الصناعة اللبنانية في أزمة.. كيف يمكن للقطاع أن يستمر؟

 

الخلفية

على إثر الأزمة الراهنة، انهار سعر صرف العملة الوطنية، وواصل سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي ارتفاعه من 1500 ل.ل./د.أ في تشرين الأول/أكتوبر 2019، إلى حوالي 100,000 ل.ل./د.أ. في آذار/مارس 2023، وبلغ التضخّم المرافق بمعدّل 150% في العام 2021، و218% في النصف الأول من العام 2022[1] بحسب تقديرات البنك الدولي. كما ان النمو السلبي في الناتج المحلي الإجمالي هو بمثابة ناقوس خطر حيث هبط بنسبة 20% في 2020 عن العام 2016. ولم يسلم الوضع اللبناني من الأحداث المحلية والدولية التي صبّت الزيت على نار الأزمة على غرار جائحة كوفيد-19، وكارثة انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، والحرب في أوكرانيا مؤخرًا.

في السنوات التي سبقت الأزمة الراهنة، بلغ إجمالي عائدات القطاع الصناعي اللبناني حوالي 8.8 مليار دولار أميركي في 2015، أي 17% من الناتج المحلي الإجمالي آنذاك، مسجلًا انخفاضًا من 10.5 مليار دولار أميركي في العام 2012، ما يشير إلى أثر “ما قبل الأزمة”.[2] وتشمل أبرز القطاعات الصناعية الفرعية: الصناعات الغذائية (نحو19% من إجمالي عدد المؤسسات)، يليها صناعة البلاستيك والمواد الكيميائية (14%)، ثمّ الورق والتغليف والمعادن (11%). في العام 2015، قُدّر عدد العاملين في الصناعة بحوالي 77,700 شخصٍ، أي بنحو 4% من القوى العاملة الإجمالية. تقسّمت حصيلة قطاع الصناعة في العام 2015 بين الاستهلاك المحلي (83%) والصادرات (17%)، وكان أبرزها عام 2017 المجوهرات، والماكينات، والمعادن، والأغذية، والمواد الكيميائية.[3]

التحديات في القطاع

يواجه الصناعيون تحديات صعبة متعددة في لبنان تتراوح بين الأسعار الباهظة للطاقة والاختلالات الهائلة في التوازن المالي، لذلك عمدنا إلى تصنيفها على الشكل التالي:

تحديات مالية
فرضت القدرة الشرائية المتهالكة للمستهلك المحلي قيودًا كبيرة على القدرة الشرائية. يحتلّ لبنان المرتبة الثانية بعد السودان من حيث أعلى معدّل تضخّم عالمي في العام 2022.[4] تقترن أيضًا صعوبات التسعير الناجمة عن هذا التضخّم المفرط بإنعدام التوازن في المخزون، واضطرابات في سلاسل الإمداد، وارتفاع في تكاليف الشحن. كذلك، يبرز غياب الائتمانات المصرفية كعائق أساسي، ذلك ان الحصول على “الدولار النقدي” يمثل التحدي الأكبر للصناعيين في ظلّ عدم تقديم المصارف أي تسهيلات. وقد خلق الدعم الحكومي غير الواضح والفوضوي عراقيل إضافية للصناعيين، حتى أنّه بات من الصعب صياغة العقود لأنها تطبّق قانونًا وفق سعر الليرة اللبنانية الذي لا ينفكّ ينهار.

العمالة والأجور
يعاني الصناعيون اللبنانيون نقصًا حادًا في القوى العاملة. أمّا الأسباب فهي أربعة: 1) سوق عمل غير متوازن، 2) معدل مرتفع لهجرة اليد العاملة الماهرة، 3) نقص في عدد العمّال ذوي المهارات الضرورية، 4) نقص في المهنيين الشباب العاملين في المجال الفني والميكانيكي. وفقًا للجنة الأمم المتحدة والاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، سُجّل بين العامين 2019 و2020 خسارة في العمل بدوام كامل في قطاع الصناعة[5] بلغت 27%. وفي أعقاب الأزمة المالية، حاول بعض الصناعيين التكيّف مع الواقع الجديد للأجور، ولكن يبقى من غير الممكن تعميم هذا النهج.

بنى تحتية متهالكة
يواجه الصناعيون تحديات في مجال الطاقة في ظلّ تعثر الشبكة الأساسية والحاجة إلى المولدات الخاصة التي تعتمد على المازوت والطاقة المتجددة، والتي أصبحت مكلفة للغاية. في العامين 2021 و2022، عانت جميع المحافظات تقريبًا من انقطاع في التيار الكهربائي تجاوز أحيانًا 22 ساعة يوميًا.[6] ومع أنّ إضافة مصادر الطاقة المتجددة كانت مفيدة، إلا ان المصانع لا تزال تعاني من نقص في إمدادات الطاقة. وأشار بعض كبار الصناعيين إلى العمل بنسبة 40% خلال الأزمة بسبب الصعوبات في تأمين الطاقة.

حكومة معطّلة
فاسدة ومعطلة، هكذا يُمكن وصف الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي أدارت دفّة البلاد وأوصلته إلى الانهيار. يفرض ذلك الكثير من التحديات على الصناعيين: 1) التأخُّر في تسوية وضع شحنات المواد الخام المستوردة والصادرات المتجهة إلى الخارج (حيث تعمل الوزارات بأقل من 30% من موظفيها)، 2) تحديات في مجال الصيانة وتعزيز القدرة الاستيعابية، 3) عدم وجود أي قوانين لحماية الإنتاج المحلي، 4) سياسات بيئية لا تواكب العصر، 5) التهريب غير الشرعي.

البعد السياسي
خلّفت الديناميكيات السياسية الإقليمية أثرًا شديدًا على النمو الصناعي في لبنان. على إثر النزاع اللبناني-الإسرائيلي، والأزمة السورية منذ العام 2011، والأزمة مع بلدان الخليج مؤخرًا، وفي ظلّ غياب الدعم السياسي، لم يعد قطاع الصناعة اللبنانية قادرًا على التكيّف بالسرعة المطلوبة مع تحديات التصدير الإقليمي.

نموذج اقتصادي هشّ
أُهمِلت الصناعة في لبنان على مدى 50 عامًا، مع هامش شبه معدوم لتحقيق نموّ فعلي. فالنموذج الاقتصادي الهش الذي قادته النخب السياسية همّش القطاعات المنتجة وركّز على السياحة، والقطاع المصرفي، وغيرها من الخدمات. وعلى سيبل المثال، 80% من احتياجات لبنان الغذائية يلبيها الاستيراد.[7]

فرصٌ تتيحها الأزمة

تقدّم الأزمة فرصًا محدودة على ثلاثة مستويات. يرتبط أولها بتخفيض كلفة العمالة التي تشكّل واحدة من أبرز تكاليف الإنتاج التي يتكبدها الصناعيون اللبنانيون. تُدفع أجور الموظفين في غالبية الأحيان بالليرة اللبنانية، إلى جانب مخصصات إضافية مثل بدل النقل، والتعليم، والدعم الطبي. وتُعتبر الأجور منخفضة بالمقارنة مع السنوات السابقة. أمّا الفرصة الثانية، فتتجلّى بارتفاع الطلب المحلي. قد تظهر فرص إضافية للاستحصال على بعض المواد الخام محليًا نظرًا إلى أنّ المنتجات الأجنبية أصبحت أكثر كلفة بفعل انهيار سعر الليرة. ولما كانت الكثير من الأسر تتقاضى أجورها بالليرة اللبنانية، بات المستهلك يفضّل المنتجات البديلة المحلية. وتكمن الفرصة الثالثة في إمكانية أكبر للتصدير. في ظل الكلفة المنخفضة، قد يزداد الطلب على الصادرات اللبنانية. في هذا السياق، يمكن الاستناد إلى تحليل مساحة المنتج الذي أجرته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والذي يسلّط الضوء على فرص في قطاعات فرعية محددة، مثل اللقاحات، والدم، والأمصال المضادة، والمواد السامة، ومنتجات الزرع الطبي(المستنبتات)، وآلات الغسل والتعبئة، والمواد والمنتجات النسيجية.

التوصيات

في ما يلي توصيات سياساتية تُعتَبر مفيدة للصناعيين في ظل الأزمة الراهنة.

قطاعات مستهدفة
تحتاج الصناعة في لبنان إلى التركيز على قطاعات رئيسية قابلة لتحقيق الربح ولديها إمكانية للتصدير معقولة. يُمكن المباشرة بذلك عبر معاينة مساحة المنتج ومحاولة رفع مستوى تعقيد المنتجات المصنّعة في لبنان. على سبيل المثال، تقترح بعض الدراسات التركيز على تعزيز صناعة الإلكترونيات،[8] في حين يفضّل غيرها رفع إنتاج مستلزمات المختبرات الطبية.[9] يتعين على الصناعيين اللبنانيين أن يستندوا إلى هذه الدراسات ويباشروا ببناء الشراكات مع مراكز الأبحاث من أجل تحديث الخلاصات في ضوء الأزمة المستمرة.

أنظمة حكومية جديدة
لا بدّ من اعتماد أنظمة وسياسات حكومية محسّنة حرصًا على صمود الصناعة. على سبيل المثال: 1) إقرار سياسة ضريبية وجمركية جديدة تمنح الصناعيين ميزة تنافسية على المنتجات المستوردة طوال مدّة محددة، إلى حين أن يتمكّن هؤلاء من المنافسة بجدارتهم في السوق المفتوحة العالمية؛ 2) إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية حرصًا على منفعة الصناعيين المحليين، مع الابتعاد عن فرض قيود كثيرة على السلع المستوردة للحفاظ على المنافسة والجودة العالية للمنتجات المحلية؛ 3) اعتماد مقاربة حقيقية لضبط التهريب غير الشرعي عبر ضبط الحدود وسياسة الدعم الحكومي؛ 4) وضع محفزات للعمل في المناطق الصناعية عبر تحسين البنى التحتية وتخفيض الضرائب على الملكية والضرائب البلدية.

حلول الطاقة، والبنى التحتية والتمويل
تشكّل الطاقة تحديًا رئيسًا نظراً لأن الكثير من المصانع موجودة في بيروت وضواحيها، ومن الصعب الاستفادة من الطاقة المتجددة (بسبب ضيق المساحة المتاحة للألواح الشمسية). من المفيد ربما اعتماد حلول الشبكة الصغرى للربط بمؤسسات أخرى أو حتى بوحدات سكنية. بإمكان الحكومة المساعدة في التخفيف من أزمة الكهرباء عبر “فتح الشبكة” لكي تأخذ دور إدارة الشبكة مع السماح للشركات الخاصة بتوليد الكهرباء وبيعها للشبكة.

أما بالنسبة إلى كلفة الوقود العالية، فيكمن الحل المحتمل في تشارك المواصلات (الباصات وغيرها من حلول النقل المشترك)، والحلول التكنولوجية للنقل (تطبيقات لتشارك المواصلات بين موظفي شركة واحدة أو أكثر). وللحد من الحاجة إلى رؤوس أموال كبيرة، بإمكان الصناعيين تشارك الموارد الكبيرة، وهو حل معتمد في بلدان أخرى. قد يقدّم التشارك أيضًا حلولًا لتمويل المشتريات. بإمكان عدد من الصناعيين إنشاء تجمّع لشراء المواد الخام مثلًا، الأمر الذي يسهّل الحصول على خطوط الائتمان وحسومات على الكمية.

الترحيب بالتوجهات الناشئة
من المفترض ألاّ تعيق الأزمة في لبنان الشركات الصناعية من اعتماد التوجهات المعاصرة التي تساهم في تعزيز الكفاءة وتخفّيض التكاليف، لا سيما في ما يخص الجوانب الإشكالية مثل الطاقة والنقل. في هذا السياق، تُعتبر الأتمتة والتكنولوجيات الاستشعارية (المعتمدة على أجهزة الاستشعار الإلكترونية لجمع البيانات)، وعلوم البيانات، مفيدة لهذه الغاية. بالإضافة الى ذلك، ان التحسن المستمر لكفاءة العمليات في المصانع عالميًا يوفر للصناعيين اللبنانيين فرصة الاستفادة من ذلك. على سبيل المثال، شهدت الإنتاجية، والمُعرّفة كنسبة انتاج السلع الى الموارد المستخدمة، تحسنًا بمقدار 2.5% سنويًا في الولايات المتحدة. ويُعزى أكثر من 52% من هذا التحسّن إلى التقدّم المحرز في إدارة العمليات، وبالتالي، فإن التعاون مع الباحثين في الجامعات المحلية من ذوي الخبرة في التوجهات الناشئة من شأنه أن يعود بالفائدة على الصناعيين اللبنانيين.

المراجع:

[1] البنك الدولي. مرصد الاقتصاد اللبناني، خريف 2022: حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي على نحو منصف.
[2] جمعية الصناعيين اللبنانيين، المؤشرات الصناعية، آذار/مارس 2017،https://ali.org.lb/indicators/ali-indicators-march-2017/
[3] س. عطالله، ن. عزالدين، ج. مراد. (2019) Lebanon must develop an export strategy to create jobs(ضرورة تطوير استراتيجية تصدير لاستحداث فرص العمل). موجز سياسياتي صادر عن المركز اللبناني للدراسات، https://www.lcps-lebanon.org/articles/details/2169/lebanon-must-develop-an-export-strategy-to-create-jobs
[4] https://www.fitchsolutions.com/country-risk/lebanon-set-second-highest-inflation-rate-globally-2022-10-08-2022
[5] 21-00075-covid-19-policy-brief-en_feb1.pdf (unescwa.org)
[6] Multidimensional poverty in Lebanon (2019-2021): Painful reality and uncertain prospects (unescwa.org)(الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان (2019-2021): واقع أليم ومستقبل غير أكيد).
[7] Reducing Import Dependency: Challenges and Opportunities | Berytech(الحد من الاعتماد على الاستيراد: التحديات والفرص)
[8] س. بوستوس، م. أ. يلدرم، (2017). Lebanon’s manufacturing sector inaction and untapped potential (تقاعس قطاع الصناعة في لبنان والإمكانيات غير المستثمرة). ورقة سياساتية صادرة عن المركز اللبناني للأبحاث. https://www.lcps-lebanon.org/articles/details/2285/lebanon%E2%80%99s-manufacturing-sector-inaction-and-untapped-potential
[9] الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، 2022،Lebanon’s Product Space Exploring Paths for Export Diversification in Lebanon (تحليل مساحة المنتجات في لبنان لاستكشاف مسارات لتنويع التصدير في لبنان). أيلول/سبتمبر 2022.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى