سالم علي ذياب.. دخل بيوت الأردنيين وقلوبهم من بوابة الشاشة الوحيدة ذات زمن جميل

في عقود صاخبة من عمر الدولة الأردنية خلال مئويتها الأولى وما بعدها، نقش الإعلامي الراحل سالم علي ذياب حكايةً تدرّس للأجيال الحالية وعناوينها بعضٌ من صبر وإرادة وحضور قلّ نظيره لمن أحب الناس، فعشقته الشاشة حتى أمسى لونًا أردنيًّا فريداً ينقل الأخبار والتحولات السياسية وأحداثها داخل حدود الوطن وخارجه، وظلّ اسمه أنشودة للروعة تنتهي بتوقيع: سالم علي ذياب/ التلفزيون الأردني/ عمان أو واشنطن أو بغداد أو القاهرة.. وقائمة المدن تطول.
بقي في سنوات الصبر والتعب قابضًا على جمر المهنة، في كف يحمل المايكروفون وفي أخرى يؤشر على نمو بلاده وأوجاع أمته، وفي ميادين الصحافة والإعلام كان له نبضٌ وإحساس يصل إلى المشاهدين بسلاسة ويسر وعفوية، وهو الإعلامي الذي لم يقايض على المبدأ واستمرّ حتى آخر أنفاسه موجوعًا بعروبته التي كانت مسرحًا لإحداث جسام خلال العقود الماضية.
الطفولة والبدايات
وُلد سالم علي ذياب الإعلامي الأردني العريق، كما يسميه زملاؤه، في الشوبك بمحافظة معان في قلب الجنوب في عام 1950 وتنسّم عبق جبالها العالية وربيعها الساحر.
درس في مدارس الشوبك حتى أنهى الثانوية العامة، وكانت طفولته كما سنوات بلوغه، حافلة بالأحداث في خمسينيات وستينات القرن الماضي، وشكّل أول عقدين في النصف الثاني من القرن الماضي بواكير الوعي الأولى للفتى الذي يحب شموخ الشوبك وصلابتها ويعشق ثبات أهلها، كما لامست اهتماماته آنذاك التحديات التي أحاطت بالأمة من كل صوب، وتعلّق عقله المتّقد بالبيانات السياسية وبخطابات الرئيس  الراحل جمال عبدالناصر، كما كان له في ذات الوقت صلة معرفية وثيقة بضباط كبار من رجال الجيش العربي ممن عايشوا آلام التحديات القاسية في الأردن وفلسطين وحولهما، ومنهم شقيقه وقرة عينه العقيد حابس علي ذياب قائد اللواء الهاشمي في مطلع سبعينات القرن الماضي وكذلك الفريق البطل مشهور حديثة الجازي واللواء أحمد شحادة وغيرهم ممن أحبّوا في ذاك الشاب عزيمته ووعيه ومحبته الصادقة لعروبته.
استحوذت السياسة على حيّز واسع من مداركه في فترة مبكرة، وكان شديد العشق لها من دون غلو، وهو ما رسم جوانب قادته إلى النجاح في عقود لمعانه اللاحقة.
بواكير العمل
بدأ سالم علي ذياب مسيرته المهنية في الإذاعة الأردنية عبر بوابة البرامج المتعلقة بالزراعة والإعلام التنموي عمومًا في مستهل السبعينيات، ثم غادر البلاد بحثاً عن الإعلام أيضًا في بقعة عربية بعيدة، فتهيأت له فرصة في ليبيا، لكنه لم يطل الغياب عن عشيقته عمان، وعاد إليها بعد عام ونصف، لينضمّ إلى صحيفة الرأي صحافيًّا وكاتبًا في منتصف السبعينات لعامين ونصف العام، ثم العودة إلى البيت الذي شكّل نقطة انطلاقه نحو النجومية في دائرة الأخبار في التلفزيون الأردني في النصف الثاني من السبعينيات.
السياسة والإعلام
ولأنه مسكون بالسياسة، تدرّب لمدة عام كامل في معهد الإعلام بمصر–الشقيقة الكبرى– في مطلع الثمانينيات، وبدأ نجمه يلمع تدريجيًّا وبقوة في تغطية الشأن السياسي، فكان عنوانًا بارزًا للإعلام في عقدي الثمانينيات والتسعينيات في الشؤون السياسية حيث كان مندوباً للتلفزيون الأردني في الملفات السياسية في رئاسة الوزراء و القصر الملكي، وتابع أدق التفاصيل السياسية في حكومات عرفته وعرفها، وارتبطت صِلاته ومصادره في الإعلام برؤساء وزارات وشخصيات سياسية رفيعة المستوى ومنهم الأمير زيد بن شاكر ومضر بدران والدكتور عبدالسلام المجالي وعبدالكريم الكباريتي، وكان سالم شاهدًا على الكثير من كواليس قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في صيف 1988 والتحول الديمقراطي في عام 1989 وحرب الخليج الثانية وحصار الأردن في مطلع التسعينيات، وصولًا إلى اتفاقيتي السلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في عام 1993 واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية في عام 1994 وتابع سياسيًّا ما رشح قبل هاتين الاتفاقيتين من لقاءات وكواليس ومؤتمرات في مدريد وواشنطن وعمان.
وبسبب زخم الأحداث في العقدين الأخيرين من القرن الماضي كانت رسائل سالم علي ذياب المتلفزة تصل إلى كل بيوت الأردنيين في وقت لم يكن فيه الفضاء قد اكتظّ بالآف القنوات.
الإخلاص في العمل
يشير من كان زميلاً لسالم في هاتيك السنوات، بأنه كان حريصًا جدًّا في سلوكه وأفعاله وأقواله ورسائله التلفزيونية على مضامين النزاهة والصدق والقرب من الناس وأوجاعهم وما يهمهم رغم اتصالاته الواسعة حيال رجالات الدولة في ذاك الزمان، وعُرف عنه كرمه وجبره لخواطر الآخرين خاصة البسطاء وكل من اتصل بهاتفه الذي لا يعرف الهدوء، وظل شديد الصلة بزملائه، الذين جمعته بهم علاقات لا تعرف الغيرة أو الحسد أو الكيديات، لقد كانوا جميعاً نجوماً في سماء الإعلام التلفزيوني ذات زمن جميل، وفي مقدمتهم: محمد أمين، جبر حجات، إبراهيم شاهزادة، غالب الحديدي، محمد الطراونة، سالم علي ذياب، عفاف قضماني، عدنان الزعبي، سوسن تفاحة، عساف الشوبكي، وآخرون.
ويقول المصور العريق زياد المجالي الذي عمل سويًّا وسالم على تغطية مئات الأحداث السياسية في الأردن وخارجه لعقدين كاملين ونعاه رفيق عمره بحرقة بالغة، إنّ الأخوة التي ربطتهما كانت أكبر من كل شيء، وقبلها الثقة وحرص كلٌّ منهما على نجاح الآخر.. علاقة المراسل التلفزيوني سالم والمصور زياد تصلح لأن تروى للأجيال الراغبة في العمل بقطاع الإعلام، ففي هذه العلاقة المتينة ما يكفي ويزيد لجعل سالم أكثر من مجرد مندوب للتلفزيون وزياد أكثر من مجرد مصور.
ومما يذكره زملاء الراحل سالم علي ذياب أن آلامًا أتعبت قلبه لكنه قاومها بثبات فيما كان يجري مقابلة تلفزيونية في المطار أصرّ على إكمالها مع الراحل الكبير المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين بن طلال، غير أنّ محبة الراحل العظيم لرجال الإعلام الذين يعشقون الوقوف أمامه جعلته ينتبه للتغيرات التي طرأت على وجه سالم، وأمر على الفور بنقله إلى المستشفى ليتعالج من تداعيات النوبة القلبية التي ألمت بقلبه النقي.
مستشار إعلامي وسياسي
شكلت الألفية الجديدة تحديًا لرجل الإعلام الذي لا يلقي المايكروفون جانًبا مهما اشتدت الريح وهو الذي وضع مايكروفون التلفزيون وأسئلته الذكية أمامهم لسنوات وسنوات عُرف فيها كمذيع ومقدم برامج ومندوباً للتلفزيون الأردني لا يشق له غبار.
وفي أواخر عام 2010، عُين مستشارًا إعلاميًّا لرئيس مجلس النواب فيصل الفايز، وعمل في المنصب بكل ما لديه من خبرات لخدمة بلاده وأمته بأمانة ومسؤولية.
صندوق أسرار وذاكرة وطنية
وكما يقول الكاتب الصحافي عبدالهادي راجي المجالي، «لا أحد في الأردن يحفظ التاريخ والتفاصيل الدقيقة للحكومات مثل سالم علي ذياب ».. وبقي الإعلامي النجم سالم علي ذياب نابضًا بحب بلاده وقريبًا من الأردنيين في كل المحطات، وأخلص لمسقط رأسه وبلدته الشوبك وكان صادقاً مع أهلها ومُعينًا لهم في مهمّات كبيرة ويعرف كثيرين من أبناء اللواء، والأمر ذاته كان في عشقه لبطولات الجيش وصلاته الوثيقة برجالاته الثقاة، وبين هذه وتلك كانت عروبته وقوميته أولوية لم تغب عن ضميره الحي طيلة سنوات عمره الصاخب بالشجاعة والإقدام.
لا غرو أن تنعاه مؤسسات إعلامية دولية وعربية وأردنية، وهو الذي كان بحق واحدًا من بناة الأردن الصادقين، ورجلاً من جنود الوطن في خندق الإعلام.
لن تنساه أجيال كثيرة وربما قادمة في حقل الإعلام، وستبقى تترنم بموسيقى توقيعه عندما كان يشدو: سالم علي ذياب.

(الرأي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى