في ذكرى النكسة… لو حوكم عبد الناصر
بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

في التاسع من يونيو ١٩٦٧ ظهر عبد الناصر على شاشة التلفزيون حزيناً كسير القلب و تحدث إلى شعبه في الخطاب الذي عرف بخطاب التنحي. تحدث عن الهزيمة العسكرية و أعلن أنه يتحمل المسئولية الكاملة عن ما حدث و قدم أستقالته. كان ذلك الأسبوع من حياة الرئيس أسبوعاً مضنياً و كئيباً و كان يعيش في ذلك اليوم بالذات أعصب لحظات حياته و أكثرها غمَّاً. لم تكن تفاصيل ما حدث على الجبهة واضحة له، و لا يزال كثير منها خافياً عنا إلى الآن، لكن الذي كان واضحاً أن الهزيمة كانت فادحة. لو كان رئيس آخر لتوارى عن الأضواء و ترك للإذاعة أن تعلن الخبر البغيض على الشعب، ففي تلك المواقف يود الإنسان أن تنشق الأرض و تبلعه على أن يواجه أهله و عشيرته الأقربين، لكننا نتحدث عن جمال عبد الناصر.
لم يُحاكَم عبد الناصر و لم يُحاسبه أحد لكنه كان يحاسب نفسه كل يوم منذ اندلاع الحرب و أصدر حُكمه على نفسه و كان حُكماً مبالغٌ في صرامته و شديداً في قسوته. حَمَّل عبد الناصر نفسه المسئولية الكاملة عن كل ما حدث و استقال من كل مناصبه، و يُذكر عنه أنه قال لبعض رفاقه ان الناس معهم حق لو اعدموه في ميدان التحرير! تلك القسوة على الذات كانت نتيجة لإحساسه الشديد بالذنب باعتبار موقعه كرئيس للبلد التي جاء ليخلصها من كوارث الماضي فإذا بها تتعرض لكارثة جديدة تحت رئاسته. محاكمة عبد الناصر لنفسه كانت مختصرة و سريعة لكنها كانت مجحفة و قاسية و لا تُقْبلُ في قاعات المحاكم لأن الإعتراف أُخِذَ في لحظات ضائقة و تحت تعذيب الضمير. المحاكمة كلها كانت نابعة من كرم خلق الزعيم و و شهامته و نقاء معدنه و فروسيته و ما كان يتحلى به من درجة عالية من الاحساس بالمسئولية. فالهزائم ليست غريبة عن تاريخنا الحديث لكن لم يقف أي من الحكام ليقول أنا المسئول، و كما نعرف فالهزيمة العسكرية سنة ١٩٦٧ لم تكن مقصورة على مصر بل شملت أيضاً دولاً عربية أخرى و لكن تصرف قادتها و كأن الأمر لا يعنيهم.
لو فرضياً حوكم عبد الناصر فإنه كان سيتعرض لأسئلة كثيرة في مجالات متعددة لتحديد أين بالضبط كانت نقاط التقصير، مثل: هل أعد جيشاً قوياً لدخول الحرب؟ هل كان تعامله صائباً مع أزمة الحشودات على الحدود السورية؟ هل كان على وعي بأبعاد الصراع العربي الإسرائيلي؟ و هل كان من الحكمة تواجد قوات مصرية في اليمن؟
إعداد جيش قوي:
كان واجب عبد الناصر، كرئيس للجمهورية، أن يبني جيشاً قوياً قادراً على حماية البلاد، فهل قصر في ذلك؟ بالتأكيد لم يقصر، فقد كان بناء جيش قوي بنداً أساسياً من مبادىء الثورة و أولوية من أولوياتها. سافر وفد مصري لإجراء مفاوضات مع بريطانيا و أميريكا لشراء الأسلحة المطلوبة و رفضت الدولتان مما اضطره لشراء الاسلحة من الاتحاد السوفياتي، و كان ذلك أمراً يعتبر من الكبائر في نظر الدول الاستعمارية. عُقِدت بعد ذلك صفقات أخرى مكَّنَت الجيش المصري من امتلاك أسلحة حديثة لم تكن معروفة عند الجيوش العربية مثل أجهزة الرادار و الغواصات. و لم يبخل عبد الناصر على تدريب الضباط فأرسلهم في دورات تدريبية لشحذ خبراتهم حتى أصبح الجيش المصري مفخرة لمصر و العرب. أداء ذلك الجيش فيما بعد كان موضوعاً آخر و مسئولية أخرى. قد يقوم الأب بواجبه لتعليم ابنه فيرتب له الالتحاق في معاهد ممتازة و يدفع عنه كل المصاريف المطلوبة و يوفر له البيئة المناسبة لتحصيل العلم فإذا أخفق الابن بعد ذلك فتلك مسألة أخرى تقع مسئوليتها على الابن نفسه.
لو حوسب الحكام العرب على درجة إعدادهم لجيوشهم لأُدينوا جميعاً باستثناء عبد الناصر.
موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي:
كان جمال عبد الناصر يعرف أكثر من غيره عن إسرائيل و طبيعة الصراع معها، فقد حارب في فلسطين و لمس مباشرة عملية الغدر التي كانت تدبرها الدول الاستعمارية ضد العرب. و كان يعرف أن إسرائيل، حتى من قبل تأسيسها، كانت متفوقة عسكرياً و كان لديها من الأسلحة و المهارات أكثر مما كان لدى العرب. و أهم من ذلك كان يدرك أن إسرائيل وجدت بقرار جائر من الأمم المتحدة و بضمان من الدول الكبرى التي كانت ستتدخل فوراً لو مالت كفة أي حرب لصالح العرب. مهاجمة إسرائيل كان عملياً أمراً فوق قدرات العرب العسكرية في ذلك الوقت و كان بالتأكيد سيؤدي إلى رد قوي من أميريكا و الدول الكبرى و عواقب وخيمة، و كان عبد الناصر يدرك جيداً تلك المخاطر. كزعيم قومي كان يؤمن أنه لا مستقبل للأمة العربية إلا إذا تحركت باتجاه واحد و تحت علم واحد فكانت الوحدة العربية ضرورة حتمية يبقى العرب من غيرها جماعات متفرقة و أحياناً متناحرة. في نظر الزعيم كانت دولة الوحدة العلاج الشافي لكل ما كان يتعرض له العرب و فرصتهم ليقفوا بشموخ بين الدول الكبرى مثل أمريكا و الاتحاد السوفياتي. طبعاً كان مستحيلاً بقاء إسرائيل في ظل دولة الوحدة و مع ذلك كان الرئيس يعتقد أنها تسقط تلقائياً على أي حال لأنها تعيش في بيئة غير ملائمة وأن على العرب العمل على إبقاء تلك البيئة غير ملائمة بالاستمرار في رفض الدولة الصنيعة و مقاطعتها و بناء جيوش قوية قادرة على حمايتهم منها و ذلك بالضبط ما فعله عندما أصبح رئيساً لمصر. لم يدعي عبد الناصر يوماً أن مصر كانت قادرة على إزالة إسرائيل أو إلقائها في البحر كما يشاع كثيراً.
و لم يكن جمال عبد الناصر مغامراً يحب الحروب و لا كان متسرعاً، لكنه كان شجاعاً لا يتردد أن يقاتل إذا فرض عليه القتال. و قد أوضح ذلك الموقف الاستراتيجي في أكثر من مناسبة منها خطابه في عيد النصر في بور سعيد سنة ١٩٦٣ عندما تحدث عن مشروع إسرائيل في تحويل مياه نهر الأردن، و هو الخطاب الذي دعى فيه لعقد أول مؤتمر قمة عربي. قال بالحرف الواحد:
(.. و بعدين مش عيب ..نطلع نقول احنا النهاردة مانقدرش نستعمل القوة ابداً عشان ظروفنا مش مناسبة .. أو أحنا و الله قادرين اذا حولوا نهر الاردن انا نمنع هذا التحويل بالقوة .. كل ده ممكن يكون وارد….. بعدين مش حانزايد .. مافيهاش مزايدات.. يعني انا لا استحي اذا كنت ماقدرش احارب اني اقولكم ما اقدرش احارب …اذا كنت ما اقدرش احارب اطلع احارب و اوديكم كلكم في داهيه؟ اودي البلد بتاعتي في داهية؟ اطلع اقامر في البلد؟ .. مش ممكن .. فانا لا ازايد في هذا الموضوع).
بالمقارنة كان الإعلام المناهض في بعض الدول العربية يقرع طبول الحرب لأي سبب من غير أن تكون له خطط و لا جيوش قادرة على دخول الحرب. من هذه الناحية كانت مصر أكثر حرصاً و إتزاناً رغم قوتها العسكرية.
تعامل عبد الناصر مع الأحداث قبل النكسة:
منذ تواجد القوات الدولية في تيران لم تكف الجهات المعادية لعبد الناصر، سواء الاخوان أو الأنظمة الرجعية، لم تكف عن مطالبة مصر بسحبها. كانت تلك الجهات تزعم ليل نهار في وسائل إعلامها أن عبد الناصر يحتمي بتلك القوات و أنه لن يدخل في مواجهة مع إسرائيل. أذكر أنني كنت أذهب مع زملائي في المدرسة إلى مركز الإخوان المسلمين للعب تنس الطاولة و كنت أحياناً أقرأ منشوراتهم المعلقة على الحائط و التي كانت دائماً تشير إلى قوات الطوارىء كدليل على خداع عبد الناصر للعرب! ثم أضافت تلك القوى من الأنظمة الرجعية و الإخوان عدم تحرك مصر لنجدة سوريا في إحدى المناوشات الحدودية. كان هناك إلحاح شديد و ضغوط عربية خبيثة على مصر لتصعيد الموقف و الزج بمصر في حرب مبكرة.
عندما جاءت التقارير عن الحشودات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية في أيار ١٩٦٧ كان أمام مصر خيار إما أن تتحرك أو أن تتجاهل الأمر. الخيار الثاني كان معناه عدم احترام اتفاقية الدفاع المشترك و و زعزعة الثقة في مصداقية مصر و أن الأكاذيب المغرضة ضد سياستها صحيحة.
كل الإجراءات التي اتخذها عبد الناصر كانت في الواقع هي نفسها التي طالبت بها القوى المعادية له على مدى سنين، ثم بعد النكسة وجدنا نفس القوى تلوم الزعيم على إتخاذ تلك الإجراءات! من هذه الناحية فالمسئولية تقع على عاتق تلك الجهات قبل أن تلمس عبدالناصر.
الضربة الأولى:
بعد النكسة مباشرة كان الرأي السائد في الشارع العربي هو أن عبد الناصر أخطأ بقراره بأن لا يكون البادىء في الحرب، و كنت شخصياً مقتنعاً بذلك الرأي المبني على أساس أن النصر يكون عادة مع الجانب الذي يباغت خصمه، كما فعلت إسرائيل. ذلك الاعتقاد خاطىء و قراءة سريعة لتاريخ الحروب تؤكد ذلك، و على أي حال لم تكن الضربة الأولى خياراً مناسباً لمصر التي تلقت تحذيرات من اميركا بأن العواقب ستكون وخيمة. الجنرال ديجول، و كان مستقلاً عن الهيمنة الامريكية، نصح عبد الناصر بأن لا يكون البادىء في الحرب و كذلك فعل الاتحاد السوفياتي الذي أوضح موقفه من أنه سيتخلى عن مصر إذا كانت البادئة في الحرب. كان الأسطول السادس في المنطقة و يراقب عن كثب سماء مصر و كل تحركاتها العسكرية و مستعداً للتدخل فوراً. الضربة الأولى كان معناها دخول أمريكا مباشرة و إبادة الجيش المصري مع تضاعف الخسائر في الأرواح أضعافاً مضاعفة و لوقعت مصر كلها (و ليس سيناء فقط) تحت الإحتلال، و كلنا يعرف مقدرة أمريكا على تدمير البلاد و العباد. ثم أنه رغم أن احتمالات الحرب كانت تتزايد كل يوم ألا أن عبدالناصر كان لا يزال يعتقد أن هناك بصيص أمل لنزع فتيل الحرب في آخر لحظة خاصة بعد وساطة يوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة.
كان عبد الناصر محقاً في عدم القيام بالضربة الأولى لأنه جَنَّبَ مصر من كارثة أكبر و خسائر مضاعفة في الأرواح و تدمير محقق.
تواجد القوات المصرية في اليمن:
سنة ١٩٦٢ تمكن عبدالله السلال من الإطاحة بأسرة حميد الدين الحاكمة و أعلن قيام الجمهورية العربية اليمنية. كان واضحاً من البداية أن حكومة الثورة لها إتجاه قومي عربي تقدمي مما أثار قلق بريطانيا، التي كانت تسيطر على جنوب اليمن، و السعودية حيث هرب الإمام البدر. قامت السعودية و الرجعية العربية بدعم الإمام المعزول للعودة إلى الحكم و ساندتهم بريطانيا و إسرائيل. استغاث عبدالله السلال بمصر التي قررت إرسال قوات (تزايد عددها فيما بعد إلى عشرات الآلاف) لحماية النظام الجمهوري. بريطانيا تبرر موقفها على أساس قلقها من وجود نظام جمهوري مؤيد لمصر بالقرب من قواتها في عدن و تصر على أن مشاركتها كانت استخبارية و استشارية فقط. أما إسرائيل فتبرر مشاركتها على أساس أنها كانت فرصة من السماء لاستنزاف مصر.
نستطيع أن نفهم لماذا تدخلت مصر لدعم النظام القومي التقدمي في اليمن الذي كان نصفه الجنوبي يعاني من وطأة الإحتلال البريطاني، لكن ماذا كانت السعودية و الرجعية العربية تفعل هناك؟ و كيف تكون مصالح هؤلاء متفقة مع مصالح إسرائيل و بريطانيا؟ و العجيب أنك لا تسمع أحداً من المتقدين لسياسة عبد الناصر و الحاقدين عليه يلوم الملك سعود أو فيصل على تدخلهما في اليمن بمساعدة بريطانيا و إسرائيل!
كأي حرب عصابات فقد كان لحرب اليمن تأثيرها السلبي على الجيش المصري لكن المسئولية في إشعال تلك الحرب و استمرارها تقع أولاً على ملوك السعودية.
مسألة عامر و القيادة العسكرية:
رغم أن عبد الحكيم عامر كان من صناع ثورة ٢٣ يوليو إلا أنه في الستينات أصبح عبئاً عليها و على قائدها و عائقاً لمسيرتها. كان تحديث الجيش من أهم مبادىء الثورة و عمل عبد الناصر على تحقيقه مبكراً. كان من الحكمة أن يضمن ولاء ذلك الجيش للثورة و أهدافها فلم يكن مستهجناً و لا غريباً أن يختار رفيق كفاحه عبد الحكيم عامر ليتولى قيادته. مع مرور الزمن بدأت تتراكم دلائل عديدة تشير إلى عدم كفاءة عامر في إدارته و انحرافه عن مسيرة الثورة و تنكّره للمُثُل التي قام من أجلها. بعد الانفصال حاول عبد الناصر ان يجرد صديقه من بعض سلطاته عن طريق إجراء تعديل إداري في نظام الحكم و هو ما رفضه عامر رفضاً تاماً و كاد أن يؤدي إلى شرخ في الحكومة. تمادى عامر (و كان قد أصبح مشيراً) في أسلوبه الذي كان يتسم باللامبالاة و غياب الانضباط العسكري و صار مكتبه منتدى يتوافد إليه زمرة من كبار العسكريين و المخابرات و أصحاب النفوذ. انزلق المشير إلى بيئة تلك الزمرة و أصبحت تصرفاته متنافرة مع الُمُثل التي قام من أجلها و مناقضة لتقاليد عبد الناصر و أخلاقياته. تمكن عامر من إن يحيط تصرفاته بجدار من السرية خاصة بعد نشوء علاقة بينه و بين احدى ممثلات الإغراء. في السنين التي سبقت النكسة كان جمال عبد الناصر يزداد اقتناعاً أن صديقة و رفيق كفاحه قد تغير كثيراً و أنه لم يعد مناسباً لمركزه الحساس. المشكلة أن إقصاء المشير، الذي كان يتحكم في الجيش و المخابرات، كان أمراً صعباً و محفوفاً بالمخاطر حتى وإن نجح. مثل تلك الخطوة كانت سَتُستَغَل من قِبَل القوى المناهضة للثورة، سواءً داخل مصر أو في العالم العربي أو الغرب، كدليل على تَصَدُّع النظام و عدم مصداقيته. ثم أن المشير لم يكن ليقبل أن يخرج من السلطة بسلام بدليل أنه فعلاً حاول الانقلاب على عبد الناصر عندما أقصاه بعد النكسة. و أكاد أقرأ عناوين الصحف الرجعية و الاستعمارية لو أُطيح بالمشير مبكراً فكلها ستتباكى عليه و سيخرج علينا من يقول ”لو بقي المشير لما وقعت النكسة“!
كان دور عامر قدراً مكتوباً، فالرجل كان في شبابه وطنياً شريفاً يتحلى بالشجاعة و الخلق الكريم و كان عبد الناصر محقاً في صداقته معه. أكثرنا الآن لا يرى حكمةً في تعيينه قائداً عاماً للجيش، لكننا الآن نتمتع بميزة أننا رأينا أحداث المستقبل و هي ميزةً لم تكن متوفرة لعبد الناصر الذي لم يكن يعلم بالغيب و لم يكن لديه أي دليل على أن ذلك الوطني الثائر سيتغير في بضعة سنين. عامر في الستينات أصبح شخصاً آخر و لم يعد نفس الرجل الذي شارك في الثورة و آمن بِمُثُلِها و مبادئها و لو اجتمع الاثنان لفتك أحدهما بالآخر.
الخاتمــــــــــــــــــــــــــة:
لا يمكن تبرير الاداء الضعيف للجيش المصرى و الجيوش العربية رغم ما نعرفه الآن من أن أميريكا كانت متعهدة بانتصار اسرائيل حتى لو اقتضى الأمر تدخلها مباشرة و تدمير مصر. الجيش المصري كان قوياً بسلاحه و عتاده لكن ثقافة الكثيرين من ضباطه كانت ثقافة قوة و نفوذ أكثر منها ثقافة حروب و هذا ينسحب أيضاً على الجيوش العربية. إسرائيل كانت تعرف ذلك و عندما قامت بعدوانها سنة ١٩٦٧ كانت متأكدة أنها لا تغامر و واثقة من النصر .. و لو كان لديها أدنى شك لما قامت بالعدوان.
كان للنكسة أسباب عديدة و تقصير كبير من جهات مختلفة، منها مثلاً ذلك التقصير الواضح في استعداد القيادات العسكرية خاصة و أن عبد الناصر أبلغهم بتوقعاته بأن العدوان سيبدأ بضربة جوية من العدو في الخامس من حزيران. و من أسبابها ما يعود للدول العربية التي، رغم ثرائها، لم تنمي قدراتها العسكرية على النحو الذي فعلته مصر، بل منها من عادى السياسة الناصرية و حاربها بهدف استنزاف قدرات مصر العسكرية.
كان ظهور عبد الناصر في الخمسينيات كنسمة هواء منعش للأمة العربية بعد قرون من الركود والاختناق تحت ثقل الاحتلال الأجنبي. انبهر العرب بالزعيم الناشىء الذي شرع في تأسيس العدالة الإجتماعية في مصر و تطويرها صناعياً و تنمية قدراتها عسكرياً حتى أصبحت مصر الدولة العربية الوحيدة المؤهلة لمواجهة إسرائيل عسكرياً. ليس سراً أن حافز إسرائيل للمشاركة في العدوان الثلاثي كان تدمير الجيش المصري قبل ان يتدرب افراده على استعمال الاسلحة الجديدة. في الستينيات كانت مصر قد قطعت أشواطاً أكثر و أصبحت تمتلك أسلحة أكثر تقدماً و بدأت برامج طموحة لصناعة الصواريخ و الطائرات المقاتلة – كل ذلك كان يثير الذعر في اسرائيل و الغرب على حد سواء و كان لا بد لهم من التدخل العسكري للقضاء على الروح و العزيمة التي كانت وراء تلك الانجازات. أذكر أنه في حوالي العام ١٩٨٠ كان دين راسك في زيارة للكويت حين سأله أحد المراسلين عن أهم نجاحات إدارة الرئيس ليندون جونسون التي كان وزير خارجيتها فأجاب بكل صراحة (و وقاحة) ”تمكنا من التخلص من جمال عبد الناصر“.
عدوان ١٩٦٧ كان مؤامرة قذرة ضد العرب و قتل متعمد مع سبق الإصرار بهدف التخلص نهائياً من جمال عبد الناصر و إنهاء مشروعه القومي، أي أن عبد الناصر وقع ضحية لانتصاراته و نجاحاته – لا إخفاقاته كما يدعي أعداؤه. كانت أمريكا قد قررت آنه حان الوقت للتخلص من الزعيم و سياسته بكل ما كانت تمثله من استقلالية القرار و الاشتراكية و التطوير الصناعي و الاقتصادي و تحقيق الوحدة العربية الشاملة. تلك كانت حرب ١٩٦٧ – رصاصة قاتلة أطلقتها القوى الاستعمارية و أصابت هدفها وهو اغتيال السياسة الناصرية.
لم يكن جمال عبد الناصر بلا أخطاء فقد كان بشراً و البشر يخطئون، و مع ذلك كان أكثر براءةً من غيره من الحكام العرب و كبار السياسيين و القادة العسكريين و أنا أعتقد أنه لم يكن أمامه سوى أن يتخذ الإجراءات التي اتخذها. نظرياً كان يمكن لرئيس آخر (من النوع الذي عرفناه فيما بعد) أن يتفادى الحرب بأن ينبطح أرضاً و يستسلم للعدو و يوافق على كل مطالبه و لكن مثل ذلك الرئيس لا حاجة لإسرائيل و لا أمريكا لمحاربته و لا التآمر عليه.