الإنسان والآلة والكينونة المتمايزة

بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب

سيكون عسيراً على الوَلِعين بالذّكاء الاصطناعيّ، المهلِّلين لفتوحاته، أن يقيموا على افتراضاتهم دليلاً دامغاً، في الوقت الحاضر، يقطع بأنّ الذّكاء الآليّ يضارع الذّكاء الإنسانيّ في قدراته، ويتفوّق عليه فيها كُلاًّ أو أبعاضاً.

نعم، من المؤكّد أنّ لعمل الذّكاء الآليّ في ميادين الإنتاج والبحث العلميّ والخِدْمات امتيازَ القدرة على الدّيمومةِ وعدمِ التّوقّف في إنجاز ما هو مبَرْمجٌ له إنجازُه؛ إذ هو لا يخضع لنظام ساعات العمل الإنسانيّ، ولا يستفيد من الحقّ الذّهنيّ والبدنيّ في الرّاحة من التّعب. لذلك قد تكون إنتاجيّتُه أعلى بكثير، وإيقاعُ أدائه العملَ أسرعَ بكثير. مع ذلك، ليس يسعه أن يستثمر في عمله الأبعادَ غيرَ المادّية – مثل الرّؤى والتّخييل والمشاعر- التي يملكها الإنسان ويملك القدرة، في الوقت عينه، على تحويلها إلى موارد تزوِّد طاقةَ الخلق والإبداع، لأنّ الذّكاء الآليّ يفتقر إليها بكلّ بساطة ولا يمكن أن يحتازها – بوصفها مَلَكات طبيعيّة – وإن كان يمكن برمجتُها على نظامه برمجةَ محاكاةٍ لا ترفعها إلى مستوى القدرة على الاشتغال الطّبيعيّ.

سيظلّ الذّكاء الآليّ، حتّى إشعارٍ آخر، مقترناً بنظام البرمجة الذي يوجّهه نحو إنجاز عمليّاتٍ بعينها. قد “يجتهد” في ذلك الإنجاز و”يتفنّن” فيه انطلاقاً من الموارد التّقنيّة التي تمدّهُ بها البرمجة الآليّة، لكنّه يظلّ – مع ذلك – في حالةٍ من الحَصْرِ على صعيد الخَلْق، لأنّه يشتغل مستجيباً لنظام المعلومات الذي يُزوَّد به. خارج ذلك يحتاج إلى تغذيةٍ مستمرّة بالمعلومات؛ وهذه مصدرُها الإنسان. ما من شكٍّ في أنّ إمكانيّاته الاستعماليّة مذهلة وبعيدة المدى، ولكنّ أعطاباً أخرى بنيويّة تعتوره فيبدو، بين هذه وتلك، وكأنّه يتردّد بين حدّيْن لا يلتقيان؛ وتلك حالٌ مردُّها إلى الطّبيعة المزدوجة في تكوين الذّكاء الآليّ؛ حيث فيه – من وجْهٍ – شيءٌ من الإنسان (= الدّماغ الإنسانيّ بآلياته المختلفة من خزْنٍ وربْطٍ واستدعاء..)، وفيه – من وجهٍ ثان – نظام الآلة الصّماء التي لا تعتمل من تلقاء ذاتها، بل انطلاقاً من فعْلِ فاعلٍ خارجيّ هو، في هذه الحال، فعْلُ مَن يستخدمها ويبرمجها. إنّ الذّكاء الاصطناعيّ يَعْلَم ويفيد بالمعلومات، ولكنّه لا يشعُر ولا يفكّر. فأمّا أنّه يَعْلَم فعلْمُه مستقًى ممّا زُوِّد به من أنظمةِ معلوماتٍ مختلفةٍ يستطيع الرّبط بينها وتكوين صورة عن شيءٍ مّا أو أشياء؛ وما هذا النّوع من “العلم” بالأشياء إلاّ لأنّ مَبْنى هذا الذّكاء على المعلومات. وأمّا أنّه لا يشعُر ولا يفكِّر فلأنّ هذه الأفعال العاطفيّة والذّهنيّة أفعالٌ إنسانيّة صرف ليس يَسَع نُظُم البرمجة الآليّة أن تبرمج عليها الكومپيوتر أو الرّوبوت (الإنسان الآليّ)، ولا أن تزدرعَ فيه المادّةَ الحيويّةَ التي تتولّد منها تلك الأفعال. أمّا حين يقول مَن يقول إنّ الذّكاء الاصطناعيّ يتجاوز مجرّد الإفادة بالمعلومات إلى حيث يكوِّن منها “رؤيةً” أو “معرفةً” فينبغي الانتباه، حينها، إلى أنّ الرّبط بين المعلومات والتّخطيط والاستنتاج ليست جميعها تُفيد معنى الفكر أو التّفكير. صحيح أنّ الإنسان يقوم بها أثناء عمليّة التّفكير، ولكنّها لا تختصر الفكرَ كلَّه لأنّ معنى هذا إنتاج معنًى جديد من موادّ سابقة.

مع ذلك كلِّه؛ مع هذا الشَّقِّ بين الإنسان والآلة الذي لا يمكن رتْقُه، إلاّ أنّ ما هو في حكم الإنسانيّ مهدَّدٌ بالمصادرة والانقراض كلّما وقع التّوسُّع في تطوير أنظمة الذّكاء الاصطناعيّ والأَتْمَتة الآليّة، على نحو ما هو جارٍ، فعلاً، في الولايات المتّحدة الأمريكيّة والصّين وكوريا الجنوبيّة واليابان والهند وروسيا وبريطانيا… إلخ. قلنا إنّ مضارعة الذّكاء الآليّ للذّكاء الإنسانيّ لن تنتهيَ إلى عتبة التّفوُّق عليه في الوقت الحاضر. وما تشديدُنا على العبارة الأخيرة إلاّ من باب التّحوُّط من إطلاق أحكامٍ قطعيّة جازمة في شأنٍ هو موطنُ تطويرٍ تكنولوجيّ مستمرّ ليس يدري أحدٌ أو يتوقّع إلى أيّ مدًى من خَرْقِ العادةِ قد يصل. نكرّر، ثانيةً، أنّ الفارق بين الذّكاء الطّبيعيّ الإنسانيّ والذّكاء الاصطناعيّ الآليّ سيظلّ فارقاً في النّوع، حتّى وإن تقلّصت مساحاتُه في الكمّ، ولن يكون في وسع الإنسان الآليّ يوماً أن يحتاز المَلَكات الطّبيعيّة الهائلة التي يحتازها الإنسان، إنّ المسافة بينهما هي المسافة بين البرمجيّةِ والإبداعيّة، بين «المعرفة» المعلَّبة والمعرفة المفتوحة…

لن يغيّر كثيراً من صورة الموقف أيُّ تَحفُّظٍ ومخافةٍ ممّا يمكن لهذا الذّكاء الاصطناعيّ أن يفتحه من أوضاعٍ أو احتمالاتٍ على الوجود الإنسانيّ في مستقبلٍ قد يزدحم بالرّوبوتات والخِدْمات الرّوبوتيّة؛ ذلك أنّ برامج استخدام هذا الذّكاء في مناحي الحياة كافّة جاريةٌ على قدمٍ وساق، والخائضون فيها – الذين يضُخُّون في تلك البرامج مئات مليارات الدّولارات كلّ عام – لن يسعهم أن يُحْجموا عن الخوض في ميدانِ منافسةٍ استراتيجيّة يرتدّ عليهم (= الإحجام) بالخسران. ولكنّ الأمرَ الواقع الذي سيفرضه هذا التّسابُق المحموم إلى تعميم استخدام الذّكاء الاصطناعيّ وتسويق برامجه في العالم ينبغي ألا يقع الرّضوخ السّلبيّ له من قِبَل مَن ستسحقهم نتائجُه من البلدان والشّعوب والطّبقات الاجتماعيّة ومن القوى الحيّة والفاعلة فيها من مفكّرين وأدباء وفنّانين وصحفيّين وإعلاميّين وناشطين مدنيّين.. إلخ. إنّ المستقبل الكالح الذي يقترحه هذا الذّكاء على إنسانيّة الإنسان وحده يبرِّر نقد تلك البرامج والوقوف ضدّ تعميمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى