التّمركُز الذّاتيّ في جداليّات الأنا والآخر
بقلم: عبد الإله بلقزيز/ المغرب

من أَظْهَر ما يُسْتَنْتَج من جدليّة الأنا/الآخر في الثّقافات أنّ التّفكير من داخل هذه الثّنائيّة يقود، حُكْماً، إلى الوقوع في نزعةٍ من التّمركُز الذّاتيّ، مع ما يقترن بتلك النّزعة من أمراض النّرجسيّة ومديح الذّات الافتتانيّ، وإنكار الآخر والتّشنيع عليه، وتنامي أوهام التّفوُّق (الثّقافيّ، الدّينيّ، القوميّ، العرقي…) وما يلازم الشّعور به من نظرةِ استعلاءٍ إلى الآخر، ومن وهمٍ بدونيّته متلازميْن
في الغالب، مع وهمٍ رديف هو: الاصطفاء الطّبيعيّ أو الإلهيّ الذي يمنح الأنا – في مقابل آخَرِها – امتياز السّيادة، ومشروعيّة إملاء معاييرها وفرْضها بحسبانها المعايير التي تُوزَن بها المبادئُ والقيم والأفكار ويُدْرَجَ على اتِّباعها.
هكذا تمحو كلُّ مركزيّةٍ ذاتيّة مبدأ الاختلاف واحترام الخصوصيّات (من حيث إنّ نزعة التّمركز الذّاتيّ حاملةٌ، حُكْماً، لِمَزْعمةٍ «كونيّة» تبيح لها – باسم الدّين الحقّ، أو قيم المدنيّة الحديثة، أو، في مَـظْهَرٍ أعلى منها، باسم «المجتمع الدّوليّ» ومواثيقه، أو باسم العولمة… – تنزيلَ معاييرها منزلةَ المعايير الأَوحديّة ذات المفعوليّة الكونيّة). والحقُّ أنّه ليس من حضارةٍ، ولا من ثقافةٍ، ولا من ديانةٍ، ولا من أمّةٍ في التّاريخ تَعْرَى من داء التّمركُز الذّاتيّ الذي يؤدّيها إليه انتظامُ تفكيرها داخل ثنائيّة الأنا/الآخر؛ فهي جميعها – وإنْ على تَفاوُتٍ بينها في الدّرجة لا في النّوع – تتبادل الاشتغال بهذه الثّنائيّة: في نظرتها إلى نفسها، وفي نظرتها إلى غيرها الذي لا يشاركُها منظومتَها العقَديّة أو القيميّة أو السّلوكيّة.
ليس في المسألة هذه ما يبعث على أيّ استغرابٍ بالنّظر إلى أنّ نزعة التّمركُز الذّاتيّ ما هي، في أساسها، إلاّ صورةً لوعْيٍ بالذّات هو ذاتيّ بطبيعته، وقد تغْـلُب عليه ذاتيّتُه في سيرورة تطوُّره فتمنعه من إعادة تمثُّل الذّات في صلاتها بخارجها الاجتماعيّ والتّاريخيّ. ولقد تتفاقم هذه الحال من التّمركز على الذّات إلى الحدّ الذي تصير فيه حالاً مَرَضيّة؛ أي تُفصح عن إدراكات أو أفعالٍ مَرَضيّة فتتدرَّج من افـتتانٍ نرجسيّ بالذّات إلى عنصريّة مثلاً. إنّ في تضاعيف كلِّ ثقافةٍ من الثّقافات الإنسانيّة يثوي جنسٌ من المفاهيم التّمييزيّة – المسكونة بالتَّضخُّم الأَنَويّ – من طراز: الغوييم، البرابرة، الأغيار، الغرباء، الآخرين…إلخ، لذلك كان من باب اللاّبُدِّيّة أن يقود التّفكيرُ المتوسّلُ هذه المفاهيمَ إلى إنتاج نظرةٍ عنصريّة إلى العالم الإنسانيّ يقع فيها تَدْنِيةُ مَقام الآخر وتحقيرُهُ مقابل تبجيل الذّات وتعظيمِها!
هذا واحدٌ من الاستنتاجات الرّئيسية التي ينتهي إليها التّفكيرُ في ثنائيّة الأنا/الآخر، والتّفكيرُ في وضعها الاعتباريّ النّظريّ Statut théorique. مع ذلك، ينبغي الانتباه، جيّداً، إلى أنّ هذه الثّنائيّة لا تعمل على وتيرةٍ واحدة في الثّقافات والحضارات جميعِها، وفي الأمكنة والأزمنة والشّروط جميعِها، بل يرتبط نظامُ اشتغالها بنوع الحال التي يكون عليه طرفاها معاً أو أحد طرفيْها على الأقلّ. بيانُ ذلك أنّ نظرةَ ثقافةٍ مّا أو حضارةٍ مّا – في طوْر صعودها وفُشُوّ قيمها واتّساع مساحة إشعاعها – إلى ما تعتبرُه آخَراً بالنّسبة إليها هي غيرُ نظرتها إليه في طوْر نكبتها أو تأزُّمها: حين تعتريها أحوال التّراجُع والانحطاط. تكون في موقعِ قـوّةٍ، في الحال الأولى، لا تخشى معه آخَرَها ولا تَفِـزُ في علاقتها به، أمّا في الحال الثّانية فيحْملها شعورُها بالوهْن والانكسار على إتيان فِعْلِ مخافَـةٍ مَرَضيّة (= فوبياء) منه و، بالطّبع، مقرونةٍ بالتّعبير عن شعور الكراهيّة والإنكار له في الوقت عينه. ولا يتعلّق الأمرُ في هذا بقانونٍ نظريّ مشْـتَـقٍّ ذهنيّاً، بل هو إلى محصّلة خبرة التّاريخ وتجارب الثّقافات والحضارات فيه أقربُ وأشدُّ صلة.
على أنّه حتّى في الحالة التي تنتكس فيها ثقافةٌ مّا، أو يَـعْرِض لها من الأحوال ما يفرض عليها شيئاً من التّراجع والانكماش، يتعسَّر الحديث عن أنـاً واحدةٍ موحَّدة في مقابل آخَـرٍ لها متفـوِّق؛ أعني في صورةٍ من التّـقابُل الحَديّ بينهما لا يلتقيان على تخومه؛ إذْ قد يحْـدُث أن يضْرب قسمٌ من تلك الأنا بيده إلى فكر الآخَر ومعارِفه وقِيَمه – ولو من باب محاولةِ فهْـم سِرِّ تقدُّمه – فيتحصَّل من ذلك أن يَجد نفسه منتهلاً منه، ما شاء له الانتهال، وأَمْيَـلَ إلى استقبال محتوى ذلك المَمْتُوح من ينابيع ثقافته؛ وما أكثر ما تكرّر مثيلُ ذلك في تاريخ الصّلة بين الثّقافات، حتّى في لحظات الاصطدام بينها. ولعلّ من آكَـدِ نتائج مثل ذلك الانتهال من ثقافة الآخَـر – عند مَن يتولاه الشّعور بالانكسار- تولُّـدَ الوعيِ بالحاجة إلى إعادة النّظر في تلك التّقاطبيّة التّنابذيّة بين حدّيْ الأنا والآخر (عند هذا الفريق المُنْتهِـل): ولو على نحوٍ غيرِ موعًى به، بل الذي قد يقود نحو تشبُّع بعضِ تلك الأنا بقيم الاختلاف والاعتراف والحوار والتّثاقُف وما في معناها من قيمٍ ثقافيّة رفيعة، أي على نحوٍ يخفِّف من غلواء تلك التّقاطبـّةِ الثّنائيّة الحادّة التي يفرضها علينا التّـفكير بتوسُّل مفردات الأنا والآخر أو التّفكير من داخلها.