بعد هزيمته.. داعش يعود للنشاط الإرهابي في سوريا

بقلم: توفيق المديني

منذ سقوط أسطورة “داعش” بخسارة الأراضي التي كان يسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وكانت مساحتها بحجم دولة بريطانيا حتى سنة 2017، وهزيمته عقب خسارة آخر معاقله في الباغوز السورية (ريف دير الزور الشرقي) وطرده منه في مارس/آذار 2019، ها هو التنظيم يعود من جديد لشنِّ عمليات عسكرية نوعية تهز البادية السورية ، وريف دمشق( قتل 6 أشخاص وأصيب 23 آخرون يوم الخميس 27يوايو/تموز 2023،جراء انفجار عبوة ناسفة في منطقة السيدة زينب بريف دمشق (جنوب العاصمة السورية)، ،وفق ما نقله الإعلام الرسمي السوري عن وزارة الداخلية.
ويُعَدُّ هذا الانفجار الثاني الذي تشهده المنطقة خلال الأسبوع الأخير من الشهر الماضي ، حيث أصيب شخصان في انفجار آخر الثلاثاء25تموزالماضي . وتأتي الانفجارات في موسم الذروة بالنسبة لضريح السيدة زينب الذي يتوافد عليه الزوار الشيعة من إيران و العر اق ولبنان للاحتفال بذكرى عاشوراء.
فبعد مضي أربع سنوات على آخر معارك تنظيم “داعش” الكبرى في منطقة الباغوز شرقي سورية،قام تنظيم الدولة بهجوم عسكري يوم الإثنين 7أغسطس 2023، استهدف حواجز عسكرية لقوات الجيش العربي السوري و القوى الحليفة له في بلدة معدان عتيق بريف محافظة الرقة شرقي سوريا،أسفر عن سقوط 10 قتلى من جنود الجيش السوري ، إضافة إلى ستة جنود من الجرحى .
وتسيطر القوات الحكومية السورية على مناطق في ريف الرقة الشرقي والجنوبي، فيما يسيطر المقاتلون الأكراد على الجزء الأكبر من المحافظة الشمالية.وسيطرت الدولة السورية على بلدة معدان عتيق في الربع الأخير من العام 2017.
وبلغت حصيلة القتلى خلال العمليات العسكرية ضمن البادية السورية منذ مطلع العام 2023،وفقًا لتوثيقات المرصد السوري حوالي 379 قتيلا من قوات الجيش السوري وحلفائه.
ومنذ مطلع شهر آب/أغسطس 2023، قتل سبعة أشخاص غالبيتهم عناصر من قوات الجيش السوري في هجوم شنه التنظيم على قافلة صهاريج نفط في ريف حماة الشرقي الذي يشكل امتدادا للبادية السورية.
ومني تنظيم الدولة الذي سيطر في العام 2014 على مناطق واسعة في سوريا والعراق، بهزيمة خلال عام 2017 فقد فيها السيطرة على الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرته.
ويقوم تنظيم “داعش” بهجمات عسكرية ضد قوات الجيش السوري والقوى المتحالفة معه في البادية السورية، كما يستهدف مسلحو التنظيم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تسيطر على مدينة الرقة وأجزاء من محافظة دير الزور، بالإضافة لاتهامه باستهداف المدنيين في تلك المناطق.
تغيير استراتيجية “داعش” القائمة على “التمكين”
بعد أن فقد تنظيم “داعش” المساحات الجغرافية التي يتبعها تسرب موارده الاقتصادية، التي كانت قبلاً قادرة على تأمين قدراته العسكرية ، قام التنظيم بتغيير استراتيجيته التي كانت تقوم على “التمكين،أي إقامة دولة مكانية، ضمن حدود معينة”، واتّبع التنظيم سياسة الانتشار في كل من سورية والعراق، أي تشكيل مجموعات من المقاتلين تقوم بحرب استنزاف ضد الأطراف التي تحاربها، انطلاقاً من البادية السورية، من دون اتخاذ أماكن سيطرة فيها.
لقد عُدَّتْ هذه الاستراتيجية لـ “داعش” ، كتحولات تم اعتمادها استعدادًا منه لمواجهة المستقبل المنحسر في المركز، ورغبة من قياداته في إبقاء القدرة حاضرة لإنتاج مزيد من التهديد. وتتمثل ملامح هذه الاستراتيجية في القيام بهجمات عسكرية فردية وبآلات تقليدية بسيطة في معظمها، يقوم بتنظيمها فرد أو مجموعة أفراد ، ضمن ما يعرف ب”الذئاب المنفردة” ،وتجنيد خلايا نائمة ضمن مناطق سيطرة أطراف الصراع في سورية، من أجل القيام بعمليات يُحَدِّدُهَا التنظيم، ومن أجل المساهمة في نشر فكره، و هدف توزيع دائرة الترويع و الخوف والرعب الأقصى مدى ممكن في مناطق بعينها من الدول المستهدفة.
وبدأت تظهر معالم استراتيجية “داعش” الجديدة مع بداية عام 2020 الذي نفذ فيه ثلاث عمليات فقط، ليتزايد نشاطه خلال العام 2021 بمعدل 50 عملية خلال العام، معظمها استهدفت قوات الجيش السوري والقوى الحليفة له.
كانت أخطر هذه الهجمات ، الخرق الأمني في منطقة سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بهجومه على سجن غويران في الحسكة في 20 يناير/كانون الثاني 2022، والذي استمر لأيام قبل إنهائه، ويضم نحو 5000 مقاتل “داعشي”. وقالت “قسد” إنَّ 40 من قواتها و77 من حراس السجن وأربعة مدنيين قتلوا، فضلاً عن 374 من المهاجمين أو المعتقلين من التنظيم، في الهجوم على السجن. وتزامن ذلك مع هجوم على قوات الجيش العراقي في ديالى أوقع 11 قتيلاً في صفوفها.
وفي منتصف شباط/فبراير 2022 نفذت خلايا “داعش” كمينًا استهدف حافلة مبيت تُقِّلُ جنوداً سوريين أثناء سيرها على طريق قرية “الزملة” في ريف الرقة الجنوبي، قرب الحدود الإدارية بين الرقة ودير الزور، قتل على إثره 18 عنصراً من هذه القوات، وحُرقت جثثهم داخل الحافلة قبيل انسحاب عناصر التنظيم من الموقع.
وفي 26 يناير/كانون الثاني 2022 ، هاجم مسلحون من التنظيم دورية أمنية غرب بلدة القطرون أقصى الجنوب الغربي من ليبيا، وقتلوا 3 من أفرادها. بعدها بيوم واحد، أعلنت السلطات الجزائرية وقوع اشتباك مع “مجموعة إرهابية” في ولاية عين قزام، على الحدود مع النيجر، ما أدى إلى مقتل جنديين والقضاء على إرهابيين اثنين.
وفي 28 يناير/كانون الثاني 2022، أعلنت وزارة الداخلية التونسية القبض على فتاة (22 سنة) كانت تنوي القيام بعملية إرهابية، “وذلك بعد رجوعها من سورية حيث كانت قد التحقت بأحد التنظيمات الإرهابية هناك وتلقّت تدريبات”. وأضافت الداخلية في بيان أن الفتاة كانت تحضّر للقيام بعملية انتحارية في إحدى المناطق السياحية التونسية.
يتبين من خلال هذه العمليات العسكرية المتفرقة أنَّ تنظيم “داعش” أراد أن يحيي صورة التنظيم من جديد أمام مؤيدي فكره، وربما بهدف استجلاب الدعم المالي، إضافة إلى إحياء خلايا التنظيم النائمة وتنشيطها. كما أنَّ “داعش” أراد أن يظهر لخصومه أنَّه لا يزال موجوداً على الرغم من الإعلان عن القضاء عليه مراراً، وأنَّه يمتلك القدرة على الوصول حتى إلى المربعات الأمنية للقوى التي تحاربه.
لماذا اختار “داعش” البادية السورية؟
حسب رأي الخبراء المتخصصين في الجغرافيا السياسية و العسكرية تُعَدُّ البادية السورية نطاق عمل ونشاط للجانب الروسي، ولم يسبق لطيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة أن شنّ أي عملية فيها، على الرغم من أنَّه يتمركز في قاعدة التنف التي تتوسط بوادي سورية والعراق والأردن.
وتشكّل البادية نحو نصف مساحة سورية، وتتوزع إدارياً على محافظات عدة، هي: دير الزور، الرقة، حلب، حماة، حمص، ريف دمشق، السويداء. وينشط “داعش” في محيط الطرق التي تستخدمها قوات الجيش العربي السوري وحلفائه ،التي تتخذ من مدينة تدمر مركزاً رئيسياً لها في قلب البادية السورية، حيث تتمركز وحدات من قواتٍ إيرانيةٍ عدة منها “فاطميون” و”زينبيون”.
وتُعَدُّ البادية مهمة لجميع الأطراف الفاعلة، كونها تضم العديد من حقول وآبار الغاز، منها حقل الشاعر، وهو أكبر حقل للغاز في البلاد، واستعادته قوات الحكومة السورية من تنظيم “داعش” في عام 2017.كما تضم البادية السورية حقول فوسفات، والتي تعد ثروة لا تقل أهمية عن الغاز، وقد وضعت روسيا يدها عليها في عام 2018 عبر اتفاقية مع الحكومة السورية.
وكانت سورية تحتل المرتبة الخامسة عالمياً على قائمة الدول المصدِّرة للفوسفات حتى عام 2011، وتعتبر مناجم السلسلة التدمرية، خصوصاً خنيفيس والشرقية، الخزان الأكثر أهمية وجدوى اقتصادية من هذه الثروة. وتُعَدُّ البادية السورية ذات أهمية استراتيجية للجانب الإيراني أيضًا،كونها تقع في منتصف الْمَمَرِّ البري الآتي من إيران مروراً بالعراق وسورية وصولاً إلى لبنان.
وفضلاً عن ذلك،يتحرك تنظيم “داعش” عبر البادية بكل يُسْرٍ، مستفيداً من التضاريس الصعبة، ومعرفة خلاياه لطبيعتها الجغرافية، كونه يسيطر عليها عملياً منذ عام 2015.
ومع أنَّ معظم الباحثين في شؤون التنظيمات الإسلامية، يَسْتَبْعِدُ أنْ يعودَ “داعش” بعد أنْ تمَّ القضاء على “دولته” جغرافياً، لاتّباع سياسة “التمكين،فإنَّ التنظيمَ يبدو أنَّه يُحَاوِلُ أنْ يستعيدَ فعاليته في كل من سورية والعراق فكرياً وأمنياً، متّبعاً سياسة حرب العصابات والهجمات المباغتة لِاسْتنْزَافِ خصومهِ من دون التمركز في مكانٍ مُحَدَّدٍ.
وساعدت البادية السورية الشاسعة المساحة، “داعش” على ترتيب صفوفه، وإعادة تنفيذ عملياتٍ يستهدفُ من خلالها عبر الترويج الإعلامي استعادةِ جزءٍ من مُؤِيِدِيهِ.
ويستغل التنظيم مجموعة من الظروف في المنطقة ساعدته على زيادة فعاليته، وعدم وجود تنسيق أمني بين مناطق سيطرة القوى الدولية والإقليمية المتصارعة أصلاً، الأمر الذي يتيح للتنظيم تحقيق اختراقات أمنية، في تلك المناطق.
العوامل التي ساعدت “داعش” للعودة من جديد
يستغل تنظيم “داعش” مجموعة من العوامل ساعدته على زيادة فعاليته، أهمها :
أولآً: تعدد مناطق سيطرة القوى العسكرية في سوريا
ففي مناطق الشمال الشرقي لسوريا،تتمركز القوى الأمريكية ،والروسية،وقوى “قسد” الميليشيات الكردية الموالية للاحتلال الأمريكي ، وهي تسيطر على مناطق دير الزور الشرقي ، وهي مناطق مخترقة بشكل كبير من عناصر “داعش” ، لدرجة أنَّ السكان يتداولون مقولة “النهار لقسد والليل لداعش”.
ثانيًا: الفساد المستشري في مناطق “قسد”
فقد شهدت منطقة شرق الفرات عمليات إفراج عن المئات من عناصر التنظيم، سواء من خلال وساطات عشائرية، أو عمليات إخراج مساجين من “داعش” من السجون مقابل مبالغ مالية، وقد وثقت صحيفة “ذا غارديان” من خلال تحقيق أجرته بعضاً من هذه العمليات.
ثالثًا: تراجع القصف الجوِّي الروسِيِّ المتكرر الذي كان يستهدف التنظيم ، وتصاعد نشاط التنظيم بشكلٍ كبيرٍ في مناطق سيطرة الحكومة وخاصة البادية، بعد انخفاض عدد الغارات الجوية الروسية التي كانت تستهدف مناطق تواجده في البادية، حيث تصب موسكو الآن جل اهتمامها العسكري في الحرب مع أوكرانيا،الأمر الذي قاد إلى احتدام الصراع مجدَّداً في البادية السورية بين فلول تنظيم “داعش”، وقوات الجيش السوري والقوى الحليفة ، لبدء حملة تمشيط جديدةٍ للحدِّ من هجمات هذه الفلول التي توجّه ضربات تُوصف بـ”الموجعة”.
رابعًا: تصاعد النقمة الشعبية في سوريا بسبب الفقر والجوع، فسوء الأحوال الاقتصادية لسكان المنطقة، يدفع البعض لتسهيل مهام “داعش” لأسبابٍ ماديةٍ، من دون أن يكونوا مقتنعين بفكره، إضافة إلى الفلتان الأمني الذي تشهده السجون التي تضم عناصر من “داعش”،وهو ما يدعو لإعادة النظر في كل المنظومة الأمنية لـ”الإدارة الذاتية” الكردية ، وبإدارة كل الأماكن التي تضم عناصر من “داعش”، أو عائلاتهم، التي تشرف عليها قوات “قسد”.
خامسًا: قدرة “داعش” فرض ما يشاء من دون أن يكون حاكماً فعليا، فالتنظيم بعد سقوط الباغوز لم يعد يمتلك قيادة مركزية، إذ تحوّلت الولايات السياسية لداعش إلى ولايات أمنية منفصلة، تتمتع بمرونة في اتخاذ القرار، ولكنَّ خلال العمليات الأخيرة بدا واضحاً أنَّ التنظيم بدأ يجمع بين المرونة والمركزية في اتخاذ القرار.
خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــة:
تُشِيرُ تقارير عديدة صدرت عن الأمم المتحدة ، ومنظمات غربية خلال السنتين الأخيرتين ، إلى وجود ما لا يقل عن 10 آلاف مقاتل من “داعش” ينشطون في سورية والعراق، إلى جانب أعدادٍ أخرى تنتشر في أفريقيا وأفغانستان وليبيا والصومال وجنوب شرق آسيا. فيما كان التحالف بقيادة الولايات المتحدة قد قال في منتصف 2019 بعد معركة الباغوز، إنَّ التنظيمَ يحتفظ بما يتراوح بين 14 و18 ألف عضو، بينهم 3000 أجنبي.
ورغم مقتل القرشي ثالث زعيم لتنظيم “داعش” يلقى حتفه شمال غربي سوريا الذي تسيطر عليه “هيئة تحرير الشام”(جبهة النصرة )بقيادة أبو محمد الجولاني ، إذ قتل الأول أبو بكر البغدادي في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، في عملية لقوات خاصة أمريكية ،التي قتلت بعملية مشابهة خليفته أبو إبراهيم القرشي في فبراير/ شباط 2022 ،وكلاهما قتل شمال غربي سورية في مناطق تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” أو لها نفوذ أمني فيها.وكان التنظيم أعلن في منتصف أكتوبر 2022 مقتل زعيمه الثالث أبو الحسن الهاشمي القرشي من دون أن يُحدِّدَ مكان أو تاريخ مقتله، لكنَّ الجيش الأمريكي قال إنَّه قُتل على يد “الجيش السوري الحر” في درعا جنوب سوريا.
رغم مقتل قياداته الأربع ،فإنَّ التنظيم يستفيد الآن من تصاعد التوترات العسكرية بين القوات الروسية والأمريكية في سوريا بسبب الصراع في أوكرانيا،ويتجلى ذلك بوضوح في حوادث استفزاز عديدة وقعت بين قوات البلدين على الأراضي السورية في الآونة الأخيرة .
وهذا الوضع، سوف يعطي دفعًا جديدًا ل”داعش” كي يُصَعِّدَ من عملياته العسكرية بدافعٍ أَمْرِيكِيٍّ هذه المرَّة ،حيث تنتشر خلايا التنظيم على مساحة نحو 4 آلاف كيلومتر مربع في البادية السورية ،وسط تراجعٍ كبيرٍ في الغارات الجوية الروسية على مناطق انتشار التنظيم في البادية منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى