٢٣ يوليو .. هل حققت الثورة اهدافها؟
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

بعد نجاح ثورة ٢٣ يوليو، أعلن الضباط الأحرار عن مبادىء ستة قاموا بثورتهم من أجلها و يهدفون إلى تحقيقها. كانت تلك المبادىء معروفة لديهم جميعاً قبل قيامهم بالثورة و كانت حافزهم للانضمام للتنظيم لكنها لم تكن موثقة أو مكتوبة على ورق تماشياً مع السرية القصوى التي تميزت بها مرحلة التخطيط للثورة. أما تلك المبادىء الستة فقد كانت:
١) القضاء على الإقطاع
٢) القضاء على الاستعمار
٣) إقامة جيش وطني قوي
٤) إقامة عدالة إجتماعية
٥) القضاء على سيطرة رأس المال
٦) إقامة حياة ديمقراطية سليمة
تلك الأهداف كانت أيضاً تعيش في وجدان المصريين الشرفاء و يأملون بها و يتطلعون إلى تحقيقها. فإلى أي مدى نجحت الثورة في تحقيق ما قامت من أجله و ما كان يتعشمه منها المواطن العادي؟
القضاء على الإقطاع:
تفاقم الإقطاع في مصر منذ أصبح محمد علي والياً عليها، و عند قيام الثورة كان بعض الأفراد يمتلكون و يتحكمون في آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية. الملك فاروق شخصياً كان يمتلك نحو ١٥٠ الف فدان. كانت طبقة الإقطاع تتحكم بأرزاق الآلاف من الفلاحين المعدمين الذين لم يكن لهم وسيلة للعيش سوى العمل المضني و المحفوف بالمذلة و القهر لتلك الطبقة المستغلة. صدر قانون الاصلاح الزراعي بعد ستة أسابيع فقط من قيام الثورة مما يدل على مدى الاهتمام الذي أولته الثورة لإصلاح ذلك الوضع الانساني المشين. لم يكن الإصلاح الزراعي فكرة غريبة عن أبناء مصر الأحرار بل كان بعضهم يكتب عنها و يطالب بانصاف الفلاحين منذ الاربعينيات.
بعد أن أصبحت نوايا الثورة بتطبيق الاصلاح الزراعي واضحة جاء وفد من الإقطاع و أصحاب رؤوس الاموال لمقابلة رجال الثورة و اقترحوا عليهم، كحل بديل، أن يرفعوا الضرائب على الاثرياء و يستعملوا دخلها لإصلاح أوضاع الفلاحين بحجة أن الفلاح البسيط لن تكون لديه الخبرة و لا المقدرة على استغلال الأرض بشكل فعال. و هو اقتراح رفضه رجال الثورة على أساس أن الهدف أن يحس الفلاح بآدميته و مسئوليته و أن نجاحه يعتمد على جهده و عمله لا على أصحاب الأرض.
كان الإصلاح الزراعي في مصر من أنبل الانجازات التي تمت في ذلك البلد من آلاف السنين و ربما المرة الوحيدة التي انبرت فيها الحكومة دفاعاً عن الفلاحين المعدمين.
القضاء على الاستعمار:
كانت مصر ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني لسبعة عقود قبل الثورة و فشلت كل المحاولات و الثورات التي قام بها أحرار مصر لكسر أغلال الاحتلال البغيض. فشلت ثورة عرابي و فشلت ثورة ١٩١٩ كما فشلت كل المحاولات الدبلوماسية. سارعت ثورة ٢٣ يوليو بعد نجاحها في التفاوض مع المستعمر البريطاني و تم التوصل إلى اتفاقية الجلاء التي طال انتظارها في أكتوبر عام ١٩٥٤ و التي وقعها جمال عبد الناصر و الوزير البريطاني انتوني ناتنج. تم جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر في يونيو ١٩٥٦. كانت استراتيجية الثورة أن تستعمل العمليات الفدائية ضد قوات الاحتلال كي تجعل استمرار تواجدهم أمراً لا يطاق بالنسبة للجنود مما دفع الحكومة البريطانية للجلوس على مائدة المفاوضات. و هكذا تمكنت الثورة أن تنجز في عامين ما عجز السياسيون عن انجازه في سبعين عاماً.
بناء جيش قوي:
كان جمال عبد الناصر و زملاؤه مدركين للحالة المؤسفة التي كان عليها الجيش المصري، خاصة بعد انتشار شائعات تناقلتها الصحف عن فساد بعض أسلحته و نقص ذخيرته و ضعف قيادته، مما تسبب في ضعف أداء ذلك الجيش في حرب فلسطين. كان الفساد المستشري في الجيش هو السبب الذي ذكره الضباط الأحرار في بيانهم صبيحة يوم ٢٣ يوليو كحافز وراء ”حركتهم الاصلاحية“ كما سُمِّيت في ذلك الوقت.
لم تُضيع الثورة وقتاً و أرسلت الوفود العسكرية لبريطانيا و أميريكا للتفاوض من أجل شراء أسلحة حديثة. رفضت الدولتان بيع الأسلحة، إلا إذا كانت مشروطة، مما دفع عبد الناصر لشراء الأسلحة من الاتحاد السوفياتي. عُرفت أزمة الحصول على السلاح بمعركة ”كسر احتكار السلاح“ لأنه حتى ذلك الوقت كانت مبيعات الأسلحة حكراً على الدول الاستعمارية و لم يكن مألوفاً و لا مقبولاً أن تشتري دولة عربية أسلحة من غير تلك الدول.
إقامة العدالة الاجتماعية:
كان الشعب المصري يتعرض لظلم اجتماعي خانق لا يمكن أن يرضى به إنسان له مشاعر البشر. و كان طبيعياً أن يثور الضباط الاحرار، و هم من عامة الشعب، ضد ذلك الوضع البائس. انحازت الثورة من أول يوم و بشكل واضح لعامة الشعب و عملت على تخفيف معاناته. بدايةً أُلغيت الألقاب و أصبح الجميع سواسية و أصبح العلاج مجانياً و كذلك التعليم بمختلف مراحله. و ما كانت قوانين الاصلاح الزراعي، و القوانين الاشتراكية فيما بعد، إلا لأنصاف المعدمين من الفلاحين.
كان جمال عبد الناصر بالذات شديد الحساسية للمساواة الاجتماعية و و كان في حياته اليومية مضرب المثل في ذلك فكان يرفض بشدة و حزم أن يعامل هو أو أي فرد من أسرته معاملة استثنائية. تلقى ابناؤه تعليمهم في مدارس حكومية و كانت ملابسه من أقمشة مصرية كغيره من أفراد الشعب و كان حريصاً على توفير أساسيات الحياة للجميع و يتابع حتى رغيف العيش معيداً إلى ذاكرتنا سيرة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب.
القضاء على سيطرة رأس المال:
تراخت سيطرة رأس المال على الدولة بمجرد نجاح الثورة لكن الضربة الكبرى لسيطرة الشركات الأجنبية جاءت بتأميم شركة قناة السويس التي كانت بمثابة دولة بحد ذاتها. و فيما بعد تلقت البنوك و الشركات الأجنبية ضربة قوية أخرى عندما قامت حملة تمصير الشركات الأجنبية. مع صدور القوانين الاشتراكية في نهاية الخمسينيات تلاشت تماماً أي سيطرة لرأس المال على الدولة.
إقامة حياة ديمقراطية سليمة:
قبل الثورة كان في مصر برلمان و انتخابات و أحزاب سياسية تمارس نوعاً من الديمقراطية الشكلية وصفها عبد الناصر”بدكتاتورية تحالف الاقطاع و رأس المال“ أما عامة الشعب فكانوا يعرفون أنها ديمقراطية زائفة. لذلك، فعندما أعلنت الثورة اهدافها و وعدت بتحقيق حياة ديمقراطية سليمة لم يستغرب أو يعترض أحدٌ و يقول ”مهلاً! .. لكن كان عندنا ديمقراطية!“. تحدث عبد الناصر مراراً عن الديمقراطية التي كانت في خاطره و التي كان يقرنها عادة بكلمة ”السليمة“ لتمييزها عن الممارسات ”المقَنَّعة بقناع الديمقراطية“ و التي دأبت عليها الأحزاب الفاسدة في العهد الملكي. بعد الثورة كان هناك أيضاً انتخابات للبرلمان، أو ”مجلس الأمة“ كما كان إسمه، و الذي خُصِّصت نصف مقاعده للفلاحين و العمال. مجلس الأمة ذاك كان أكثر تمثيلاً للشعب و أكثر ديمقراطية و صدقاً من كل البرلمانات التي سبقته و التي كانت أساساً حكراً على الباشوات و رأس المال. يكفي أن نعرف أنه كان من شروط الترشح للبرلمان في العصر الملكي أن يُقَدِّم الشخص دليلاً على أنه دفع للدولة ضرائب عن ٣٠٠ فدان (أو أكثر) من الأراضي!
لم يَدَعِ عبد الناصر يوماً أن الثورة أوفت بوعدها بشأن الديمقراطية السليمة التي كان يحلم بها و يسعى لتحقيقها لو أمهله القدر. و كما نعرف فإن الحياة الديمقراطية السليمة في تلك الحقبة لم تغب فقط عن مصر بل غابت عن الدول العربية قبل و بعد عبد الناصر و لا تزال غائبة عنها جميعاً إلى يومنا هذا. و مع ذلك فعندما تسمع تقييماً للفترة الناصرية فغالباً ما ستسمع إشارة إلى غياب الديمقراطية باعتبارها عيباً أساسياً من عيوب عبد الناصر. المؤسف انك لا تسمع مثل ذلك النقد لو كان موضوع الحديث مثلاً عن. الرئيس بورقيبة أو الملك فيصل أو أي ملك أو رئيس من حكام تلك الحقبة. و كذلك لا نسمع عن غياب الديمقراطية لو كان موضوع الحديث عن السادات أو الملك فهد أو صدام حسين أو أي من الحكام الذين عرفناهم بعد غياب عبد الناصر.
كانت نية الزعيم أن يُرسي دعائم الحياة الديمقراطية في حقبة السبعينيات لكن لم يمهله القدر و رحل عن عالمنا قبل أن يقود معركة التحرير أو يتم دعائم الديمقراطية. في تلك الحالات تقع مسئولية إكمال المشوار على من يخلفه، لكن الذي خلفه كانت له نوايا أخرى. فما الذي منع الذين جاؤا بعد عبد الناصر من تحقيق الديمقراطية؟ و لماذا نلومه و لا نلومهم؟
في الواقع أن عبد الناصر كان محقاً تماماً في التريث في مسألة الديمقراطية لأن مصر كانت في ثورة و كان عليه أن يحدد أولوياتها. حاجة مصر للديمقراطية لم تكن مُلِّحة كحاجتها للإصلاح الزراعي و بناء السد العالي و التصدي للعدوان الثلاثي. لو سُمح للأحزاب أن تمارس نشاطاتها السياسية في عقد الخمسينيات مثلاً لما تحقق شيءٌ من إنجازات الثورة. كيف نتوقع مثلاً أن يوافق حزب الوفد على بناء السد العالي؟ ألم يكن المشروع مُهمَلاً في أدراج الحكومات الوفدية المتعاقبة منذ سنة ١٩٢٤؟ و هل كان ممكناً صدور قوانين الاصلاح الزراعي التي عارضها، ثم ساوم عليها، حزب الوفد؟ و ماذا عن الجلاء؟ هل كنا نتوقع أن ينجح الوفد أو أي حكومة حزبية في تحقيقه خلال عامين بعد فشلهم على مدى ثلاثين عاماً؟
الثورات لا تكون امتداداً للماضي و لا استمراراً للأساليب السابقة، بل تهدف لإعادة بناء الدولة على قواعد و أسس قوية و سليمة و تتطلب تسخير كل المصادر و المُقدَّرات لتشييد ذلك البناء الجديد. المطالبة بالديمقراطية في تلك المرحلة المبكرة و الحرجة تكون معرقلة و ضارة لعملية البناء تماماً كما تكون المطالبة بترتيب الأثاث و الزهور و البيت لا يزال في مرحلة تشييد الأساسات.
الهدف الأساسي من الديمقراطية هو تلافي وقوع السلطة في يد حاكم ظالم مستبد. لكننا الآن، بعد أكثر من نصف قرن على الأحداث، نعرف معرفة وثيقة ما كانت تعرفه و متيقنة منه الملايين التي عاشت ذلك العصر و هو أن عبد الناصر كان مثالاً في الوطنية و النزاهة و العدل و أن الظلم و الاستبداد كانتا من ألد أعداءه و أنه ما قام إلا من أجل القضاء عليهما. الديمقراطية في تلك الحقبة بالذات لم تكن ضرورية و لم تكن لتضيف شيئاً في وجود الحاكم النزيه العادل. و قد رأينا في الدول الغربية كيف تتراجع الديمقراطية إلى الخلف في الحالات الطارئة. في بريطانيا مثلاً فقد تراجعت الديمقراطية أثناء الحرب العالمية الثانية بل قام تشرشل بشطب حزب سياسي كامل و إلغائه نهائياً و زج بأعضائه في السجن. في حالة مصر بعد ثورة يوليو لم يكن ممكناً و لا منطقياً الاعتماد على القوى السياسية التي فقدت قدرتها على التغيير، فتلك القوى كانت جزءاً من المشكلة التي قامت الثورة لتصحيحها و هي بطبعها معادية للنهج الثوري الجديد.
و الخلاصة أن الثورة نجحت في تحقيق أهدافها و كان من عين الصواب إرجاء الديمقراطية تمشياً مع الظروف الوطنية التي كانت تتطلب ذلك. فلم تكن الديمقراطية يوماً من أساسيات الحياة، فقد عاشت البشرية من غيرها آلاف السنين و ازدهرت و أقامت الحضارات. و المعروف انه كان في نية الزعيم إرساء دعائم الديمقراطية بعد إزالة آثار العدوان لكن لم يمهله القدر و لا نستطيع ان نلومه على أنه رحل عنا مبكراً و لا نستطيع أن نلوم الثورة أنها قٌتِلَت و رحلت مع قائدها لكننا نلوم من لم يحمل الراية و يكمل المشوار. أما الثورة فقد أوفت بوعودها بقدر ما شاء الله لها أن تعيش و تُنجز في ذلك العمر القصير. لقد حققت الثورة ما أعانها الله على تحقيقه ثم رفعت سقف طموحاتها عالياً و أنجزت من الأمجاد ما هو أكثر شموخاً و سمواً و رفعةً مثل تأميم القناة و بناء السد العالي و الوحدة العربية …