ذكرى رحيل عبد الناصر.. بعد رحيله كل العرب أيتام!

بقلم: د موسى الحمداني/ لندن

 

 
كانت إرادة الله أن يكون آخر مؤتمر قمة يحضره جمال عبد الناصر هو ذلك المؤتمر الذي طالب بعقده بشكل طارىء في القاهرة سنة ١٩٧٠. كانت أحداث أيلول في الأردن على درجة كبيرة من الخطورة و تنذر بتدخل أمريكي (أو أميركي/ إسرائيلي) يقلب الموازين رأساً على عقب و كانت تلك المخاوف تشكل كابوساً ثقيلاً على عبد الناصر الذي ”عسكر“ في فندق الهيلتون، حيث يعقد المؤتمر، ليعمل ليل نهار للتقريب بين الأخوة. شاءت الإرادة الإلهية أن يكون ذلك المؤتمر أكثر مؤتمرات القمة نجاحاً و أن يكون بمثابة ساحة جهاد أبلى فيها الزعيم بلاءً حسناً أبهر الحاضرين و المراقبين و المراسلين. تحقق الهدف المرجو من المؤتمر و هو وقف نزيف الدم العربي بفضل ما بذله عبد الناصر شخصياً من عمل دؤوب و جهد شخصي يفوق طاقة البشر للتوفيق بين الأطراف. لم تكن هناك فرصة للمراسلين و المراقبين ليكتبوا كثيراً عن أحداث المؤتمر و ذلك بسبب صدمة الوفاه المفاجئة للزعيم التي خطفت أنظار العالم و شتت الأفكار. لكنهم فيما بعد كتبوا و أشادوا كثيراً بما تحلَّى به الزعيم من صبر إزاء تعند الأطراف و تشنج المواقف و توتر الجو و بما أظهره من مستويات عالية من الحكمة و البراعة السياسية. لكن ذلك النجاح جاء بثمن باهظ فادح دفعته الأمة العربية، فقد أتى ذلك المؤتمر على ما كان تبقى في جسد الزعيم من قوة فأسلم روحه إلى بارئها بعد توديعه للقادة العرب. كان الاقتتال بين الأخوة في الأردن مفجعاً و مؤسفاً، لا بطولة فيه و لا افتخار بل توبيخ عنيف و تنديد شديد، أما الزهو و البطولة في تلك الأزمة فقد انحصرت في الرجل الذي جازف بنفسه ليخمد نار الفتنة و يوقف النزيف و هو جمال عبد الناصر- بطل النجدة و صاحب النخوة في تلك المحنة و شهيدها الحقيقي.

بعد رحيل الزعيم عُقدت مؤتمرات قمة كثيرة، غالباً لأسباب لا علاقة لها بمصالح الأمة العربية و كل العلاقة بمصالح أمريكا. في مؤتمر القمة الأخير الذي عقد في السعودية، فوجىء العرب بحضور المهرج الصهيوني الفاسد زيلينسكي الذي كان وجوده بمثابة بصقة في وجه من دعاه و وجوه من صفقوا له. حضور ذلك البهلوان لمؤتمر قمة عربي يشير إلى درجة الانحطاط التي وصلت اليها حالة الامة العربية. فما شأن العرب في أوكرانيا و بلادهم تنضح بالمشاكل و الهموم من كل نوع و لون؟ الإجابة واضحة و هي أن دعوة ذلك البهلوان كانت تنفيذاً لتعليمات غربية، و هنا تكمن المشكلة: فالدول العربية فقدت استقلالها بعد رحيل عبد الناصر. لكن كيف و لماذا؟

مع بزوغ شمس القرن العشرين على الشرق الأوسط كان أهم أولويات العرب، و هدفهم الذي بذلوا الغالي و النفيس من أجله، هو الحرية و الحصول على الاستقلال. ظهور عبد الناصر أعطى الاندفاع نحو الاستقلال دفعة ً قوية و زخماً جديداً فلا عجب أن شعلة الحماس بلغت ذروتها في عصره و تبلورت أثناء مقاومة العدوان الثلاثي على مصر و في حرب التحرير الجزائرية التي ساندها بشجاعة و حَمِيَّة. جعل عبد الناصر من إستقلال بلاده مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه الاستقلال: استقلالاً سياسياً و اقتصادياً كاملاً و تحرراً تاماً من نفوذ أو تأثير المستعمر. فلا عجب أنه رفض الأحلاف جميعاً و كان عضواً مؤسساً لحركة عدم الانحياز. للمقارنه كان (و لا يزال) مفهوم الاستقلال عند كثير من الحكام العرب في هو الحصول على ”شهادة إستقلال“ مُوقّعة و مختومة من بريطانيا و مقعد في الأمم المتحدة.

كان عبد الناصر في مسيرته السياسية و نهجه القومي و زهده و نمط معيشته الشخصي يمثل القدوة و المثل الأعلى للعرب، تماماً كما يكون الأب الصالح مثالاً لأبنائه الشباب. بعض القادة العرب كانوا يتحينون الفرصة للانفلات من التزاماتهم الوطنية المفروضة عليهم من شعوبهم و كذلك من النهج القومي الذي كان يمثله عبد الناصر و يحث عليه. و جد أولئك القادة في رحيل الزعيم فرصة لهم للتملص من التزاماتهم بالثوابت الوطنية و الأهداف القومية. و لتبرير و تبرير إنحلالهم السياسي نُظِّمَت تلك الحملة الإعلامية التي بدأت في مصر في السبعينيات للتقليل من قيمة تلك الثوابت و الأهداف ليسهل التنكر لها. على شاكلة: لا يشوب الاستقلال شائبة إذا نفذنا رغبة أصدقائنا الأمريكان، و لا يعيبه تواجد قواعد عسكرية أمريكية في بلادنا، و من قال أن الامة العربية أمة واحدة؟ فالسوري غير المصري و غير الخليجي … بعد عبد الناصر أصبح العرب كالأحداث الايتام تغريهم المتع الزائفة و يتلاعب بهم الكبار و لا يميزون الخبيث من الطيب و لا الصديق من العدو. و هكذا تاهوا عن أهدافهم و أخذت دولهم ترتطم ببعضها و بغيرها بشكل اعتباطي. فمن حرب أهلية في لبنان إلى تمرد مسلح في جنوب السودان و نزاع عسكري بين مصر و ليبيا و توتر بين المغرب و الجزائر و حروب هنا و هناك و … سلام مع إسرائيل!

ظهر الخلل أول ما ظهر في مصر عندما قام رئيسها الجديد بعرضها طوعاً للسيطرة الأمريكية، هكذا نهاراً جهاراً و بلا حياء. تخلت مصر عن استقلالها الذي جاهد أبناؤها طويلاً من أجله و عادت كما كانت و ”كأنك يا زيد ما غزيت“. أصبحت أرض الكنانة تأخذ قراراتها من واشنطن و تقاعدت من دورها القيادي و ابتعدت عن الأضواء لتعيش في الظل على مساعدات الآخرين. و خرج الجواسيس و قادة الإخوان من السجون ليقفوا على المنابر و يجلسوا على مقاعد الرئاسة في الصحف و الجامعات و استشرى الفكر الطائفي المريض في المجتمع. كانت السبعينيات فعلاً بداية عصر الانحطاط: الخنوع السياسي و الجهل الثقافي و التأخر العلمي و الهبوط الفني .. الخ. بأختصار كان الانحطاط شاملاً، فالبلد الذي كان رائداً أصبح يترنح في آخر الركب.
كنا نراقب ما يحدث و نقول ” رحم الله عبد الناصر، فما كان ليسمح بذلك“.

في لبنان أكلت الحرب الأهلية الأخضر و اليابس و قضت عليه نهائياً كدولة ناجحة. سلامة لبنان كانت دائماً في وجدان عبد الناصر الذي كان واعياً و مدركاً لهشاشة البناء الدستوري لذلك البلد المبني على الطائفية. كاد لبنان أن يقع في فتنة مشابهة في خمسينيات القرن الماضي، بعد رئاسة كميل شمعون الذي كان موالياً لإسرائيل، و لكن الله سلّم، و كان لعبد الناصر دور أساسي في تفادي تلك الفتنة. لهذا كنا نراقب ما يحدث في لبنان و نتذكر الخمسينيات و نترحم على عبد الناصر و نقول ”لو أطال الله في عمره ما كان ليسمح بذلك“.

في السبعينيات كان شاه إيران يعيش قمة نشوته بعد أن جعل من إيران قوة كبرى في المنطقة. و كنوع من التباهي نظم احتفالاً بمناسبة مرور ٢٥٠٠ سنة على الامبراطورية الفارسية، حضرة ملوك و رؤساء العالم و قيل عنه أنه كان أكثر الاحتفالات بذخاً في التاريخ. أعقب الاحتفال احتلال ايران لجزر كان يفترض بها أن تتبع الإمارات العربية، و ذلك قُبَيل أن تُمنَح استقلالها الاسمي، و لم يحرك أي من أيتام العرب ساكناً. أيضاً كنا نراقب ما يحدث و نتأسف و نقول: ”رحم الله عبد الناصر، فما كان ليسمح بذلك“

في السبعينيات كانت مصر تعزف أوتار نغمة السلام مع إسرائيل باعتبار أنه أصاب المصريين الكلل من الحروب و أنه حان الوقت لإلقاء السلاح و العيش مع إسرائيل بسلام. نفس النغمة كانت (و لا تزال) تدندن بها بعض الدول العربية من التي لم تحارب إسرائيل مطلقاً لكن يبدو أنه أصابها الارهاق أيضاً، ربما من إفراطها في عدم القتال! من المفارقات أن نفس تلك الدول لم تتردد في التدخل في حروب أخرى في أفغانستان ثم فيما بعد في العراق و في ليبيا و سوريا و اليمن. ذلك التناقض في المواقف يسهل فهمة إذا عرفنا أن قرارات المشاركة في الحرب أو السلام كانت تصدر بناءً على رغبة واشنطن!

في نهاية عقد السبعينيات قامت الثورة الإسلامية في إيران و انتهى جبروت الشاه الذي كان حليفاً لأمريكا و صديقاً حميماً لاسرائيل. لم تقم الثورة الإسلامية بين يوم و ليلة بل طال بها المخاض و تصدرت تطوراتها الأخبار في كل أنحاء العالم. تابع العرب تطورات الثورة بشغف و استقبلوا نجاحها بالابتهاج و التهليل و التبريك – هكذا كانت سليقتهم قبل أن يفعل الإعلام السعودي فعله الطائفي النتن. لكن يبدوا أن انتصار الثورة الاسلامية أصاب بعض الانظمة العربية بالهلع و الفزع فأخذ إعلامها يصف إيران، التي ترفع كلمة الله عاليةً خفاقةً مع أعلامها، دولة مجوسية تعبد النار! من معرفتنا بمواقف جمال عبد الناصر نستطيع أن نجزم أنه كان سيقف مسانداً للثورة الاسلامية و داعماً لها و أنه كان سيستثمر نجاحها لصالح مصر و الأمة العربية.

نستطيع أن نسترسل أكثر في سرد مظاهر التخبط و الفوضى التي حلت على العالم العربي بعد رحيل عبد الناصر. فقد نتج عن التقهقر السياسي الذي بدأه السادات اضطراب ثقافي و اجتماعي واسع النطاق. فتعاون السادات مع المحكومين من الجواسيس و الاخوان كان له انعكاسات كارثية على المجتمعات العربية و الاسلامية. فقد أُزهقت مئات الآلاف، و ربما الملايين، من الأرواح و عاد المسلمون قروناً الى الوراء.

كان عبد الناصر زعيماً ملهماً و قائداً فذاً و مثالاً يحتذى، كما كان أباً قدوةً لكل عربي شريف. تذوقنا معه طعم الحرية و العزة و الكرامة و تعلمنا منه كيف يكون الاستقلال و كيف تكون الشهامة و كيف نرفع الرأس و نذود عن الحق. من سخريات القدر أن مثل ذلك العملاق الأبي الأشم يخلفه قزم ذليل مذعن لأسياده و مهين ، فعلاً شر خلف لخير سلف!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى