فـي السّيادة والدّولـة الوطنيّـة

بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب

لم يتبلور مفهوم السّـيادة في الفكر السّياسيّ الحديث مع معاهدة ويستـفالـيا، منتصف القرن السّابـع عشر، كما يعتقـد ذلك كثيرون.

صحيح أنّ المعاهـدة كرّست مبدأ السّيادة بوصفـه مقدَّسـاً من المقدَّسات السّياسيّة من طريق انتزاع الاعتراف به من الدّول جميعِـها التي كانت أطرافاً في الحـروب الدّينيّة الأوروبيّـة، وفي حرب الثّـلاثين عـاماً على نحـوٍ خـاصّ، أو التي لم تشارك فيها لبُـعد المسافـة عن مسارحها؛ وصحيح أنّ هذا المبدأ الذي كـرّسَتْـه المعاهـدة وَقَع استنساخـُه في معاهداتٍ ومواثيقَ دوليّـةٍ أشمل في ما بعـد، فبات كونيّـاً في أحكامه، ولكنّ التّـرسيم والتّوطيـد اللذين حصلا في ويستـفاليا شيءٌ ونشأةَ المفهوم شيءٌ آخـر؛ إذْ تعود هـذه إلى ما قـبل تاريخ التّرسيم ذاك، تمامـاً مثلما أنّ تجربـة السّيادة في تاريخ الدّول تسبق، بقرون عـدّة، تتويج السّيادة بالاعتـراف الرّسميّ بها في معاهـدةٍ كبرى ذات شأن.

للسّـيادة، قبل ويستـفاليا، تاريخان إذن: تاريخُها الواقعيّ، وهو الأقـدم، وتاريخها المفهوميّ أو تاريخُ مفهومها الذي تَـتَـوّج بنظريّـة السّيادة في نهايـة القرن السّادس عشر. أمّا أن يكون للسّـيادة شكلٌ مّا من الوجود قبل انعقاد الإجماع على احترامها (في معاهـدة ويستـفاليا)، فذلك ممّا ليس يمكن الشّـكّ فيه، لأنّ سيادة أيِّ دولـةٍ هي، ابتـداءً، من مقتضيات وجود تلك الدّولة، والدّول ظلّت قائمة ومستمـرّة الوجـود لآلاف السّنين قبل حرب الثّلاثين عاماً والمعاهـدة التي وضعت لها حـدّاً (1648) بإقـرار مبدأ احترام السّيادة الوطنيّـة، وبالتّالي كانت السّيادة في جملة الموجـودات السّياسيّة المقترنـةِ وجوداً بالدّول. مـا من شـكّ في أنّ سيادة الدّول القديمة (الفرعونيّـة والآشورية والفارسيّة واليونانيّة)، أو الإمبراطوريّـات التي تلـتْها تاريخيّـاً (الإمبراطوريّـات الرّومانيّـة والعربيّـة والعثمانيّـة)، سواء على أراضيها أو على السّـكّان، تختلف عن سيادة الدّول الحديثة (التي شهدت على بـدء ميلادها في القرن السّابع عشر) في غيـر مـوْطـن.

من حيث الجغرافـيا التّـرابيّةُ التي لم تكن في ما مضى من نماذج الدّول وتجاربـها واضحةً بما يكفي للقـول إنّها، على التّحقيق، الرّقعةُ الجغرافـيّة التي تمارس عليها الدّولةُ سيادتها؛ بل التي لم تكن فيها حـدودٌ مرسومةٌ أو متـعارفٌ عليها بين الدّول، بينما صارت حدودُ الدّولة – منذ فجر العصر الحديث – أوّلَ بـنْدٍ في جغـرافـيّـة أرضها التي تحدِّد نطاق سيادتها عليها وعلى السّـكّان فيها، الأمر الذي اكتسب معه مفهوم السّيادة معنًـى ماديّـاً مجسَّـداً في سلطةٍ فعليّـة – لا فقط رمزيّـة – على ما يقع داخل تلك الحدود من سكّان أو من ثـرْوات. ثمّ ما لبث مفهوم السّيادة الحديث نفسه أن شهِـد على توسُّعٍ في معناهُ ومجالِـه حين دخلتْ في جملته حيّـزاتٌ وفضاءات أخرى غيرُ ترابيّـة، فبات يُشار إلى سيادات الدّول على مياهها الإقليميّة وعلى أجوائها، فوُضِعت لتنظيم ذلك وتقنينه معاهـداتٌ واتّفاقيّـات دوليّة عديـدة.

ومن حيث الجغرافيا السّكانيّـة التي ما عادت تعني، اليوم، ما عنَـتْـهُ أمس. لم تكنِ السّيادةُ في القديم سيادةً على شعبٍ بالمعنى المتعارف عليه اليوم، بل على شعوبٍ عـدّة (في الإمبراطوريات الكبرى)، أو على قـسمٍ صغيرٍ من شعبٍ مّـا في مدينةٍ – دولة مّا من نوع المدن اليونانيّـة القديمة أو الإمارات الإيطاليّـة أو الألمانيّـة، مثـلاً، قبل قيام الدّولة القوميّـة الحديثة. والأهـمّ من حجم السّكّـان – كِـبَراً وضـآلـةً – أنّ الدّولة ما كانت تملك القدرة، دائماً، على صهْـر جماعاتها السّكانيّـة المختلفة في شعبٍ واحـد و، بالتّالي، كان على قانونها أن يتعايش مع الأعراف المحليّـة المتعدّدة الأمر الذي تتناقـص معه كثافـةُ سيادتها عليه. يختلف الأمر اليوم، لأنّ سيادة الدّولة سيادةٌ على شعب أَمْـكَنَ صهْـرُ تكويناته الاجتماعيّـة المختلفة في كيانيّـةٍ اجتماعيّة واحدة، بعد إحـراز الدّولة الحديثة نجاحات كبيرةً في مضمار سياسات الإدماج الاجتماعيّ.

على أنّ الاختلاف بين نَمَطَيْ السّيادة لا يُـبْـطِل حقيقةَ الاقتران في التّاريخ بين الدّولة والسّيادة بوصفه اقترانـاً تلازميّاً بين كيانين لا يقوم أمـرٌ لواحدهما إلاّ باجتماعه بالثّانـي. أمّا مردُّ ذلك فلِأَنَّ منطق الدّولة، أيّ دولة، وفي أيّ زمن، هو أن تبْـسُط سلطانها على الأراضي التي تخضع لها وعلى السّكّـان الخاضعين لها. وليس السّلطان هذا (= السّلطة) سوى السّيادة؛ وما من دولةٍ في التّاريخ لم تتمتّع به، وإلاّ بَطَـلَ حسبانُها دولة. وآيُ ذلك أنّها ما إِنْ تبدأ في فِـقدان سيادتها على أراضيها أو على رعاياها، حتّى تبدأ في اضمحلال قـوّتها وفي الأفـول التّدريجيّ الذي ينتهي بها إلى السّقوط أو إلى الزّوال. وليس يعني هذا سوى أنّ قـوّة الدّولة من قـوّة سيادتها وضَعْـفها من ضَعْـف السّيادة.

هذه الحقيقة – التي كانت واضحةً في تاريخ العالميْـن القديم والوسيط – أوضح ما تكون في حالة الدّولة الحديثة الذي بات التّـلازم فيها ماهـويّـاً بينها والسّيادة. والحـقّ أنّ معاهدة ويستفاليا – وقد وُقِّـعت لكي تُنْـهيَ الحروب بين الممالك الأوروبيّـة – لم تفعل سوى أنّها صاغت قاعدةً لحماية الدّول من بعضها من طريق وضْع سياداتها خـطّاً أَحْـمرَ لا يجوز انتهاكه. هكذا بدتِ السّيادةُ تلك الضّمانةَ السّياسيّة التي تؤمِّـن للدّولة وجودها وسلامتها، في الوقت عينِه الذي مُـنِـحَت فيه الدّولةُ الحقّ في الدّفاع عن سيادتها وحمايتها من الأخطار التي قـد تتعرّض لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى