هل تلتحق ليبيا بقطار تطبيع الدول العربية مع الكيان الصهيوني؟
بقلم: توفيق المديني

اللقاء الذي حصل الأسبوع الماضي بين وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، في العاصمة الإيطالية روما، كان بترتيبٍ من وزير خارجية إيطاليا أنتونيو تاياني الذي شجّع رئيس الحكومة الليبية على مثل هذا اللقاء، من خلال إبراز حسنات التطبيع، لناحية “التعاون مع إسرائيل في مجال المساعدات، والخبرات الزراعية والمائية”، وغيرها. وربما تكون الإدارة الأمريكية قد فاتحت رئيسة حكومة إيطاليا جيورجيا ميلوني بالموضوع أثناء زيارتها الأخيرة إلى واشنطن، على أساس أنَّ إيطاليا تربطها علاقات تاريخية مع ليبيا، وأن ميلوني من المقربين من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
وقد أثار هذا اللقاءردود فعل فورية واسعة و في ليبيا، وموجة غضب عَمَّتْ الشارع الليبي في مختلف مناطق البلاد،مندِّدَةً بالتطبيع مع الكيان الصهيوني ،ما دفع رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة إلى اتخاذ قرار بإيقاف الوزيرة عن العمل وإحالتها إلى التحقيق.فرغم سوء الأوضاع ورغم الفوضى ورغم المرحلة الصعبة التي يعيشها الشعب الليبي ،فإنَّهُ ما زال يعرف من هو عدوه وأين هي مصلحته العليا، ولهذا خرج َ في مظاهراتٍ لمدة يومين ،ورفضَ وندَّدَ بهذا اللقاء الذي لا يمثل إرادة الشعب الليبي.
الدبيبة على علم بلقاء المنقوش وكوهين
ورغم أنَّ وزارة الخارجية الليبية أصْدَرَتْ بيانًا ، جاء فيه، إنَّ “ما حدث في روما هو لقاء عارض غير رسمي وغير مُعِدٍّ مُسْبَقًا، أثناء لقاء مع وزير الخارجية الإيطالي”،فإنَّ الخبراء والمحللين،يعتقدون أنَّ خطوة وزيرة الخارجية الليبية المنقوش، لم تكنْ خطوةً شخصيةً ومنفردَةً، ناجمةً عن نقص خبرتها الدبلوماسية كما يحاول أن يصورَّ ذلك رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا ،عبد الحميد الدبيبة،الذي قام بزيارة لسفارة فلسطين في طرابلس،وأكَّدَ من هناك، موقف ليبيا الداعم للقضية الفلسطينية ،وأعلن إقالة وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش من منصبها،واصفًا تصرفها بالفردي لنقص خبرتها الدبلوماسية.
ومن الواضح أنَّ موقف رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة لا يتسم بالمصداقية، لأنَّ اللقاءَ قد جرى بموافقة وترتيب منه، ذلك أن َّذهاب المنقوش من تلقاء نفسها وباجتهاد شخصي منها للقاء وزير الخارجية الصهيوني كوهين ،احتمالٌ ضعيفٌ جدًّا.فرئيس الوزراء الليبي الدبيبة الذي تزايدت الضغوطات عليه في الفترة الأخيرة، وحاجته إلى دعم أمريكي ، رأى من مصلحته ونزعته البراغماتية الرديئة أنَّه يمكن أن يحصل على دعمٍ أمْرِيكِيٍّ من خلال التقارب مع “العدو الصهيوني”، وقد دفع بوزيرة الخارجية لتكون كبش فداء في نهاية المطاف.
هذا اللقاء بين وزيرة الخارجية الليبية المنقوش ووزيرالخارجية الإسرائيلية كوهين، يستند إلى خلفية منسوبة سيرتها إلى معلومات إسرائيلية. ففي 2021، أجرى نائب الدبيبة حسين القطراني اتصالاً مع الطبيب النفسي الإيطالي ديفيد جيربي اليهودي، وهو من أصل ليبي، طالباً وساطته مع السفير الأميركي في ليبيا ريتشارد نورلاند لتأمين الدعم الأميركي للدبيبة ضد اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وبحسب الرواية “جرى لقاء في تونس خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بين جيربي ونورلاند والقطراني، تقرّر أن يليه اجتماع آخر في روما بعد أسبوعين، وبحضور السفير الإسرائيلي في إيطاليا، لكن القطراني تراجع قبل الموعد”، ولم يحصل اللقاء.
لا شكَّ أنَّ لقاء وزيرة الخارجية الليبية المقالة نجلاء المنقوش مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، وضع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيية في موقفٍ صعبٍ في وقت لا تستطيع فيه تحمل نكسة سياسية كهذه،وزاد من ضعفها ،وإنْ كان البعض يرى أنَّ إسقاطها الآن بسبب هذا اللقاء ليس هو الحل للأزمة الليبية، لاسيما أنَّ هناك أطرافًا متربصةً داخليةً وإقليميةً تريد إسقاط حكومة الوحدة الوطنية لمآرب خاصة بها ولأجل تشكيل حكومة والهيمنة على السلطة.
لقد خالفت خطوة المنقوش القانون الليبي رقم “62” الصادر في العام 1957 بشأن مقاطعة دولة الاحتلال، وتنص مادته السابعة على إيقاع “الحبس لمدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 9 سنوات وبغرامة كعقاب لكل من يعقد اتفاقا مع أي نوع من هيئات أو جهات داخل دولة الاحتلال.
والحال هذه، فقد انتهى دور وزيرة الخارجية الليبية المنقوش في الحكومة، ووليس بإمكانا أن تتقلَّد أي منصب سياسي في المستقبل، لأنَّ ما فعلته يمس بثوابت الشعب الليبي الذي يرفض التطبيع مع الكيان الصهيوني،لهذا السبب فرَّت إلى تركيا، طالبة الحماية.
أمريكا دَفَعَتْ وهنْدَسَتْ الخطوة الليبية نحو التطبيع
يرى المراقبون المتابعون لموضوع التطبيع بين الدول العربية و الكيان الصهيوني، أنَّ الولايات المتحدة تقف وراء الخطوة الليبية في إطار ممارستها للضغوطات على الحكومة الليبية للسير في ركاب التطبيع، مقابل إيجاد حلٍّ للأزمة الليبية المستمرة منذ سقوط نظام العقيد القذافي في عام 2011، ودخول ليبيا في حرب أهلية .
فقد كشف مسؤول في الحكومة الليبية لـ”أسوشيتد برس” أنَّ الدبيبة كان على علم بالمحادثات، وأنَّه أعطى الضوء الأخضر للاجتماع الشهر الماضي عندما كان في زيارة لروما، مؤكدًا أنَّ مكتب رئيس الوزراء رتب اللقاء بالتنسيق مع المنقوش.
وقال مسؤول ثان إنَّ الاجتماع استمر نحو الساعتين وأطلعت المنقوش رئاسة الوزراء على الأمر مباشرة بعد عودتها إلى طرابلس، مشيرًا إلى أنَّ الاجتماع تَوَّجَ ِ الجهود التي توسطت فيها الولايات المتحدة لجعل ليبيا تَنْضَمً إلى سلسلةٍ من الدول العربية التي تُقِيمُ علاقات تطبيعٍ مع الكيان الصهيوني.
وشَدَّدَ المسؤول الليبي، على أنَّ تطبيع العلاقات بين ليبيا و”إسرائيل” تَمَّتْ مناقشته لأول مرَّةٍ في اجتماع بين الدبيبة ومدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز الذي زار العاصمة الليبية في كانون الثاني/ يناير 2023.وقال المسؤول إنَّ رئيس الوزراء الليبي أعطى موافقة مبدئية على الانضمام إلى اتفاقات التطبيع، لكنَّه أعرب عن قلقه بشأن رد الفعل الشعبي العنيف في دولة معروفة بدعمها السابق للقضية الفلسطينية.
وممًّا يُؤَكِّدُ مخطط إدارة الرئيس بايدن على تحقيق خطوات عملية في مجال التطبيع بين ليبيا والكيان الصهيوني، ما كشفته “قناة 13 العبرية، “عن استدعاء السفير الأمريكي لدى”إسرائيل”وزير الخارجية الإسرائيلي لتسليمه مذكرة احتجاج من الإدارة الأمريكية، على خلفية تسريب اجتماع إيلي كوهين مع نظيرته الليبية نجلاء المنقوش.وقالت القناة، “إنَّ رسالةَ احتجاجِ القائم بأعمال السفير الأمريكي لدى “إسرائيل”، تُمَثِّلُ رسالةً منضبطةً نسبيا على ما يبدو، تليق بدبلوماسي يمتلك خبرة، لكنَّها حاسمةٌ بذات الوقت”.
وأضافت القناة: “أبلغ المسؤول الأمريكي وزير الخارجية إيلي كوهين أنَّ هناك مشكلةً و يجب على “إسرائيل” حلَّها فيما أكد كوهين للسفير الأمريكي أنَّ “إسرائيل” تتفهم المشكلة وأنَّها لن تُعَبِّرَ بعد الآن عن رأيها علنا في هذا الشأن”.
ونقلت القناة الإسرائيلية عن مسؤولين أمريكيين قولهم، “إنَّ اللقاءَ تَمَّ تنسيقه مُسْبَقًا حيث تناول عدَّةَ قضايا، في خضم التوترات الطويلة مع الولايات المتحدة”.وتابعت، “إنَّ الغضبَ من تصرفاتِ كوهين لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم، إذْ يُؤَكِّدُ دبلوماسيون ومسؤولون في وزارة الخارجية، أنَّ سلوكَ الوزير كوهين في الأشهر الأخيرة في الوزارة يبدو وكأنَّه سلوكَ شخصٍ ينظر فقط إلى الانتخابات التمهيدية في الليكود”.
وقال كوهين منذ عدة أيام :”إنَّ اللقاء التاريخي مع وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، هو الخطوة الأولى في العلاقة بين إسرائيل وليبيا”.وأضاف: “تحدثت مع وزيرة الخارجية حول الإمكانات التي يمكن أنْ تحققها العلاقات للبلدين فضلاً عن أهمية الحفاظ على تراث اليهود الليبيين، بما في ذلك تجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد”.
غير أنَّ الإدارة الأمريكية كانت مستاءة من تسريب خبر اللقاء بين المنقوش وكوهين،مبطّنة، يكشف على ذلك ردَّ مسؤول في الخارجية الأمريكية، يوم الثلاثاء الماضي ، على الموضوع، بقوله إنَّ من شأن هذا الكشف أن يزيد من “تعقيد” عمليةالتطبيع مع ليبيا. وكأن خطوة الخارجية الإسرائيلية كانت بمثابة “تخريب” للمحاولة التي بادرت إليها الإدارة، كخطوة في توجهها لتوسيع “اتفاقيات أبراهام”، والتي تعطيها الأولوية في سياستها الشرق أوسطية الراهنة كمدخل لإقامة معادلة جديدة في المنطقة.
المواقف الإقليمية من “تطبيع ليبيا” مع “إسرائيل”؟
أولا:تونس و التطبيع
بالنسبة لتونس الأمور واضحة ومحسومة، إذ عبَّرَ الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ عن رفضه الكامل للتطبيع فكرًا ومصطلحًا قائلاً أنَّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل الأمة وذلك وفق ما نشرته الرئاسة التونسية خلال إشراف سعيَّدْ الثلاثاء29أغسطس 2023، بقصر قرطاج على موكب تسليم أوراق اعتماد 4 سفراء جدد حيث اعتبر موقفه رسالة طمأنة واضحة وصريحة للجارة الجزائر التي تعتبر أي حديث عن التطبيع تهديدًا لأمنها القومي.
وأكَّد قيس سعيَّدْ بأنَّه لا يُعِيرُ مصطلح التطبيع أي اهتمام قائلاً “هذا المصطلح غير موجود لديّ على الإطلاق” مضيفًا “رغم أنَّ للدولة الفلسطينية سفراء.. لا تنسوا الحق الفلسطيني.. الحق المشروع.. فالقضية الفلسطينية القضية المركزية لكل الأمة ولمن يتحدث عن التطبيع أقول إنَّ هذا المصطلح غير موجودٍ لديّ على الإطلاق”.وشدَّدَ على ضرورة أن يعود الحق للشعب الفلسطيني وضرورة أن تكون فلسطين دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف.
أمَّا في عهد النظام البورقيبي ،فقد بنت الدولة التونسية موقفها من القضية الفلسطينية على أساس قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة و المعروف بالقرار الرقم 181 . و انتهج الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة سياسة خارجية معادية للقومية العربية و العروبة ، بحكم الخلاف المستحكم بينه و بين الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر ، حتى أن الرئيس التونسي أعلن في خطاب له في أريحا عام 1965 اعترافه بقرار التقسيم و طالب الفلسطينيين بالاعتراف بالأمر الواقع والقبول بـ” دولة فلسطينية ” في الضفة الغربية و قطاع غزة ضمن سياسة ” خذ و طالب “.
و قد اتهم بورقيبة في حينه من قبل الأنظمة الوطنية و التقدمية و الأحزاب اليسارية والقومية العربية بـ” خيانة ” قضايا الأمة العربية ، خصوصا ً عندما أكد مقولته الشهيرة ” إننا مع ما يختاره الفلسطينيون لأنفسهم ” في إشارة واضحة إلى رفع وصاية الأنظمة العربية على الفلسطينيين ، و هي المقولة التي طورتها قيادة عرفات لاحقا في إطار استغلال التناقضات العربية الرسمية ، و أطلقت عليها مصطلح ” القرار الفلسطيني المستقل “.
وفي عهد نظام زين العابدين بن علي، شهدت العاصمة الأمريكية لقاءً مدويا ً ومصافحة حارة بين وزير الخارجية التونسي السابق الحبيب بن يحيى ونظيره الصهيوني شمعون بيريز في أيلول / سبتمبر 1993 . ولم يكن ذلك اللقاء للمطالبة بتعويضات مالية أو ما يشبه ذلك، بل جاء ليدشن رحلة ساخنة من العلاقات الودية بين الدولتين . ثم جاءت سنة 1994 لتكون سنة الاعتراف المتبادل بين الدولتين ، وسنة إقرار مبدأ تبادل التمثيل الدبلوماسي بين العاصمة تونس وتل أبيب . وقد علق شمعون بيريز على هذه الخطوة بالقول ” أعتبر هذا إنجازا ً من الدرجة الأولى وأعزو أهميته إلى الإعلان عنه . . إذ ليس هناك أسرار ” . . وأضاف أنه يعتبر ” تونس موطئ قدم مهم جدا ً للدبلوماسية الإسرائيلية في شمال أفريقيا ” .
بعد هذا الحدث شهدت العلاقات التونسية الصهيونية طوال سنوات ثلاث متتابعة تناميا ً سريعا ً فاق كل التوقعات ، فقد غدت تونس قبلة مفضلة للصهاينة ، من دبلوماسيين ورجال أعمال وسواح ومصطافين . وقد شهدت سنوات 1994 و 1995 وبداية 1996 قمة المد في العلاقات التونسية الصهيونية ويظل البعد الخفي من العلاقات بين الدولتين أهم بكثير مما هو علني منه ، فنظام تونس المتخوف من ردود فعل المعارضة المتنامية داخليا ً ومن الرفض العربي للهرولة نحو الكيان الصهيوني جعله يحرص كثيرا ً على أن يبقى أكبر قدر من علاقاته الصهيونية سريا
ثانيًا:الجزائر ترفض التطبيع
أمَّا بالنسبة للجزائر، فإنَّ مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، تُعَدُّمن المسائل الخطيرة، ، نظرا لموقفها المؤيد للقضية الفلسطينية، والرافض لعمليات التطبيع الجارية مع “إسرائيل”، منذ عشرات السنوات، وآخرها التطبيع المغربي، الأكثر حساسية نظرا للجوار الحدودي بين البلدين، وتداعياته على الجزائر الداعمة للقضية الفلسطينية. ودخلت الجزائر في حالة قطيعة مع المغرب، عام 2021، بسبب العديد من الأزمات السياسية، وخاصة مسألة التطبيع، والتي تعتبرها تهديدا للأمن القومي.
وأوضح بيان الخارجية الجزائرية، أسباب اللجوء إلى القطيعة، ومنها، تخطيط وتنظيم سلسلة اعتداءات خطيرة، ضد الجزائر، ومنها الاتهامات التي أطلقها وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي، خلال زيارة رسمية للمغرب، بحضور نظيره المغربي، واعتباره المحرض الرئيسي على الاتهامات. كما قالت الجزائر، إنه لم يسبق أن قام عضو في حكومة الاحتلال، بتوجيه رسائل عدوانية لدولة عربية، من أراضي دولة عربية أخرى مجاورة، كما حدث في المغرب، واصفة ما جرى بالتهور والعدوانية الشديدة.
كما اعتبرت الجزائر، قيام المغرب بمنح موطئ قدم لقوة عسكرية أجنبية، في المنطقة المغاربية، عملا خطيرا وغير مسؤول ينتهك معاهدة الأخوة وحسن الجوار بين البلدين، عقب اتفاق التطبيع مع الاحتلال، إضافة إلى اتهام الجزائر، للمغرب، بإجراء عمليات تجسس واسعة، ضد مواطنين ومسؤولين جزائريين، عبر تقنية “بيغاسوس” الإسرائيلية، والتي تسببت بفضيحة عالمية.
ومنذ توقيع اتفاقيات كامب دافيد عام 1979 بين الكيان الصهيوني ومصر، سعت “إسرائيل” إلى تحقيق اختراق القارة الأفريقية بعمليات التطبيع، ومحاصرة الدول الوطنية المعادية له، ولا سيما الجزائر وتونس وليبيا، لما يحمله ذلك من تأثير على الصراع مع العدو الصهيوني.
ف”إسرائيل” تقدم مساعدات استخبارية وأمنية وتدريبات عسكرية، للدول الأفريقية ا، لدعمها في المحافل الدولية، للتصويت لصالحها، فضلا عن محاصرة الجزائر، في المشاريع الاقتصادية في أفريقيا، مثل خطوط أنابيب الغاز، مع المغرب، والذي كان من المفترض أن ينقل الغاز إلى أوروبا. كما أنَّ التطبيع بين المغرب و “إسرائيل” يدخل في إطار استراتيجية الحصار الإقليمي للجزائر، ما يشكل تهديدًا لأمنها القومي، لا سيما أنَّ الموقف الرسمي والشعبي في الجزائر، متطابق من القضية الفلسطينية، وهناك رفض للتطبيع، بكافة أشكاله في الجزائر ومحيط الجزائر العربي والأفريقي.
ليبيا القذافي والتطبيع مع الكيان الصهيوني
في قراءة تاريخية لموضوع التطبيع بين ليبيا و الكيان الصهيوني، ما جرى مؤخرًا بسبب خطوة وزيرة الخارجية الليبية المنقوش، ليس مفاجأً، إذا علمنا أنَّ هناك محاولات للتطبيع في السابق جرت في ظل حكم العقيد القذافي .فقد ارتدي التطبيع بين ليبيا و الكيان الصهيوني شكلا ً مختلفا ً عن البلدان المغاربية الأخرى. فهو، وإن كان وقودا ً للتقارب مع واشنطن، فإنَّ العقيد معمر القذافي تعاطى معه بحذرٍ شديدٍ مخافة أن يقضي على شعبيته في أوساط شعبيةٍ عَوَّدَهَا على الخطابات القومية الملتهبة ضد “إسرائيل”.
على الرغم أن ليبيا اعترضت رسمياً على المناورات المشتركة مع الصهاينة، إلا أن المؤشرات تشير إلى حدوث تقارب بين ليبيا و الكيان الصهيوني ، بعد تعهد الزعيم الليبي معمر القذافي في نهاية العام 2003، التخلي عن الأسلحة غير التقليدية في خطوة رحبت بها الولايات المتحدة الأمريكية. وكان وفد من اليهود الإيطاليين من أصل ليبي زار طرابلس في تشرين الأول/أكتوبر 2003، و التقى مسؤولين ليبيين. و كانت صحيفة “معاريف” في عددها الصادر يوم 12تشرين الأول/ أكتوبر ،2003ذكرت: أنَّ الزعيم الليبي استقبل مجموعة من اليهود الإيطاليين. و في السياق عينه ، قال نجل الرئيس الليبي سيف الإسلام، إنَّ طرابلس ” ماضية في التغيير والإصلاح و لا رجعة إلى الوراء من أجل الاندماج في المجتمع الدولي”، مؤكدا ً أنَّ “ليبيا اليوم ليست ليبيا الأمس”. وكان سيف الإسلام معمر القذافي وعد “الإسرائيليين” الذين هاجروا من ليبيا بمنحهم تعويضات على العقارات والأموال التي تركوها في ليبيا.
ومنذ تجسيد السياسة الخارجية الليبية القطيعة مع ماضيها الثوري الملتزم بقضايا الأمة العربية ، و قضايا التحرر الوطني في العالم الثالث ، تسارعت وتيرة التطبيع بينها و بين الكيان الصهيوني سريعا ً. ومن المؤشرات على هذه السياسة الجديدة : بعد زيارة وفد اليهود من أصول ليبية ، سربت أوساط إعلامية حصول لقاء في العام 2003 بين العقيد القذافي ورافايلو فلاح رئيس “جمعية يهود ليبيا”، وبداية الاتصال بين وزير خارجية “اسرائيل” سيلفان شالوم و”مسؤولين ليبيين”، وتصريح سيف الاسلام القذافي إلى جريدة “الأهرام” المصرية حول “عودة اليهود الليبيين المرحّب بهم في بلدهم”، ودعوة نائب رئيس الكنيست موشي كحلون من حزب الليكود للقيام بزيارة طرابلس يرافقه وفد من اليهود الليبيين، بعد اللقاء العام الذي يعقده يهود ليبيا في روما قبل نهاية العام 2003… هذه كلها مؤشرات توحي بأن طرابلس عاقدة العزم على المضي قدما ً في ركوبها قطار التطبيع كي لا يفوتها.. ومن المعروف أن رافايلو فلاح هو الذي استقبل “الحجاج” الليبيين الذين زاروا القدس قبل سنوات. ويبلغ عدد اليهود الليبيين نحو 140 ألفاً، بينهم 130 ألفاً في الكيان الصهيوني ، والباقي موزّع على دول أوروبية، وفي إيطاليا بشكل خاص. وكان نحو 38 ألفاً من بينهم قد غادروا البلاد بعد حرب 1967.
ويتولى الموقع الخاص بيهود ليبيا على الانترنت نشر التقارير حول أهمية تنظيم الليبيين اليهود في الكيان الصهيوني تحت سقف واحد في طلب التعويضات. وخصص الموقع مساحة واسعة للشرح عن وضع اليهود في ليبيا ومن ثم السماح لهم في الوصول الى الكيان الصهيوني وذلك في قرار صدر في 19 كانون الثاني (يناير) 1949. وكما يذكر الموقع فإن اليهود باعوا ممتلكاتهم قبل الوصول الى الكيان الصهيوني في أول دفعة في نيسان (ابريل) 1949 وخلال ثلاث سنوات وصل الى الكيان 32 ألف يهودي ثم توالت الهجرة الى “اسرائيل “بمعدل 600 يهودي كل شهر. وقد حرص الكثيرون، بحسب ما نشر الموقع، على بيع ممتلكاتهم.
وبحسب أحد كتاب الموقع، فإنَّ اليهود كانوا يسيطرون على الاقتصاد في ليبيا. وأشار كاتب آخر الى ان “العرب فرحوا جداً لهجرة اليهود لأنَّ ذلك أتاح للكثيرين السيطرة على الاقتصاد”.وصدر قانون ليبي بتاريخ 27 تموز 1970 يقضي بتعويض ليبيين من يهود وغيرهم صودرت أملاكهم.
ويقول وجهاء الجالية اليهودية أنَّ ممتلكاتهم في ليبيا تقدر بنحو 500 مليون دولار إضافة الى مئة مليون دولار أخرى للمنشآت العامة اليهودية كالمعابد والمقابر.
و كان الزعيم الليبي معمر القذافي قد فاجأ العرب واليهود عندما أعلن استعداده، في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لثورة الفاتح، دفع تعويضات لليهود الليبيين الذين أجبروا على ترك منازلهم. و إذا كان صحيحا ً أن دخل ليبيا السنوي من النفط بات يقترب من العشرين مليار دولار بعد ارتفاع أسعار النفط ، إلا أن هذا لا يعني توزيع هذا الدخل في مسلسل للتعويضات بدأ بصندوق ضحايا لوكربي ويوتا ولابيل (الملهي الالماني) وصولا ً إلى اليهود الليبيين وأملاكهم. فالليبيون أولى بهذه الأموال، وأحق بالتعويضات عن سنوات الحرمان الأخيرة.
الأرجح أنَّ الزعيم الليبي كان يريد شيئًا ما، لعله تحييد اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة وأوروبا واستمالة الغرب، مما يعني انتصار الجناح الليبي الذي يطالب بالاتجاه شمالا ً، والاندماج في الاقتصاد الأوروبي وإدارة الظهر للعرب والأفارقة معاً، باعتبار الطرفين مستودعًا للتخلفِ والأمراضِ السياسيةِ والاجتماعيةِ.