أهلاً بثورة ٢٣ يوليو التي ما فتئت تثبت جدارتها وعبقرية بوصلتها، رغم كرّ السنين وعبث المُرتدين

بقلم: فهــد الريمــــاوي

أهلاً بإطلالة “أبي خالد”، فارس بني مر، الذي أذّن في مثل هذا اليوم من عام ١٩٥٢ لصلاة الفجر الثوري في مصر وعموم الوطن العربي.. ومرحباً بإشراقة ثورة ٢٣ يوليو الخالدة والمجاهدة والمتجددة، حتى لكأنها شمسٌ ما زالت تتربع في عليائها ولا تنكسف، وقمرٌ ما زال يسطع في سمائه ولا ينخسف، وثُريا ما زالت تطوف في مدارها ومسارها ولا تنطفئ او تنحرف او ترتجف.

أهلاً ومرحباً بثورة ٢٣ يوليو المباركة التي ما زالت حاضرة في قلب الزمن الحاضر، وراسخة في صُلب ذاكرة التاريخ، وماثلة في عمق ضمائر أحرار مصر والعرب، ولائقة على الدوام لتُشكّل مرجعية ثورية وحدوية ونهضوية يجدر إستلهامها، والإقتداء بنهجها، والإسترشاد ببوصلتها، كي تهدي الحالمين بغدٍ افضل والسائرين نحو المستقبل، الى جادة الصواب وسواء السبيل.

هذه الثورة المظفرة ما زالت – رغم غدر الغادرين – تختال بين محطات الزمن المصري أمس واليوم وفي الغد، فهي مطبوعة بأحرف من نور على جبين قناة السويس، وفي شموخ السد العالي، ودفاتر الأصلاح الزراعي والنهوض الصناعي، ومجانية التعليم الجامعي، وصرخة: “أرفع رأسك يا اخي”، وغير ذلك كثير.. وهي معروفة بذاتها وبسمو مقامها ونبل صفاتها، فلا تحتاج منا، او من غيرنا، الى شهادات تزكية وإفادات تعريف وتوصيف.. ذلك لان معظم الحقائق السياسية والوقائع الأقتصادية الراهنة قد أنصفت هذه الثورة المغدورة، وأثبتت انها كانت طليعية وإستشرافية إختارت الجانب الصائب من التاريخ، والدرب القويم لبلوغ الأهداف الوطنية والقومية، والمحرك الفكري والعقائدي المناسب لتحشيد الجماهير العربية من حولها، وتحقيق تطلعاتها العليا في الوحدة والحرية والإشتراكية.

كل الاقزام الذين خانوا هذه الثورة المباركة، او غدروا بها وإنقلبوا عليها، باءوا بغضب من الله في الدنيا والآخرة، وتجرعوا علقم النهايات المأساوية المفجعة، وتقاطروا تباعاً الى مزابل التاريخ المنتنة.. بدءاً بمسطول برلنتي، ومروراً بدلدول جيهان، وبعده مخلوع إنتفاضة يناير، ثم إنتهاءً بصديق شمعون بيريز “الوفي”، وصاحب عبارة: “الستينات وما إدراك بالستينات”، الأخواني المعزول مرسي العياط.

غير ان عبدالفتاح السيسي، شاغل موقع الرئاسة المصرية لفترتتين والثالثة على الطريق، لا يختلف كثيراً عن أولئك الغادرين والمتآمرين، فقد ألمح بادئ الامر الى انه من معشر الناصريين الأحرار، ومن أبناء الطبقات الكادحة والأحياء الشعبية المُتطلِعة للرعاية والعدالة الإجتماعية.. ولكن ما ان نجح في إنقلابه ووطّد أركان حكمه، حتى تكشف عن تلميذ غير نجيب للمأجور المقبور أنور السادات، وتابعٍ مُتذيلٍ يدور في فلك المعسكر الإسرامريكي اللعين.. الأمر الذي يتناقض جذرياً مع قانون مصر الطبيعي، كما عرّفه المفكر الجغرافي المصري العبقري د. جمال حمدان، إذ قال: “مصر اليوم إما أن تحوز القوة أو تنقرض، إما القوة وإما الموت، فإذا لم تصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة فسوف يتداعى عليها الجميع يوماً ما كالقصعة، أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وأبعدين”.

لقد بكت الشجاعة بحرقة، ولطمت الثورة على الخدين، حين إدعى ذلك السيسي انه بطل ثوري شجاع خرج في الثالث من شهر يوليو عام ٢٠١٣ لتحرير مصر من قبضة الأخوان، وتطهيرها من متواليات الفوضى والفساد والإستبداد، ووضعها على سكة السلامة والكرامة والنهوض.. ولكن سرعان ما تبين انه لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، بل انه أصغر كثيراً من قيادة البارجة البشرية المصرية التي تمخر عُباب الزمان، حيث فرّط بتراب تيران وصنافير، وبمياه النيل الخالد، وبلقمة خبز الغلابى والفقراء، ثم إقتدى بالخديوي إسماعيل الذي رهن مصر للدائنين والمرابين والأفاقين الأجانب.

كنا نتوسم – او نتوهم – ان يبادر هذا الدعيّ السيسيّ الى إحياء تراث عبد الناصر ومرجعية ثورة ٢٣ يوليو التي رفعت إسم مصر عالياً بين الأمم، وأطلقت حركة فنية وثقافية مدهشة، وأرست دعائم إقتصاد وطني قوي، وأنصفت العمال والفلاحين والكادحين.. وذلك مثلما فعل بوتين حين عكف على منح روسيا عظمة ومكانة القطب السوفياتي، او ما بذل شافيز ومادورو من جهود لإسترجاع مبادئ وأفكار سيمون بوليفار، او حتى مثلما فعل أردوغان لإحياء تراث السلطنة العثمانية، رغم انها وُصفت في أواخر أيامها “بالرجل المريض”.

هل أتاكم نبأ المخزاة السياسية، والخطيئة الأخلاقية، والفضيحة الإعلامية، التي إقترفها نظام السيسي وبرلمانه المزيّف، حين أسقطا إسم “ناصر” من عنوان “أكاديمية ناصر العسكرية”؟؟ أليس في ذلك أبلغ أمارة على مهابة وجلال وسمو مكانة عبد الناصر، الذي ما زال مجرد ذِكر جزءٍ من إسمه يثير حنق وقلق الصهاينة والأمريكان، بعد نيّف وخمسين عاماً على رحيله؟؟ أليس في ذلك ايضاً اقبح دلالة على خسة ومذلة نظام السيسي، الذي أضاف الى تفريطه بتراب مصر ومياه نيلها، تفريطاً فادحاً آخر يتمثل بطمس إسم عبد الناصر، باعث نهضة مصر الحديثة، وأحد أبرز عمالقة العالم في القرن العشرين؟؟

بعد كل هذا الإسفاف “السيساوي” في الردة والإنحرف، يتعين ان نسكت عن الكلام، حيث لا لزوم للمزيد من الطرح والشرح.. فالمعايب والمخازي أكثر من سافرة ومفضوحة وعلى رؤوس الأشهاد.. ولكن يحق لنا ان نهمس في أذن السيسي بحقيقتين: أولاهما ان الغرب المنهمك حالياً في محاربة بوتين بدعوى غزو أوكرانيا، سبق له ان حارب عبد الناصر، بذات الحقد والقسوة، بدعوى انه يهدد أمن إسرائيل.. وثانيهما ان هذا الغرب مُعادٍ لمصر تاريخياً وجغرافياً، وليس لعبد الناصر شخصياً الا بقدر إخلاصه لمصريته، ولعل واقعة تصدي الإمبراطوريات الغربية لمشروع محمد علي باشا النهضوي وإجهاضه، ما زالت محفوظة في ذاكرة الأيام.

عموماً ورغم كل شيء.. في ذكرى هذه الثورة المهيبة والحبيبة، نستعيد – نحن كبار السن – شريط الأيام الخوالي والزمن الجميل والأصيل، ونستذكر منظومة المبادئ القومية والمواكب الوحدوية العروبية، ونسترجع أصداء مواقف وصولات وخطابات “أبي خالد” التي طالما حظيت بإهتمام وإحترام شعوب الشرق والغرب، ونرثي لشبان العرب الذين يتجشمون حالياً مرارة هذا الواقع البائس، ولم يعايشوا زهو ذلك التاريخ المجيد.. ونوقن – بإيمان صوفي – ان غُربة هذه الثورة عن أمها المصرية وامتها العربية لن تطول بإذن الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى