الانسـداد والمشاركة السّياسيّـة

بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب

يخطئ من يعتقد، جازماً، بأنّ الإصلاح السّياسيّ لا يكفي كي يَكُـفَّ حالةَ الانسداد عن سلطةٍ سياسيّة مأزومة عالقة فيها، ويَفتح أمامها طريقَ الخروج منها.

يَرْكَـن مثلُ هذا الاعتقاد إلى افتراضٍ شائع بأنّ تغيير السّلطة من خارجٍ وحدهُ يحرِّرُها من مأزوميّـتها ويحرِّر معها المجتمعَ والسّياسةَ من ذيول الانسداد السّياسيّ وتَبِعاته.

وليس على الافتراض هذا دليلٌ، كما سنرى، حتّى لا نقول إنّ الاطمئنان إليه، عند من أخذوا به وطبّـقوهُ في السّياسة، كثيراً ما أَوْقع هؤلاء في ورْطات سياسيّة لا حصر لها؛ بحيث لم يتولّد منها – فقط – امتناعٌ لعمليّة التّغيير، بل انتهى بها المطاف، أيضاً، إلى حيث جعلت عمليّة الإصلاح السّياسيّ نفسِه شديدةَ العُسْر عمّا كانت عليه ممكناتُها قبل قطْع الطّريق عليها بالتّغيير!.

لسنا ننفي، طبعاً، أن تقود عمليّة التّغيير السّياسيّ إلى حلّ أزمة السّلطة وحالةِ الانسداد السّياسيّ فيها؛ ولكنّ لذلك شروطاً وأوضاعاً ذاتيّة لا يَكفي نضجُ الشّروط الموضوعيّة للتّغيير ليقُوم مقامها، وقد يتعسّر – عُسراً شديداً – تحقيقُ إمكانها.

في المقابل، انتهى الكثير من عمليّات التّغيير السّياسيّ في العالم إمّا إلى إنجاب سلطةٍ جديدةٍ مأزومة، وضعيفةِ القاعدة الاجتماعيّة، أو حاملةٍ لأسباب تأزُّمها، وإمّا إلى فتح الباب على الفوضى والمجهول: على انقسامٍ في السّلطة، أو على حربٍ أهليّة، أو على عجزٍ مزمن في تكوين سلطةٍ جديدة من طريق التّوافق عليها. ولعلّ حالةَ ليبيا، اليوم، بعد إسقاط النّظام فيها – بدعمٍ من تدخّل حلف النّاتو عسكريّاً – دليلٌ على هذا النّوع من المجهول الذي قد يفتح عليه تغييرُ السّلطة.

ليست هذه حالُ الإصلاح السّياسيّ، على القطع، على الرّغم من أنّ التّـنكُّب عنه مألوفٌ من الكثيرين. صحيحٌ أنّ وجْـهاً من وجوه هذا الإصلاح ليس مقنعاً ولا مُغرِياً لكي يقع الإقبالُ عليه، ونحن نعني به – على نحوٍ خاصّ – ذلك الوجه الذي يبدو فيه أشبهَ بالتّرقيع السّياسيّ وترميمِ الشّقوق من خارجٍ والتّغطيةِ على المُتـآكِلِ بطلاءٍ خارجيّ؛ فهذا نوعٌ مذمومٌ من الإصلاح وممجُوجٌ من الأغلب، بل لا تجوز فيه تسميةُ الإصلاح إلاّ على سبيل المجاز.

ولكن ليس من العدل أن يُؤاخَـذ الإصلاحُ جملةً بجريرةِ هذا النّوع الرّديء منه مع وجود الأفضل والأنجـع ممّا هـو الأهْـلُ لِيُـنْعَتَ إصلاحاً على الحقيقة. وهذا الإصلاحُ الحقّ هو الذي سلكت دروبَهُ غالبيّةُ مجتمعات العالم التي قُـيِّض لها أن تتقدّم، وكان أداتَها التي توسَّـلتها لحيازة أسباب الانتهاض والتقدّم. ولقد كانت البلدان المتقدّمة التي فتحت الثّوراتُ طريقَها إلى التّـقدّم قليلة جـدّاً إنْ قيست بغيرها من التي ركِبَت لذلك مَرْكب الإصلاح، ولعلّها ظلّت – أيضاً – أكثر استقراراً منها.

يسَع هذا الإصلاح السّياسيّ العميق أن يوفّر الكثير من الأجوبة عن معضلات التّأزّم السّياسيّ والانسداد في شرايين السّلطة، وذلك ما يمكن أن يُطْلِعنا عليه مضمونُ برامجه السّياسيّة التي اختُبِرتْ في العديد من الحالات/ الدّول – التي كانت تحتاز مخرجاً من أزماتها الطّاحِنة – وأثبتتْ نجاعتَها في إعادة تأهيل قدراتها على فضّ مشكلاتها. ولقد كان أَشْرحَ مدخلٍ إلى ذلك – وما يزال- هو توسعةُ نطاق قوى السّلطة من طريق فتح الأبواب أمام مشاركةٍ سياسيّة موسّعة تعيد تزويد السّلطة بدماء وطاقات جديدة. لقد كانت إعادة إنتاج النّخب السّياسيّة، دائماً، من أظهر المشكلات في أيّ مجتمعٍ سياسيّ ومن آكـدِ الشّروط لتجديد بنى السّلطة وضخّ الحياة والحيويّة في شرايينها؛ وهذه هي جوهر وظيفة المشاركة السّياسيّة. ولكنّها ليست وظيفتَها الوحيدة، بل يُساوِقها – مثلما يضارِعها في الأهميّة- وظيفة ثانية هي: توسعة نطاق تمثيليّة السّلطة من طريق فتح رحابها أمام قـوًى اجتماعيّة جديدة ومناطق جديدة. ومن عائدات هذه الوظيفة الثّانية أنّ قاعدة السّلطة التي ضاقت وضمُرت – فكانت من بواعث الانسداد السّياسيّ – تتّسع نطاقاً فيَعْـظُم، باتّساعها، رصيدُ الشّرعيّة لدى تلك السّلطة.

هذا نوعٌ من إصلاح أوضاع السّلطة وتأهيلِ قواها تأهيلاً متجدّداً أقـلُّ كلفةً من أيّ تغييرٍ يدْهمُها من خارجٍ ويأتي بالمحْو على قواها كـلاًّ أو أبعاضاً.

وهو إصلاحٌ مضمونُ النّتائج؛ لأنّ القوى الماسكة بأزِمّة السّلطة هي من تُجْريـه وتُدير فصولَه و، بالتّالي، هي من تراقبه وتتحكّم في حلقاته بحيث لا يُفْـلِت منها. لذلك، ما من مبرِّرٍ لدى أيّ سلطةٍ تبغي الاستقرار لأن تتجاهل الحاجة إلى إصلاح أوضاعها والإتيان على السّيّء منها بالتّقويم. ولعلّها إذ تبادِر بذلك فتُـقْدِم عليه، تكون قد قطعتِ الطّريق على احتمال إقدام قـوًى اجتماعيّة من خارجها على ذلك.

هذه واحدة؛ الثّانية أنّ بيئة التّأزّم السّياسيّ والانسداد في السّلطة ليست بيئةً ملائمة للمعارضات الدّاخليّة – عصبويّـةً كانت أو مدنيّة – فقط وإنّما هي، أيضاً، بيئة لاختراقات سياسيّةٍ أجنبيّة للدّاخل الوطنيّ باسم الدّفاع عن الحريّات وحقوق الإنسان؛ وما أكثر ما حصلت تدخّلات أجنبيّة تحت هذا العنوان في بلادنا العربيّة والعالم، وخاصّةً في هذه الحقبة الهوجاء من العولمة النيوليبراليّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى