مذكرات محمد فايق.. مسيرة تحرُّر
بقلم: يوسف القعيد/ القاهرة
ستكتشف من قراءة الكتاب الذى استمتعت كثيراً بالتجول معه بين الأزمنة والأمكنة أن صاحب المذكرات كاتب متمرس بالكتابة، شغوف بها، يحبها ويلجأ إليها فى أوقات كثيرة.
أهدانى الأستاذ محمد فايق صانع الإعلام المصرى فى تجربة جمال عبد الناصر، ثم سُجِنَ فى عصر السادات، عشر سنوات، وأخيراً أسس دار المستقبل العربى التى كانت فخر حركة النشر العربية. وترأس المجلس القومى لحقوق الإنسان، وكانت لى تجربة عضوية فيه فى زمنه. ورأيته عن قرب كيف يدير العمل بسلاسة وبساطة وموضوعية؟.
المذكرات عنوانها: مسيرة تحرُّرْ. وتقع فى 350 صفحة من القطع الكبير، اختار نشرها من دار لُبنانيَّة وهذا حقه. وإن كنت أتمنى عليه أن تصدر منها طبعة مصرية تكون فى متناول القارئ العادى الذى يشكل الجمهور الذى قدَّم صاحب الكتاب حياته من أجله.
ولأنه أدار الإعلام المصرى فى زمن جمال عبد الناصر بكفاءة وموضوعية ومهنية عالية، ستكتشف من قراءة الكتاب الذى استمتعت كثيراً بالتجول معه بين الأزمنة والأمكنة أن صاحب المذكرات كاتب متمرس بالكتابة، شغوف بها، يحبها ويلجأ إليها فى أوقات كثيرة.
أحمد يوسف أحمد
أول ما تقرأه فى الكتاب التقديم الذى كتبه الدكتور أحمد يوسف أحمد للمذكرات المهمة. والدكتور أحمد يوسف أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. رئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية. يكتب فى تقديمه المهم أن صاحب المذكرات واحد من القلائل فى التاريخ المصرى الذين تنوع عطاؤهم ما بين الكفاح المسلح وطنياً وأفريقياً والعمل الإعلامى والدبلوماسى والسياسى فى مصر، والحركة من أجل حقوق الإنسان وطنياً وعربياً وأفريقياً وعالمياً.
وذلك كله من دون أن تشوب سيرته الذاتية شائبة واحدة. عاش حياته مهتدياً بمنظومة أخلاقية رفيعة، لم يحد عنها يوماً فى نقدٍ واضح لنصائح ميكيافيللى فى كتابه الشهير. وهو فى هذا مطابقٌ فى سلوكه للزعيم جمال عبد الناصر الذى اختاره ليكون واحداً من رجاله الأساسيين. وأوكل له مهمات جسيمة فى النضال المسلح والإعلام والدبلوماسية. نجح فيها باقتدار يشهد به التاريخ.
ثم يُركِّز فى مقدمته على المنظومة الأخلاقية لفايق، وبعض سماتها تظهر لكل من تعامل معه فى بشاشته وهدوئه واحترامه للآخرين. ووفائه لكل من تعامل معه وجديته الفائقة فى العمل، ووطنيته الصادقة ومبادئه القويمة الراسخة. غير أن بعضها الآخر كالاعتداد المطلق بالنفس كشفت عنه – لمن لم يعرفه عن قُرب – المحن التى واجهها فى حياته المُمتدة. وأشدها قسوة الظلم الذى تعرَّض له دون وجه حق فى أحداث مايو1971 التى أفضت إدارة السادات له إلى الحكم عليه بالسجن عشر سنوات.
سامى شرف
يكتب محمد فايق أن وعيه تفتح وأنه أمضى طفولته فى المنصورة. المدينة الجميلة وبحرها الصغير الذى يتفرع من النيل. وحدائقها العامة. ثم يكتب بصدقٍ حقيقى عن طفولته وصباه ودراسته. فيقول إن والده كان يُقدِّس الصداقة ويكتب فى تواضع:
– وأظن أننى أخذت هذه الصفة عنه. خصوصاً صداقة ما يشاركون جزءاً من مسيرة حياتنا. أما الذين يواصلون معنا الرحلة بطولها فتكون لهم مكانة خاصة فى النفس. ومن هؤلاء سامى شرف الذى زاملته بدءاً من مدرسة المنصورة الثانوية بالرغم أنه ليس من مواليد المنصورة. ولكنه جاء إلينا لأن والده كان طبيب الصحة، وتزاملنا مرة ثانية فى الكلية الحربية. وثالثة فى الاستخبارات، ثم رئاسة الجمهورية، ثم الوزارة. والأغرب كان تزاملنا عشرة أعوام فى السجن. وهذا كله من دون أدنى ترتيب أو اتفاق. وكان كلانا من الدائرة الصغيرة الأقرب إلى الرئيس عبد الناصر. إن سامى شرف زميل العُمر ولم يُعكِّر صفو هذه الزمالة أى خلاف طوال هذه المسيرة.
الحياة الخاصة
لا تتصور أن المذكرات تتناول التطورات العامة التى وقعت فى بر مصر. لكنها تتوقف طويلاً أمام كل ما هو خاص فى حياته. فهو يحكى انتقال عائلته إلى القاهرة بعد انتقال والده إلى وزارة الشئون القروية، ودخول شقيقه الأكبر حسن كلية الطب جامعة القاهرة. والتحاق صاحب المذكرات بمدرسة الإبراهيمية الثانوية بجاردن سيتى. كان ذلك فى سنة 1945.
ويصل إلى تقدمه للكلية الحربية. وقال لوالده إنه يطلب منه ألا يتوسط أحد من أجل قبوله وليُعطى أموره فرصة للحظ. وكان هذا تعبيراً عن تردده فى الاختيار بين كلية الطب والحربية. وفى الكلية الحربية لا ينسى من زاملوه. فقد زامل الصاغ محمود رياض وزير الخارجية فيما بعد، ثم أمين عام جامعة الدول العربية. والدكتور مصطفى كمال حلمى الذى درَّس لهم وأصبح بعد ذلك وزيراً للتعليم، ثم رئيساً لمجلس الشورى فى عهد الرئيس مبارك. ودرَّس له علم التاريخ العسكرى الصاغ يوسف السباعى، الأديب الكبير ووزير الإعلام بعد ذلك. وأيضاً حافظ غانم.
ثم يقول عن مدى اعتزازه بالتعليم العسكرى الذى تلقاه:
– وفى الحياة العسكرية دائماً تستطيع أن تحصل على حقوقك حتى لو كانت الأوامر ظالمة. وتستطيع أن تتظلم وأنت تعرف أنك ستأخذ ما لك من حق.
جمال عبد الناصر
كان أول لقاء له مع جمال عبد الناصر فى عام1951 فى مدرسة الشئون الإدارية العسكرية، حيث كان الراوى يدرُس للتأهيل للترقى إلى رتبة يوزباشى «نقيب»، وكان جمال عبد الناصر مُدرِّساً فى هذه المدرسة. كانت مدة الدراسة شهرين. ويتم توزيع الدارسين على عددٍ من الفصول أو الجماعات. وكان المشرف على الجماعة التى ينتمى إليها فايق، جمال عبد الناصر. الذى كان يُدرِّس لهم علم التحركات العسكرية. وكان فى برنامج الدراسة الانتقال إلى الإسكندرية. وجاء سفر الجماعة بالقطار بمعيَّتِه.
وعبد الناصر هو الذى صاحبنا فى القطار ذهاباً وعودة. دارت معه أحاديث ومناقشات شملت الأوضاع فى داخل الجيش، وتطرَّق الحديث أيضاً إلى الأوضاع العامة. وكان حديث القطار مُتحرراً من القيود التى تفرضها قاعات المُحاضرات الرسمية. وتعددت اللقاءات بعد ذلك. وهكذا بدأت علاقته مع عبد الناصر التى استمرت لحين وفاته فى 28 سبتمبر سنة 1970.
وهكذا تأكد بطلنا أن مُعظم ضُباط الجيش المصرى يدركون القضية الوطنية، قضية الاستقلال وإجلاء قوات الاحتلال. وأنه لا يمكن حلهما إلا بتغيير الأوضاع الداخلية ومقاومة الوجود العسكرى البريطانى فى منطقة القنال. كان الفساد قد استشرى فى كل شىء. والأحزاب يتصارع بعضها مع البعض.
وأصبحت فضائح الملك على كل لسان. وسعيه المستمر فى تركيز السلطة فى يده مُعتدياً على الدستور.. وكان فى حالة حرب مستمرة مع حزب الأغلبية «حزب الوفد».. وتفجرت الأوضاع الاجتماعية باتساع دائرة الفقر.. وأصبح ثالوث الفقر والجهل والمرض ظاهراً للعيان حتى صارت المظاهرات تهتف: أين الكساء والغذاء يا ملك النساء. كما وصلت القضية الوطنية إلى طريقٍ مسدود. لقد بدد الملك فاروق كل رصيده من الشعبية التى غمره بها الشعب المصرى كله. كما أنه لم يحافظ على عرش أجداده بسبب تصرفاته غير المسئولة.
ثورة يوليو 1952
كان بطلُنا فى أجازة صيفية فى يوليو 1952، وحضر إلى القاهرة قبل الثورة بيوم. وفى اليوم التالى ذهب إلى وحدته فى منشية البكرى ليجد تعليمات بحصار قصر القُبَّة. وقد حدث ذلك دون أى مقاومة أو اشتباكات. قامت الثورة وهو فى رتبة يوزباشى. وكان له موقع مُتميز داخل وحدته. البطارية الثالثة المُضادة للطائرات فى منشية البكرى، كان أركان حرب الوحدة. وكان فى نفس الوقت مطلوباً للخدمة فى أماكن متميزة أخرى.
فى هذا الوقت حصل على دورة تدريبية تؤهله لمهمات أكبر. وهكذا كُلِّف للعمل فى فرع إسرائيل. وتم التنسيق مع زملائه فى سوريا فى وحدة كان يرأسها ضابط اسمه برهان أدهم، وطرح عليهم فكرة تبادل المعلومات عن إسرائيل ما دام الهدف واحدا. وتم الترحيب به من الجانب السورى. طُلِبَ منه بعد ذلك متابعة النشاط العسكرى وتحركات الجيش الإسرائيلى. والحصول على معلومات دقيقة عنه. وكان هذا ما أخبره به زكريا مُحيى الدين عند لقائه به بعد تعيينه فى المخابرات الحربية. وبعد هذا جرى تكليفه لمسئولية العمل الأفريقى.
أم كلثوم وعبد الوهاب
طلب منه عبد الناصر الاستعانة بأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وكان عبد الناصر يهتم بأم كلثوم. وفى يومٍ قال لفايق حاول أن تُقنِع أم كلثوم بالاكتفاء بوصلتين فى كل حفل بدلاً من ثلاث. وأبلغها أن هذا رجاء من الرئيس عبد الناصر حتى لا تُجهد نفسها أكثر مما ينبغى. ورحَّبت أم كلثوم بهذا الاقتراح أو الرجاء الذى جاء على هواها.
كانت أم كلثوم تعود من أى بلد ببعض الملاحظات والأفكار المفيدة لسياسة مصر من خلال احتكاكها بالناس والأهم رحلاتها خارج البلاد. يقول كانت أم كلثوم تفهم فى السياسة وتُتابعها. وكان عندها الحس الوطنى والقومى العربى عالياً جداً. وكان ذلك سبب حُبها لعبد الناصر.
تنحِّى عبد الناصر
يحكى صاحب المذكرات عندما تنحَّى عبد الناصر جاءت أم كلثوم إلى مكتبه وهو وزير إعلام تطلب مناشدته من خلال الإذاعة للعودة. وكان معها مُناشدة كتبها لها الشاعر صالح جودت ولحَّنها رياض السُنباطى. يكتب الأستاذ فايق: لم تكن أم كلثوم وحدها من الفنانين الكِبار فى تلك الأيام، كان معها منهم فى مجال الموسيقى والغناء محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، محمد فوزى، ليلى مراد، شادية، سعاد محمد، صباح، كارم محمود، عبد المطلب، وفايزة أحمد. ومن الملحنين: كمال الطويل، بليغ حمدى، محمد الموجى، رياض السُنباطى، ومحمد القصبجى.
يهتم صاحب الكتاب بوصول شاعر فلسطين محمود درويش إلى القاهرة. وكان قد سبقه إليها سميح القاسم وتوفيق زياد. أطلقت عليهم مصر: شعراء المقاومة. وقد شكَّلوا ظاهرة مُهمة بعد أن جاء محمود درويش إلى مصر ورحَّب عبد الناصر بحضوره فى أى وقت.
ويشير فايق إلى كتاب الزميل سيد محمود المُتميز الذى يُعد مرجعاً: محمود درويش فى مصر. وأصدر فايق قراراً وزارياً بتعيين محمود درويش مستشاراً ثقافياً لإذاعة صوت العرب. وكان لجوء درويش للقاهرة وخروجه من إسرائيل لينطلق وينطلق شعره من دون اعتقال أو مضايقات. صحيح أنه تعرَّض لهجوم من الحزب الشيوعى الإسرائيلى. لكن رد عليه شعراء مصر المهمون: أحمد عبد المعطى حجازى ومحمد عفيفى مطر.