فـي لابُدّيَّـة السِّلم المدنيّة

بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب

التّلازُم بين السِّلم المدنيّة والدّولة يعني، في جملة ما يعنيه، أنّ الواحدة منهما وقْفٌ على الأخرى وأنّهما لا تقومان منفصلتين، بل بالتّضافُر وبتبادُل الأثـر.

وهكذا، ليس من إمكانٍ لأن نتخيّل دولةً في عافيةٍ من أمرها من غير سِلمٍ مدنيّة مُستتبّة في أرجائها، تماماً مثلما يمتنع على الوعي أن يُدْرِك كيف لسلمٍ مدنيّة أن تسود اجتماعاً وطنيّاً مّا لا يكون للدّولة كبيرُ نصيب في التّمكين لها، وفي صوْنها وتعهُّدها بالرّعاية.

يخطئ، إذن، من يتخيّـل أنّ السِّلم المدنيّة قضيّةُ مجتمعٍ، في المقام الأوّل، وأن لا شأن للدّولة بها إلاّ أن تساعد على ذلك نزولاً منها عند رغبة المجتمع في إحلالها. تَخيُّـل الأمر على هذا النّحو يقود صاحبه إلى افتراضِ إمكانِ إقدام مجتمعٍ مّا على إقرار السِّلم المدنيّة بين مكوّناته من غير حاجةٍ في ذلك إلى الدّولة، وربّما حتّى بمعزلٍ عنها. من يقول ذلك لا يعرف معنى الدّولة، على التّحقيق، ولا يُـدْرِك إلى أيّ حدٍّ يتوقّف فيه وجودُ المجتمع نفسِه على وجودها، وعلى دورها في إنتاج شروط بقائه: وفي قلب تلك الشّروط إقرارُ السِّلم المدنيّة بما هي البيئة الحيويّة التي يتمتّع فيها وجودُه بأسباب الحياة.

لا يعني هذا سوى أنّ السِّـلم المدنيّة ليست معطًى مجتمعيّاً جاهزاً تأتي الدّولةُ – في لحظةٍ تالية – لتؤسِّس عليه وجودَها، بل هي (= أي السّلم المدنيّة) منتوج سياسيّ من منتوجات الدّولة لا يسع غيرَها أن يوفِّـره، فكيف إذا كان ذلك الغيرُ المفتَرَض هو المجتمع: الكيان المقترِن بتضارُب المصالح وبالتّـدافُع والتّـنازُع؛ أي المقترن بكلّ العناصر القابلة للتّـفجير إنْ لم تقع تهدئتُها وضبطُها من قبل قـوّةٍ متعالية عن المجتمع (الدّولة). إنتاج السِّلم المدنيّة وإقرار أحكامها على جميع من يقعون في دائرة وَلاية الدّولة، هو واحدُ من أهمّ الوظائف التي على الدّولة أن تنهض بها؛ فهي، في المبتدأ، الأساسُ الذي عليه مَبْنى شرعيّتها. هذه واحدة؛ الثّانية أنّه ما من سبيلٍ إلى تنظيمِ مجتمعٍ وإلى إدارة شؤونه العامّة – من قِـبَل دولةٍ مّا – إلاّ بعد إنجاز الحلقة الأساس في التّـهيئة السّياسيّة لذلك المجتمع: إقرار السِّلم المدنيّة؛ إذِ الأخيرةُ وحدها توفِّـر الشّرط الموضوعيّ المناسب لعمل الدّولة، فلا تضع على حركتها الكوابحَ والعراقيل ولا تجعل الميسورَ من عملها معسوراً.

للدّولة أدواتها في ابتناء حال السِّـلم المدنيّة داخلها، وأوّلُها – وأَفْعلُـها – ما تَسُـنُّه من قوانين لهذا الغرض؛ إذِ القانون هو الإطار المرجعيّ للأحكام الخاصّة بإقرار تلك السِّلم. وهي حين تصنع السِّلم بتوسُّـل القانون يشاركها المجتمعُ صناعتَها. وليس مردّ ذلك إلى أنّ للمجتمع مصلحةً في تلك السِّلم المدنيّة نظيرَ ما للدّولة فيها، فقط، بل لأنّ القانون – في وضعه النّظريّ الاعتباريّ- ليس شيئاً آخر سوى التّجسيد الماديّ لِـ إرادة المجتمع. وإلى ذلك فإنّ الذين يضعونه هم ممثّـلو ذلك المجتمع الذين ينوبون عنه في إدارة الشّأن العامّ. وهكذا، وأيّاً يكن تقديرُ أيٍّ منّا للقانون بوصفه سلطةً ملـزِمة، وما إذا كان مبدأ الإلزام فيها يقوم على عنفٍ ماديّ مبطَّـن (= يصبح ظاهراً عند الانتهاك) أو على عنفٍ رمزيّ، فإنّ اقتران وجود السِّلم المدنيّة بوجود قانونٍ مؤسِّس لها يقطع بأنّها تعبّـر عن حالٍ من الشّرعيّة والمشروعيّة في كلّ اجتماعٍ سياسيّ، ويمثّـل نَـقْضُها انتهاكاً صارخاً لكلّ شرعيّة.

على أنّ الدّولة قد تسلُـك مسْلكاً آخر في صوْن السِّلم المدنيّة عند الاقتضاء، فيبدو على سياساتها في هذا قـدْرٌ من العنف غيرُ مألوفٍ فيها. يحدث ذلك، في العادة، حين تُـلْجِئُها إلى ذلك ظروفٌ موضوعيّةٌ قاهرة من قبيلِ اضطرابات داخليّة يتقـلقـل بها الاستقرار وتهتـزّ بها السِّلم. يقتضينا فهمُ هذه الحالِ الطّارئةِ التّمييزَ بين المشروع وغيرِ المشروع من الصّراعات الاجتماعيّة التي تندلع في كلّ مجتمع على المصالح فيه. إذا كان المشروعُ فيها ما اقترن بالقانون، وما وقع في جملة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة التي تكفلها تشريعات الدّولة لمواطنيها، فإنّ غيرَ المشروع هو كـلُّ ما هدّد السِّلم المدنيّة بالانتقاض من قبيل الفِـتن والحروب الأهليّة والإرهاب وكلّ خروج مسلَّح أو كلّ فعْـلٍ من أفعال العنف التي تهدّد سلامة الدّولة والوحدة الوطنيّة. وبَـيِّنٌ، هنا، كم هو عظيمٌ الفارقُ بين الحالتين وتأثيراتهما في السِّلم المدنيّة.

ولكنّ الأخيرة ليست محضَ منتوجٍ من منتوجات الدّولة، بل هي – فوق ذلك – ممّا تحتاج الدّولة إلى استتبابه لكي تنهض بدورها في تنظيم المجتمع وإدارة شؤونه؛ إنّها شرطٌ لاستقامة أدائها وعِلّـةٌ لاستقرارها الذي من دونه لا فاعلـيّة بعيدة الأثـر في عمل الدّولة. وهذه مسألةٌ واقعيّة – يشهد عليها الواقع – قبل أن تكون نظريّـة؛ ذلك أنّه يَسَع أيَّ واحدٍ منّا أن يتبـيّن، على وجهٍ من التّمييز واضحٍ، الفارقَ بين عمل دولةٍ في اجتماعٍ وطنيّ تتعرّض السِّلـمُ المدنيّة إلى حالٍ من التّأزُّم فيه وعملها في اجتماعٍ آخر يستتبّ فيه أمرُ تلك السِّلم. إنّه الفارق بين الأداء الفعّال، السّلس والانسيابيّ، المنتِج والأداء المتعسّر الذي تلوذ فيه الدّولة، عادة، بموقعٍ دفاعيّ وقد تجد سلطتُها نفسَها مدفوعةً إلى تقديم تنازلات لمن يُصدِّعون تلك السِّلم… أملاً في ترقيعٍ أو إصلاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى