اشتباكات ضارية مع القوات المتوغّلة في محور شارع الرشيد البحري، الذي تعدّه قوات الجيش الإسرائيلي نقطة تمركز آمنة بعيدة عن المواجهات. وفي مدينة بيت حانون، أقصى شمال قطاع غزة، عادت حرب الشوارع مجدداً، إذ أعلنت «كتائب القسام» عن استهداف قوة متحصّنة في أحد المباني السكنية بقذائف “TBG” المضادة للتحصينات، مع المحافظة على استمرار إطلاق رشقات من صواريخ «رجوم» قصيرة المدى تجاه تحشدات العدو.
أما الحدث الميداني الأبرز، فشهدته منطقة جحر الديك، شرق المنطقة الوسطى، حيث أعلنت «كتائب القسام» أن عدداً من مقاوميها «تمكّنوا من الوصول إلى تجمّع للجنود الإسرائيليين يضم أكثر من 60 جندياً، وأحاطوهم بثلاث عبوات مضادة للأفراد، وبعد تفجير العبوات الناسفة، قام المقاومون بالإجهاز على من تبقى حياً منهم». كذلك، أعادت المقاومة تفعيل سلاح الطائرات الانتحارية من طراز «زواري»، حيث أعلنت «كتائب القسام» عن تدمير ثلاث دبابات في المحور الغربي لمدينة غزة، بثلاث طائرات انتحارية، وبثّ مشاهد مصوّرة للعملية.
جيش العدو يفتح محورَين جديدين للقتال
وافتتح جيش الاحتلال محورَين جديدين للقتال، الأول في شرق مدينة دير البلح، وتحديداً في منطقة الحكر، والثاني، جيب قتالي ضيق شرقي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة. ورغم عدم وضوح الخطوة التالية في تلك المناطق، وما إذا كانت قوات الاحتلال تنوي زيادة التمدد العميق داخل تلك المدن، أو الاكتفاء بالمستوى الاستعراضي للعملية، فإن المقاومة استطاعت تدمير عدد من الآليات في المحورَين الجديدين، فيما انحصر أداء جيش العدو في إطلاق المجال لزيادة نطاق الأحزمة النارية التي طاولت المئات من المنازل والطرق الرئيسيّة والمساجد والمؤسسات الحكومية.
كذلك، لم يحدث أي تطور جديد في محاور القتال التقليدية (بيت حانون، بيت لاهيا، القاطع الغربي، شرق الزيتون)؛ إذ لم تتقدم تلك الآليات عن خطوط التماس، التي توقفت عندها قبيل الهدنة، متراً واحداً. على أن الجديد في مشهد ما بعد الهدنة، هو أن عمليات القصف المركّزة، بالطائرات الحربية وسلاح الدبابات، تطاول مناطق القطاع كافةً، من شماله إلى جنوبه بشكل متزامن.
حماس فاجأت العدو في الدفاع وليس الهجوم فقط
حقيقة أن المقاومة الفلسطينية في غزة فاجأت إسرائيل والعالم بصمودها منقطع النظير على مدى 58 يوما من الحرب المدمرة على غزة، هي حقيقة نالت إعجاب العالم وشدت انتباه الكثير من المحللين والمراقبين الإسرائيليين وغير الإسرائيليين، وفي هذا السياق كتب الصحافي في “يديعوت أحرونوت”، نداف إيال، أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم تفاجئ إسرائيل في الهجوم (عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) بل في الدفاع أيضا (قدرة صمودها في الحرب) مشيرا إلى أنه بعد أكثر من 55 يوما من الحرب فإن نهايتها ما زالت تبدو بعيدة وغير واضحة النتائج.
وأشار إلى أن حماس فاجأت إسرائيل في تكتيكات الدفاع التي اختارتها، وأنه بالرغم من كثرة الحديث عن التفخيخ والعبوات الناسفة والكمائن الذي استبق العملية البرية والتي حيدها الجيش الإسرائيلي بواسطة القصف الجوي الكثيف، فإن المفاجأة كانت أن قيادة حماس “لم تنجح أو أنها لم ترغب” بخوض معارك واسعة وعنيفة مع وحدات الجيش الإسرائيلي، واختارت أسلوب الاختفاء والابتعاد عن الصدام.
ويقول الصحافي الإسرائيلي إن السنوار “يراهن على الوقت وهو يعتقد أنه يستطيع أن يبقى وقواته تحت الأرض أكثر مما يستطيع الجيش الإسرائيلي البقاء فوقها”، وفي وقت تبحث قوات الجيش الإسرائيلي ذات القدرة العددية والنارية الهائلة عن المواجهة المباشرة، فإن غالبية مقاتلي حماس يفضلون البقاء في خنادقهم الكائنة في مدينة الأنفاق الأوسع والأعمق مما كانت قد توقعته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بينما تتكون المجموعات المقاتلة من خلايا صغيرة، عادة ما تكون مسلحة بقذائف “آر.بي.جي”، التي تخرج من فوهات الأنفاق أو المباني السكنية، وتضرب عن قرب في نقاط ضعف التحصينات الإسرائيلية.
هذا التكتيك هو ما يفسر، ربما، حضور كتائب القسام في مناطق شمال القطاع رغم دخولها من قبل الجيش الإسرائيلي وادعائه بالسيطرة عليها، وهو ما يدفع بالمعلق السياسي ناحوم برنياع لأن يكتب أنه من الصعب “تطهير” مناطق قطاع غزة من المقاومين، فبعد 57 يوما ما زالت الشجاعية تقاتل، ناهيك عن وجود جيوب مقاومة في الأحياء الأخرى، منوها إلى ازدياد دقات ساعة الوقت، ليس فقط بسبب الضغط الأميركي، بل بسبب وضع السكان المدنيين أيضا، مشيرا إلى أنه من المشكوك فيه أن إسرائيل تمتلك أكثر من أسبوعين، وهي فترة لا تبدو كافية لتحقيق الأهداف الطموحة التي أعلنت عنها القيادة السياسية في بداية الحرب.
برنياع الذي يحذر بأن دخول الجيش الإسرائيلي لخانيونس بدون خطة لليوم التالي، يصلح لعملية انتقام وليس لخطوة يفترض أن تخدم إستراتيجية، وبأنه يدخل إلى منطقة مزدحمة بالمهجرين من الشمال الذين يفتقرون إلى مأوى ويشكلون إضافة ديمغرافية إلى سكان خانيونس، وينوه إلى دعوة الجيش الإسرائيلي للسكان إلى النزوح نحو رفح، وذلك في وقت تشير معطيات الأمم المتحدة إلى تعاظم إمكانية انتشار الأوبئة وحدوث أزمة إنسانية.
خفض سقف التوقعات لأنه لن يكون هناك انتصار
ويخلص برنياع إلى الدعوة لخفض سقف التوقعات لأنه لن يكون هناك انتصار في غزة، ومن المفيد الانتقال بالسرعة الممكنة إلى ما يسميها بعملية “الإشفاء والترميم وإعادة المخطوفين”، على حد تعبيره.
وتلتقي هذه الاستنتاجات والتحليلات مع التغيير في الخطاب الأميركي الذي عبر عنه وزير الدفاع، لويد أوستن، بقوله إن بلاده لن تسمح بانتصار حماس، وهو ما اعتبر تحولا بـ180 درجة عن خطاب القضاء على حماس السابق، ويضاف أيضا إلى تصريحات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المشككة بإمكانية القضاء على حماس، معتبرا أن تحقيق هذا الهدف سيعني استمرار الحرب لمدة عشر سنوات. ماكرون قال إن الرد على هجمات حماس لا يكون بالقضاء على منطقة بأكملها أو قصف البنى التحتية المدنية بأكملها.
وحول صعوبات وتعقيدات العملية العسكرية الإسرائيلية وربما وصولها إلى طريق مسدود، يكتب المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس”، تسفي هرئيل، مشيرا إلى صعوبة إخلاء المنطقة الجنوبية من السكان، وعدم قابلية تطبيق خارطة المناطق التي عممها الجيش الإسرائيلي، ويقول إن الحكومة والجيش الإسرائيلي أصبحا يناوران في حقل ألغام فعلي، ومن غير المعروف متى ينفذ الصبر الأميركي، وهو ما يمكن أن يحدث نتيجة “كارثة إنسانية أو نتيجة ارتفاع كبير في أعداد القتلى المدنيين بنيران الجيش الإسرائيلي”.