الفردانيّة والمقـدّس الاجتماعيّ
بقلم: عبد الإله بلقزيز

كلّ تفكيرٍ في القيم، اليوم، يواجه جملةً من الإشكاليّات تفرض نفسها في صورة ثنائيّاتٍ تُداخِلُها علاقاتُ توتُّـرٍ وتَجَادُل (= من الجدل).
أو يبدو حَـدَّا الواحدةِ منهما على طرفيْ نقيض، من قبيل إشكاليّات الفردانيّة والمقدّس الاجتماعيّ؛ الثّبات والتّحوُّل في منظومات القيم؛ الهويّـة والانفتاح بما يدخل في ذلك من جدلـيّاتٍ من نوع جدليّة المحليِّ والكونيِّ؛ ناهيك بما بِتْـنَا مقبلين عليه من إشكاليّات جديدة غير مألوفة، في تاريخ الفكـر الأخلاقيّ، بل في تاريخ الفـكر الإنسانيّ جملةً، من قبيل الإنسانيِّ وما بعد الإنسانيّ (أي الآليّ) وسوى هذه من المسائل الشّديدة الإِعضال…
ما من شكٍّ في أنّ أكثر ما يواجه منظومات الأخلاق والقـيم في مجتمعات هذا العصر كافّـة هو ما قـد يَستولي على أيّ مجتمعٍ من تناقضٍ بين ما صار فيه في حكم المقدّس الاجتماعيّ، وما أسْفَـر فعْـلُ جَـمْهرةٍ فيه عن مَيْـلٍ جارف إلى خـرْق العادة والمعهود والمألوف. وإذا كان ما هو جمْعيٌّ من إنتاج المجتمع، أو من موروثه، أو ممّا هو من الموارد التي يتداولها ويتمثّـل بها العالَم والأشياءَ من حوله، بل ويُبْـرِم العلاقات البينيّة فيه في ضوء ما تقضي به أحكامُ ذلك الجمْعيّ من القيـم…، فإنّ ما ينتقض به ذلك الجمْعيُّ، أو ممّا يخدش فيه فينال، بالتّاليّ، من كونه جمعيّـاً ومحطَّ تواطؤ هو ميْل الفرد/الأفراد إلى انتحالِ قـيمٍ مخالفة والتّعبير عنها وبها من داخل النّظام الاجتماعيّ عينه. وليست المشكلة، هنا، في أنّ فعلاً من التّـمرُّد والانتهاك أطلّ برأسه واخترق حُرْمةً جماعيّة، بل في أنّ الفعل هذا قد يتمادى في تَطاوُله على مَـقام النّظام القيميّ الجماعيّ فيستـدرّ، مع الزّمن، ردودَ فعْـلٍ متجاوبةً تَـتَـكَـثَّر ويَعْـظُم أثـرُها إلى حدٍّ يصبح فيه المجتمع مسرحاً لصراعٍ مفتوح بين القـيم، أي بين قـوًى من المجتمع عينِه لا تجتمع على نظيـمةٍ واحدة منها.
ينبغي أن لا يُـسَاء تقديرُ خطورة مثل هذا الاصطدام المحتمل (بين الفرد والمجتمع) على مجمل النّظام الاجتماعيّ؛ إذِ القيمُ – والقيم الأخلاقـيّة على وجهٍ خاصّ – من أشدّ مسائل العلاقات الاجتماعيّة حساسيّةً في المجتمعات؛ في كـلّ الأمكنة والأزمنة، وأكثرها قدرة على التّحوُّل إلى طاقة تفجير. هذه حقيقة أُدْرِكت منذ زمنٍ قديم وأُخِذَ بها، والمثال على ذلك ما كانت تسلكه الإمبراطوريّات القديمة تجاه الشّعوب والبلدان التي كانت تسقط تحت قبضة جيوشها الغازيّة؛ كانت تعليمات أباطرتها إلى قـادة جيوشها وإلى حكّامها على تلك الأقاليم صارمة بعدم المسّ بالعوائـد والأعـراف والتّـقاليد والقيم السّائدة في تلك البلاد. أمّا الدّواعي إلى سلوك هذا المسلك فلا يحتاج بيانُها إلى كثيرِ شرحٍ، لأنّ سوابق التّاريخ أقامت عليها فائضَ الأدلّة؛ حيث أقصر سبيل إلى استـثارة حميّة شعبٍ أو مجتمع، ودفْعِه إلى أن يَعْصَوْصِب ويثـور ثَـأْراً لنفسه هو النّيل ممّا هو في حكم المقدّس عنده: وفي جملته قِـيَمه.
ليس شرطاً أن تكون قـيمُ مجتمعٍ مّا نابعةً من مصدرٍ دينيّ حتّى ينشأ في ذاك المجتمع مقـدَّسٌ اجتماعيّ؛ إِذِ المقـدَّس هو كلّ ما رَسَخَ من أفكارٍ أو قيم في الذّهنيّة العامّة وفي السّلوك الجمعيّ، فتماهى مع الكينونة الذّاتـيّة الجمعيّة وصار قرينة على الهويّـة والأنا الجماعيّـتين و، بالتّالي، بات الخروج عليه أو انتهاكُه اعـتداءً سافراً على الحميميّ في الذّات الجماعيّة، أي على ما هو فيها في حُكم الحَـرَام أو المتمتّع بحُرْمةٍ تستدعي الاحترام والتّوقير. المقـدّس الاجتماعيّ، بهذا المعنى، هو كلّ ما كان موطـنَ إجماعٍ من الجماعة؛ أكان مصدرُه من الدّين أو من الأعراف والتّـقاليد… إلخ، لذلك فإنّ المقدّسات الاجتماعيّة، هنا، مثلها مثل المقدّسات السّياسيّة في الدّولة الحديثة (السّيادة، الدّستور، القانون…) منطقةٌ محظورة على أفعال الانتهاك؛ لأنّ انتهاكها عدوانٌ على الجماعة (المجتمع، الدّولة)، بل بَغـيٌ وخروجٌ ومروق. هذا ما يحملنا على التّـنبيه على المَغَـبّة من استصغار شأن الصّدام بين منطقين: الحريّة والنّظام، الفرد والمجتمع… حين يكون موضوعُه وساحُه (أعني الصّدام): القـيم الاجتماعيّة.
ما يزيد من مخاطر ما أشرنا إليه و، بالتّالي، من ضغط الإشكاليّة على الفكر والمجتمع معاً، وربّما من صعوبة طَـرْقها على نحوٍ موضوعيٍّ أنّ طفرةً هائلةً في معنى الفرد والفرديّة والحريّة حصلت، وما تزال تحصل، في هذه المرحلة الجديدة من التّاريخ التي دشّـنتها العولمة. اجتمعت أسبابٌ عـدّة – اقتصاديّة وسياسيّة وثقافـيّة – لتدفع بفرديّة الفرد نحو أقصاها. ما عادت هناك من حدودٍ، قانونيّة أو عُرفـيّة أو قـيميّة، لتلك الفرديّة المُحَاطة بالحَـدْب والرّعاية من النّيوليبراليّة ومؤّسّساتها. وما عادتِ المجتمعات والدّول تملك أن تحُدّ من جموح فرديّـةٍ منفلتةٍ من كلِّ عِـقال، لأنّ تدخُّلها ذاك بات معدوداً في خانة انتهاكات حقوق الإنسان التي تُـقابلها إجراءات عقابيّة من المؤسّسات الدّوليّة قـد تكون قاسية أحياناً. هكذا نُـلْفِي أنفسنا أمام مشهدٍ جديد من التّجاذب الحادّ بين الفردانيّة، المندفعة بجنونٍ غير مسبوق، والمبدأ الاجتماعيّ الذي يدافع عن نفسه، في تجلّيه الماديّ (= المجتمع)، في وجْـه هـذا التّسيّب الفردانيّ الذي يهدّده بالانفجار؛ التّسيّب الجاري مصحوباً بدعواتٍ نكراء من قـبيل: نهاية الدّولة، ونهاية المجتمع!