تونس والحاجةُ إلى شراكةٍ وتنميةٍ إقليميةٍ مع الجزائرِ
بقلم: توفيق المديني

قام رئيس الحكومة التونسية السيد أحمد الحشاني بزيارةٍ للجزائر يوم الإربعاء 4 أكتوبر 2023،وهي أول زيارة خارجية له منذ تعيينه في منصبه، في أغسطس/آب الماضي، إِذْ أَشْرَفَ بِمَعِيَةِ الوزير الأول الجزائري ، أيمن بن عبد الرحمان، على افتتاح أشغال اللجنة المشتركة الكبرى الجزائرية-التونسية للتعاون في دورتها الـ22، بقصر المؤتمرات “عبد اللطيف رحال”، وأشاد رئيس الحكومة التونسية بالمستوى “المتميز” الذي بلغته العلاقات الجزائرية-التونسية في السنواتِ الأخيرةِ “،والمستندِ إلى الإرادةِ السياسيةِ الواثقةِ والعَزْمِ الصادقِ لقيادتي البلدين في الارتقاء بروابطِ الْأُخُوَّةِ بين بلدينا الشقيقين”، مُعْرِبًا عن “عميقِ الارتياحِ للتطورِ اللافتِ والديناميكيةِ الجديدةِ التي تشهدها مسيرة التعاون في جميع المجالات”.
من جهتهِ، قال رئيس الحكومة الجزائرية في افتتاحِ الْمُنْتَدَى، إنَّ “الجزائرَ أَكْبَرُ شريكٍ اقتصادِيٍّ لتونس في أفريقيا والعالم العربي، إِذْ ارتفعتْ المبادلات التجارية بين البلدين خلال الأشهر السبعة الأخيرة بنسبة 54 %، خارج المحروقاتِ”، مُشِيرًا إلى أنَّ “عَدَدَ المشاريعِ الاستثماريةِ التونسيةِ النشطةِ في الجزائر، بَلَغَ 42 مشروعًا في قطاعاتِ الزراعةِ والبناءِ والخدماتِ، بقيمة 140 مليون يورو.
ولدى استقباله من قبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في قصر المرادية، أوضح رئيس الحكومة التونسية أنَّ هذا اللقاءَ شَكَّلَ “مناسبةً سعيدةً للإطلاعِ على رؤية الرئيس عبد المجيد تبون حول تعزيز علاقات الأخوة والتعاون بين الجزائر وتونس، وكذا على مواقفه تجاه جملة من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، والتي تنسجم مع مواقف ووجهات نظر الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ”.
وفي سياق متصل، ثمن الحشاني، المستوى “المتميز” الذي بلغته العلاقات الجزائرية-التونسية، معربَا عن ارتياح تونس للتطور والديناميكية التي تشهدها مسيرة التعاون في جميع المجالات.
افتتاح منتدى الأعمال وتوقيع 26 اتفاقية بين الجزائر وتونس
وبمناسبة انعقاد الدورة الـ 22 للجنة المشتركة الكبرى الجزائرية التونسية للتعاون، التي عقدت في الجزائر، وبعد انقطاع دام 6 سنوات ونصف، بسبب الاستحقاقات السياسية في البلدين والحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا، وقع الجانبان 26 اتفاقية ثنائية، في قطاعات هامة مرتبطة بالحياة اليومية لمواطني البلدين، مست قطاعات التنمية المحلية والنقل والسكن، والرقمنة والتعليم والتكوين المهني والرعاية الاجتماعية، إضافة إلى السياحة والرياضة والثقافة .وكانت أبرز هذه الاتفاقيات تلك المتعلقة بالتفاهم حول إنشاء لجنة ثنائية لتنمية وترقية المناطق الحدودية. ولم يرد ضمن الاتفاقيات، ما يفيد بمناقشة مقترح قدمه رئيس الحكومة التونسية بشأن تكوين فريق العمل المشترك المكلف بالنظر في تحيين الاتفاق التجاري التفاضلي الذي يعقد أول اجتماعاته قبل نهاية العام الجارية، وكذا مقترح آخر يخص البدء الفعلي في دراسة إقامة منطقة حرة على المستوى الشريط الحدودي بين البلدين.
وجاءت كلمة الوزير الأول الجزائري خلال افتتاح أشغال اللجنة المشتركة الجزائرية-التونسية ، بقصر المؤتمرات “عبد اللطيف رحال”، في الضاحية الغربية للجزائر العاصمة، في شقين أساسيين هما البعد السياسي للعلاقات مع تونس والآخر تناول الملفات الاقتصادية علاوة على الملف الأمني.
أولاً: الشق الاقتصادي للعلاقات الجزائرية التونسية
قَدَّمَ الوزيرُ الأولُ الجزائريُّ أيمن بن عبد الرحمان، تقييمًا “سلبيًا”، حيث قال “نلاحظ أنَّ التعاونَ في المجالاتِ الاقتصاديةِ، على غرارِ قطاعاتِ التجارةِ والصناعةِ والفلاحةِ والسياحةِ والنقلِ والأشغالِ العموميةِ والصيدِ البحريِّ، لايزال يتسمُ بِالضُعْفِ والمَحْدُودِيَةِ، بالرغم من الإمكانياتِ الكبيرةِ التي تؤهلُ البلدينِ لتحقيقِ إقلاعٍ اقتصاديٍّ حقيقيّ”، مضيفًا: “تبقى المبادلات التجارية والاستثمارية، بالرغم من النتائج المرضية التي مَكَّنَتْ من مضاعفةِ تِجَارَتِنَا الْبَيْنِيَةِ خلال السنتينِ الأخيرتينِ، بعيدة عن المستوى المطلوب ولا ترقى إلى طموحاتنا المشتركة ولا إلى مقوماتِ النموِ التي توفرها إمكانات البلدين وفرص التكامل الاقتصادي والمزايا ذات الصلة بالقرب الجغرافي والبنى التحتية التي من شأنها خفض تكاليف النقل والتكاليف اللوجستية الأخرى”.
وأرجع المتحدث “الخلل” الذي يعتري التبادل التجاري بين البلدين إلى عدم تطبيق الاتفاقيات المبرمة، وأكَّدَ “تعاوننا وشراكتنا ينظمهما إطار قانوني غني بعشرات الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، تغطي كافة المجالات، فإنَّنَا أمام الحاجة إلى تطبيقها الصارم وتفعيلها الجيد، مع ضرورة تحيينها المناسب حتى تضمن التسهيلات والتحفيزات الضرورية للرفع من شأن علاقاتنا الأخوية”.
ثانيًا: تَفْعِيلُ الاتفاقِ الأمنيِّ مع تونس وزيادةِ تبادلِ المعلوماتِ
ونبَّهَ مسؤول الجهاز التنفيذي إلى ما تحقق في تعزيزِ العلاقاتِ الجزائريةِ التونسيةِ “بفضل التواصل الدائم بين الرئيسين عبد المجيد تبون، وقيس سعيَّدْ”، قائلاً “نحن نستلهم سعينا وأعمالنا من توجيهاتهما، ونخطو خطواتنا على ضوء خارطة الطريق التي رسماها خلال تبادل الزيارات وعبر تواصلهما الدائم”.وبعدَ تأصيلهِ للواقعِ المتميزِ ومتانةِ العلاقاتِ المتميزةِ بين البلدينِ، عَرَّجَ الوزير الأول، على المخاطرِ والتهديداتِ التي تَطْرُقُ بابَ الجزائر وتونس، لاسيما الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، وقال على مسمع ومرآى كبار مسؤولي البلدين “هل لي أنْ أُذَكِّرَ أنَّ الظروفَ الإقليميةَ والدوليةَ وما تحملُ مِنْ إكراهاتٍ ومخاطرٍ، بل ومن تهديداتٍ، تَفْرُضُ علينا رَصَّ صُفُوفِنَا لرفعِ تحدِّيَاتِها ومجابهةِ أخطارِها وتداعياتِها”، وتابع: “الوضع الدولي الحالي يفرض علينا المزيد من التنسيق والتعاون وتضافر الجهود لتحصين بلدينا وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة في مجالِ مُكَافَحَةِ الإرْهَابِ والجريمةِ الْمُنَظَّمَةِ والْهِجْرَةِ غَيْرِ الشَرْعِيَةِ”.
وشَدَّدَ على أنَّ “اسْتِفْحَالَ آفةِ الهجرةِ السِرِّيَةِ التي باتتْ تحملُ تداعياتٍ تتربصُ بأمنِ واستقرارِ بَلَدَيْنَا، يفرضُ ضرورةَ تعزيزِ عمليةِ التنسيقِ الثنائيِّ والتعاملِ مع هذه الظاهرةِ وفق مقاربةٍ تشاركيةٍ تقوم على معالجة جذورها العميقةِ”.
ولمواجهةِ المخاطرِ الأمنيةِ، دعَا الوزير الأول الجزائريّ إلى “تفعيلِ الاتفاقِ الأمنيِّ الموقعِ في عام 2017 من خلالِ الدعوةِ إلى عَقْدِ الاجتماع الأول للجنة الأمنية المشتركة، مما سيدفعُ لا محالة هذا التعاون إلى مُسْتَوَى نوعيٍّ يضمنُ تحقيقَ أهدافنا المشتركةِ في صَوْنِ أمنِ واستقرارِ بلدينا ومنطقتنا، وأَرْدَفَ على ذلك: “أدعو من هذا المقامِ إلى أهميةِ التعاونِ بين أجهزةِ الشرطةِ والرقابةِ على مستوى مراكزنا الحدوديةِ، وتعزيزِ عمليةِ تبادلِ المعلوماتِ بخصوصِ حركة الأشخاصِ والسلعِ والأموالِ، بما مِنْ شَأْنِهِ تعزيز أمن بلدينا، مِنْ دُونِ الْمَسَاسِ بِإِنْسِيَابِيَةِ الْحَرَكَةِ الْبَيْنِيَةِ، وِفْقًا للقوانينِ المعمولِ بِهَا في الْبَلَدَينِ”.
تطور المبادلات التجارية بين الجزائر وتونس
ُتعَدُّ تونس أكْبَرَ شريكٍ تجاريٍّ مع الجزائر، إِذْ بلغتْ قيمة المبادلات التجارية بين البلدين نحو 1.124مليار دولار أمريكي(أي 3.5مليار دينار تونسي)، بارتفاعٍ بنسبة 12% مقارنة مع عام 2021. وتشير الإحصاءات الرسمية قبل جائحة كورونا إلى أن حجم المبادلات التجارية بين الجزائر وتونس بلغ 1.7 مليار دولار، منها 1.3 مليار دولار صادرات جزائرية نحو تونس، و400 مليون دولار صادرات تونسية للجزائر، وفقا لأرقام كشفت عنها السفارة التونسية بالجزائر.
أما في ما يتعلق باتفاق التبادل الحر مع تونس، فقد صدّرت الجزائر سنة 2019 ما قيمته 124.23 مليون دولار واستوردت بـ24.98 مليون دولار، وفقا لنظام الاتفاقية التفاضلية بين البلدين. وسجلت لاحقًا تراجعًا طفيفًا، حيث بلغ حجم المبادلات 1.259 مليار دولار أميركي سنة 2020، وفق إحصاءات مصالح الجمارك الجزائرية، في حين قُدِّرَتْ الصادرات الجزائرية خارج المحروقات باتجاه تونس -خلال الفترة نفسها- بنحو 80 مليون دولار، مقابل واردات منها بـ228.2 مليون دولار.
وبحسب البيانات الرسمية، تبلغ قيمة المبادلات التجارية بين البلدين أكثر من 1.2 مليار دولار سنوياً، وتشهد منذ عام 2020، نسقاً متزايداً، خاصة في مجال توريد المواد الغذائية والسلع والمنتجات الإلكترونية من الجزائر إلى تونس، التي تستفيد من إمدادات الطاقة من الجزائر عبر اتفاقٍ بأسعارٍ تفاضليةٍ. كما تُعَدُّ تونس وجهةً مهمةً لآلاف من السواح الجزائريين، إذْ بلغ عددهم عام 2019 نحو مليوني سائح، لكنَّها تراجعت هذا العام إلى أقل من 980 ألف سائح.
كما تطور التبادل التجاري بين تونس والجزائر، خلال 8 أشهر الأولى من 2023، بنسبة 58 بالمائة مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2022 في حين يسعى الجانبان، حاليا، الى مزيد التقارب من خلال تنظيم المنتدي الاقتصادي المشترك التونسي الجزائري ، الذي عُقِدَ يومي 3و4 أكتوبر 2023،وشاركت فيه 150 مؤسسة جزائرية و80 تونسية، وبحضور مسؤولين ورجال أعمال من البلدين.
وقدَّمَ الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصّادرات الجزائرية ، مراد بن حسين، بياناتٍ مهمةٍ ، فقال: تونس صَدَّرَتْ الى الجزائر منتوجاتٍ وسلعًا بقيمة 730.7مليون دينار في حين وَرَّدَتْ من السّوقِ الجزائريةٍ ، مَنْتُوجَاتٍ بقيمة تُقَارِبُ 3743 مليون دينار ،مما يجعل القيمة الاجمالية للمبادلات التجارية تُنَاهِزُ 4474 مليون دينار. وتَتَشَكَّلُ الصّادراتُ التونسيّةُ نحو السّوق الجزائريّة،أساسًا من الصّناعات التحويليّة بنسبة 36 بالمائة من اجماليِّ الصادراتِ، والميكانيكيّة بنسبة 32 بالمائة، تَلِيهَا المواد الإلكترونيّة بنسبة 13بالمائة، والمواد المنجميّة بنسبة 8 بالمائة، والمنتجات الغذائيّة والفلاحيّة 6 بالمائة.
وبَيَّنَ بن حسين أنَّ مركزَ النهوضِ بالصادراتِ وَقَّعَ برنامجَ عملٍ مشتركٍ، يَمْتَدُ من 2022 الى 2024، مع الوكالةِ الوطنيّةِ لترقيةِ التجارةِ الخارجيّةِ الجزائريّةِ وذلك تنفيذًا لمذكرةِ التفاهمِ المبرمةِ بتونس، بين الطرفين بتاريخ 4 جوان2015 .ويرمي برنامج العمل، بالخصوص، إلى تبادلِ الطّرفينِ المعطيات الاقتصادية والتجارية التي تهم السوقين التونسية والجزائرية، إلى جانب تشجيع مشاركة مؤسّسات البلدين في مختلف التظاهرات التجاريّة والاقتصاديّة المتنظمة في كلا البلدين.
خاتمة: أهمية إنشاء مناطق التجارة الحرَّة لتطوير الولايات الحدودية
يعتقد الخبراء والمحللون المتابعون للشؤون المغاربية،أنَّ هذا التفاؤل الرسمي الجزائري-التونسي بشأن توقيع 26اتفاقية، لا يلغي مخاوف جدية من أن تبقى الاتفاقيات الجديدة حبيسة الأدراج على غرار حزمةٍ سابقةٍ من الاتفاقيات تجاوزتْ 160 اتفاقية ، بينها 21 اتفاقية وُقِعَّتْ في الدورة السابقة، في مارس/آذار 2017، لم يُطَبِّقْ الْجُزْءَ الأكبرَ منها، بما فيها اتفاقيات تخُصُ إنشاءَ ثلاث مناطق تجارة حرَّة على الحدود، وتوحيد تعرفة الاتصالات الهاتفية، وإعادة تفعيل خط السكك الحديد.
وفيما تَشْهَدُ العلاقات الجزائرية -التونسية تطورًا كبيرًا على الصعيد السياسي، فَإِنَّهَا لم تُحَقِّقْ الكثيرَ على صعيد التبادل التجاري والتنمية المشتركة للمناطق الحدودية، فبقيتْ عديد الاتفاقات غير مُفَعَلَةٍ، سواء لغياب إرادة سياسية لتفعيلها، أو لعوائق تقنية. فالمطلوب من قيادة البلدين خلال اجتماعات اللجان المشتركة ، ليس التركيز على إبرام عددٍ كبيرٍ من الاتفاقيات من دون الاهتمام الخاص بكيفية تطبيقها، وإنَّما يجب التركيز على وضع الآليات العملية لتطبيق ماورد في هذه الاتفاقيات. وهذا ما يفسر بوضوح ضعف حجم الاستثمارات في كلا السوقين التونسية و الجزائرية، وكذلك ضعف التبادل التجاري الذي لا يتجاوز نصف مليار دولار.
قد تقتضي الحكمة والحوكمة إبرامَ عددٍ محدودٍ من الاتفاقيات الناجعة التي تُعَزِّز التعاون في المجالات الحيوية للبلدين، بدل الإعلان عن توقيع عددٍ كبيرٍ من الاتفاقات في كل اجتماع ثنائي، دون توفر ميكانزمات التطبيق ميدانياً أو الاكتفاء باتفاقات فنية وتقنية بين هيئات ومؤسسات غير إنتاجية.
كما أنَّ المطلوب من الدولة الجزائرية تدعيم الاستثمارات في مجال تنمية المناطق الحرَّة الحدودية بين تونس والجزائر ،إذْ بإمكان هذا التكامل الاقتصادي والتجاري انتشال سكان هذه المناطق الحدودية من الفقر، بسبب فرص العمل والشركات التي سينشئها الرأسمال الجزائري .ويمكن للجزائرِ جَنْيِ أرباحٍ متعددةٍ، أولها تحولها إلى بوابة أفريقية اقتصادية، من خلال إيصال السلع من المناطق التي تنتجها المعامل و المنشآت الصناعية على كامل الحدود بين البلدين ،نحو عمق القارّة الأفريقية ، مستفيدة من بُناها التحتية.
فأمام إخفاق إستراتيجيات التنمية للدول المغاربية، التي لم ترق إلـى مستوى الطموحات والآمال السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي علقت عليها الجماهير الشعبية في مرحلة ما بعد الإستقلال، وأمام إستشراس ظاهرة الفوارق الطبقية في معظم البلدان المغاربية، فقد آن الآوان لكل من تونس و الجزائر أن تطورا مشاريع التنمية على طرفي الحدود بين البلدين، بوصفها مناطق فقيرة، وحاضنة للجماعات الإرهابية. فالقاطن على خط الحدود التونسية – الجزائرية يدرك أنَّ هذه الحدود قامتْ في كثير من الأحيان على فصل و تقسيم مناطق ذات خصائص جغرافية واحدة ونسيج اجتماعي متشابك، ومغاير في أحيان كثيرة لما هو موجود في العاصمتين التونسية والجزائرية.
من الملاحظ أنَّ الدولتين التونسية و الجزائرية شديدتَا المركزية حول العاصمتين تونس والجزائر، بل إنَّهما تسميان باسم هاتين العاصمتين. وكان الإفراط في المركزية في السياسة والتنمية أيضا أدى إلى جعل الولايات الداخلية، و لاسيما الحدودية في البلدين كليهما “أطرافًا” هامشيةً و ضعيفةً التنمية ،و بالتالي حاضنة للتهريب والإرهاب. كما أنَّ النسيج الاجتماعي في هذه الولايات الحدودية جعلها عصية على الخضوع لسياسات الدولتين المركزيتين . وهكذا كلما اقتصرت التنمية على العاصمة، و المدن الساحلية، في كل من تونس والجزائر، ازدهرت أنواع التهريب المختلفة في الولايات الحدودية، و التهريب حاضنة أساسية للإرهاب.
وللاستفادة من كامل مميزات إنشاء منطقة التجارة الحرَّةِ على الحدود بين تونس و الجزائر، لا بد من الدولتين الجزائرية و التونسية مواجهة التحدِّيات على مختلف الأصعدة في زمن العولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، الأمر الذي يتطلب من قيادة البلدين بلورة مشروعٍ وطنيٍ إقليميٍّ جديدٍ، والقيام بالإصلاحات الهيكلية العميقة في مجال سنِّ قوانين جديدة تلبي حاجيات الاستثمار والتدفق الحرِّ لحركة السلع و رأس المال والأفراد بين البلدين ، و”رقمنة” المعاملات وتأهيل قطاع البنوك والضرائب ،والعمل على تطهير الإدارة في تونس و الجزائر من البيروقراطية و الفساد، بما يخدم بلورة نموجٍ جديدٍ للتنمية يَفُكُّ أواصر التبعية للغرب ويتحرَّرُ من الشروطِ الْمُجْحِفةِ التي تَفْرُضُها المؤسساتِ الدوليةِ المانحةِ.
إنَّ تونس و الجزائر ،تحتاجان إلى استراتيجية إقليمية متكاملة للتنمية ، تقوم على طرح بناء سوق مشتركة بين البلدين أو أي نوع آخر من التعاون ،لا سيما في مجال حرية تنقل رؤوس الأموال ،وحرية إقامة المشاريع الاستثمارية. وبما أن الجزائر تمتلك أكثر من كمية كبيرة من مليارات من الدولارات متأتية من عائدات النفط والغاز، فإنَّه بإمكانها أن تصرف هذه الأموال لإقامة مشاريع التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية داخل الجزائر لمعالجة الفوارق التنموية بين مناطق البلد الواحد بشكل حاسم، و إقامة مشاريع تنموية في الولايات التونسية –الجزائرية المشتركة ، تزيل الفوارق الإقليمية بين تونس العاصمة و المدن الداخلية والحدودية ،و تحد من الهجرة المتجددة من الأرياف التونسية باتجاه تونس وسوسة وصفاقس، و انتشار الأحياء غير النظامية، التي أصبحت مرتعا للجماعات الإرهابية.
فمن يريد حل مشكل البطالة في كل من تونس و الجزائر، و بالتالي حل مشاكل العاصمتين المكتظتين بالسكان، عليه أن يتبنى استراتيجية إقليمية للتنمية ، بوصفها الاستراتيجية الحقيقية المطلوبة في عصر العولمة الليبرالية ، القادرة على إقامة بنى تحتية متطورة تربط بين العواصم و المدن الداخلية والحدودية بعضها ببعض، و تفسح في المجال لولادة أقطاب تنموية أساسية في كل من تونس و الجزائر خارج نطاق العاصمتين ،كما هي الحال عليه في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ،الأمر الذي يتطلب تغييرًا جذريًا في نمط إدارة الدولة والمجتمع ، بين المركز والأقاليم ،أي نحو تحقيق اللامركزية السياسية و الإدارية ، أي تطوير الديمقراطية التشاركية عبر خلق المجالس المحلية في المناطق الداخلية و الحدودية لكي تتمتع بسلطات حقيقية ، والانفتاح المحتوم للحدود بين البلدين ، يتيح حرِّية تنقل السلع و رأس المال والمواطنين.