الصراع على السلطة في السودان بين الإخوة الأعداء: العسكر والميليشيات
بقلم: توفيق المديني

اندلعت شرارة الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” يوم السبت 15أبريل/نيسان الماضي، و تبادل الطرفان الاتهامات حول المسؤولية عن اندلاع المواجهات المسلحة التي جاءت بعد فشل جميع الأطراف السودانية في التوصل إلى تفاهم حول الاتفاق السياسي النهائي، الذي كان من المفترض أن يُنهي أزمة سياسية بدأت منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في 2019، واستفحلت بعد تحرك “انقلاب” عسكري لرئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
ومنذ سنوات، أشارت تقارير إلى أنَّ “التباين بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع سيؤدي إلى عرقلة الانتقال السياسي في السودان”، ناهيك عن دورها في “تقويض الديمقراطية بالبلاد من خلال التمرد، وتوسيع وصولها إلى الموارد الاقتصادية التي تضمن قوتها المؤسسة على المدى الطويل”، بحسب تحليل سابق نشرته مؤسسة كارنيغي.
وكان البرهان وحميدتي يشكلان جبهة واحدة عندما نفذا الانقلاب على الحكومة في 25 أكتوبر 2021، إلا أنَّ الصراع بينهما ظهر إلى العلن خلال الشهور الأخيرة وأخذ في التصاعد. ولا يزال البرهان ودقلو على خلاف حول من سيتقلد منصب القائد العام للجيش خلال فترة الاندماج التي ستمتد عدة سنوات. وتقول قوات الدعم السريع إن القائد ينبغي أن يكون الرئيس المدني للدولة، وهو ما يرفضه الجيش.
في أسباب الصراع بين الجيش وقوات “الردع السريع”
قبل أن نحلل أسباب الصراع الذي اندلع بين الجيش السوداني بقيادة اللواء البرهان، وقوات “الدعم السريع” بقيادة “حميدتي، علينا أنْ نُحَدِّدَ من هي قوات “الدعم السريع”؟
انبثقت “قوات الدعم السريع” مما يُسمى مليشيا الجنجويد المسلحة ،التي كانت تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية في عهد الرئيس الأسبق، عمر البشير، خلال الحرب في دارفور مع بداية الألفية، واستخدمها نظام عمر البشير الحاكم آنذاك في مساعدة الجيش في إخماد التمرد ضدَّهُ. وكانت بداية ظهور قوات الدعم السريع، في 2013، وهي مليشيات شبه عسكرية مكونة من قوى الجنجويد، وتتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في تلك الفترة، ناهيك عن استخدامها في قمع المعارضين واضطهادهم.
تُعرّف قوات “الدعم السريع” نفسها على أنَّها “قوات عسكرية قومية التكوين تعمل تحت إمرة القائد العام، بهدف إعلاء قيم الولاء لله والوطن، وتتقيد بمبادئ القوات المسلحة”، مشيرة إلى أنها تعمل بموجب “قانون أجازه المجلس الوطني في عام 2017”.
ويقدر محللون عدد “قوات الدعم السريع” بنحو 100 ألف فرد لهم قواعد وينتشرون في أنحاء السودان، ويقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي” ويشغل في الوقت الحالي منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم (ثاني أهم منصب بعد البرهان). وبدءاً من 2015، شرعت “قوات الدعم السريع” مع الجيش السوداني في إرسال قوات للاشتراك في الحرب في اليمن، ما سمح لحميدتي بإقامة علاقات مع دول خليجية، لا سيما مع دولة الإمارات.
ورغم أنَّه كان يحظى بثقة البشير، شارك حميدتي عبر “قوات الدعم السريع” في إبريل/ نيسان 2019، في الانقلاب الذي أنهى ثلاثة عقود من حكم عمر البشير. وكان من بين بنود التسوية السياسية التي طرحها الجيش لتقاسم السلطة واحد يتعلق بدمج “قوات الدعم السريع” في الجيش. وعن ذلك أوضحت صحيفة “واشنطن بوست “،أنَّ “قوات الدعم السريع” لديها تراتبيتها وثروتها ومصالحها التجارية الخاصة، وبالتالي كان سيؤدي دمجها إلى فقدانها لاستقلالها. وأضافت أن ذلك بالنتيجة بمثابة صفعة قوية لحميدتي، الذي يقال إن لديه مطامح رئاسية وبنى علاقات وثيقة مع روسيا خلال السنوات الأخيرة.
في حديث مع قناة “إسرائيلية” يوم 19أبريل /نيسان 2023، تحدث يوسف عزت، المستشار السياسي لقائد قوات “الدعم السريع “السودانية التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي” حول تطورات الاشتباكات المسلحة مع الجيش السوداني ، فتمحور حديثه حول الحرب على “الإسلاميين المتطرفين”، وعلى رأسهم قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان،الذي كان حليفه بالأمس القريب، فقال:”العملية التي نخوضها كبيرة، ومتورطة فيها جهات كثيرة يرعاها التنظيم الإسلامي المتطرف، لقد ألقينا القبض على مقاتلين أجانب لا نعرف هويتهم، عملوا كقناصة يقاتلون إلى جانب عبد الفتاح البرهان”، وفق زعمه.
وفي رَدِّه على السؤال حول الأطراف الخارجية الداعمة، نوه بأنَّ “الجيش ليس من بدأ المعركة، الحركة الإسلامية غَرَّرَتْ بعناصرها داخل الجيش بأنها ستخوض حربا ضدنا وضد الخيارات السياسية للشعب السوداني، نحن لدينا المعلومات، وأبلغنا البرهان من شهر آذار/ مارس الماضي، وأطلعنا على معلومات، لكنَّ للأسف لم نكن نعلم أنَّ البرهان هو المنسق لكل هذه العملية، وأنَّه هو رأس العملية ويريد الانفراد بالحكم، يريد التحالف مع الإسلاميين والقضاء على الحل السياسي الذي توافقت عليه القوى السياسية وتحالف مع الإسلاميين”.
وبالمقابل يتهم رئيس المخابرات السودانية السابق صلاح الدين قوش، دولة الإمارات بالوقوف وراء ما يجري في السودان، عبر إقامة “مطبخ للسياسة السودانية في أبو ظبي”، والقيام بعملية تغيير تستهدف الجيش، وإحلال بدلا منه قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
من جانبه، أعلن الجيش السوداني عن وجود معلومات دقيقة لعملية تآمر ومؤشرات قوية بتورط أطراف “إقليمية ومحلية” في الحرب مع قوات “الدعم السريع”.
وقال بيان صادر عن الجيش: “متابعتنا لمعلومات دقيقة بفصول عملية التآمر، ومؤشرات قوية بتورط أطراف إقليمية ومحلية، نفصح عنها في الوقت المناسب”، دون مزيد من التفاصيل.
ليس هناك أي مجال للشك أنَّ هناك أطرافًا إقيليمة ودولية تدعم طرفي الصراع، لا سيما بعد فشل عملية الانتقال الديمقراطي في السودان،و بعدما وقع كل من الجيش و”الدعم السريع” في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول2021 ، مع قوى سياسية مدنية، على اتفاق طارئ مبدئي يقر تشكيل حكومة مدنية وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسة، مع بناء جيش وطني مهني موحد بدمج “قوات الدعم السريع” فيه ومعها جيوش الحركات المسلحة.
حكم العسكر لم يفرز سوى الحروب الأهلية في السودان
يُعَدُّ الجيش السوداني العمود الفقري للدولة ،فقد عاش السودان فترة الحكم الذاتي والديمقراطية الأولى (1954-1958)، وهي تعتبر من أطول الفترات الديمقراطية، لكن استخدام الحكومة السودانية آنذاك القمع العسكري للرّد على التمرد في الجنوب، أفسح في المجال لحصول أول انقلاب عسكري في السودان بقيادة الفريق إبراهيم عبود في 17 تشرين الثاني سنة 1958.
ونجح تنظيم الضباط الأحرار في 25 مايو 1969 في تنفيذ الانقلاب العسكري الذي كا ن يعد له منذ عام 1959 عندما تكون التنظيم بصورة سرية من عناصر الحزب الشيوعي و الناصريين و الديمقراطيين من الضباط خريجي الكلية الحربية. وتكون مجلس قيادة الثورة من ضباط شيوعيين و ناصريين ووطنيين ديمقراطيين، وقد اشتهر هذا الانقلاب ب”انقلاب جعفر محمد نميري”.
وفي 6نيسان/ابريل عام 1985، انفجر الوضع الشعبي في السودان ، وحصلت انتفاضة قادت إلى إسقاط حكم جعفر النميري، وجرت الانتخابات العامة في السودان في ربيع عام 1986،واستلمت الأحزاب المدنية التي فازت في تلك الانخابات السلطة ،وهما الحزبان الكبيران :حز ب الأمة بزعامة الصادق المهدي، و حزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني .و تولى السيد صادق المهدي رئاسة الحكومة الأولى التي أطلق عليها (حكومة الوحدة الوطنية)، و كانت تضم أحزاب الاتحادي الديمقراطي، سابكو، التجمع السياسي لجنوب السودان (جناح ألدو أجو) الفيدرالي. وعجزت هذه الحكومة عن مواجهة تحديات السودان الداخلية و الخارجية.
وفي عام 1989، استلم الفريق عمر حسن البشير السلطة في السودان ، إذ كان متحالفًا مع (الجبهة الإسلامية القومية)، وهو الإسم الذي أطلق على الحركة الإسلامية الحديثة في السودان ، الذي كان يقودها الزعيم الروحي و السياسي لهذه الجبهة الدكتور حسن الترابي ،الذي قبل المصالحة الوطنية مع نظام جعفر نميري . ومنذ لك الوقت غلّب الترابي نزعته البراغماتية السياسية على القيم و المبادئ. تميزت الجبهة الإسلامية القومية بالتركيز على أهدافها الاستراتيجية؛ ولذلك فهي ـ حسب طرحها ـ لا ترى غضاضة في الاشتراك في أي نظام سياسي يحقق أهدافها ويتيح فرصة التمكين للمشروع الإسلامي. وهكذا انخرط الإسلاميون في نظام الفريق البشير بفعالية سواء من خلال إدارة الحكم، أو القيام بالمهام الطوعية والدعوية والجهادية واتخذت اسمًا جديدًا هو المؤتمر الوطني.
وأدى اتفاق سلام جرى توقيعه في العام 2005 لإنهاء حرب أهلية دامت عقدين من الزمن إلى تقسيم السودان في 2011،إلى جزء شمالي هو السودان الحالي، ودولة جنوب السودان حديثة النشأة. وأدى التقسيم إلى سيطرة جنوب السودان على أكثر من ثلاثة أرباع موارد النفط، ما حرم الشمال من موارد مالية ضخمة والعملة الصعبة. واستمر حكم الدكتاتور عمر البشير العسكري لمدة ثلاثة عقود حتى تمت الإطاحة به بعد أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام2019.
لقد ظل الجيش السوداني لعقود طويلة الطرف الممسك بزمام السلطة في البلاد، وبعد الانتفاضة الشعبية بعامين، عاد قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لتنفيذ انقلاب جديد واضعاً بذلك حداً لاتفاق أُبرم في أغسطس/آب 2019، وافق بموجبه الجيش على تقاسم السلطة مع مدنيين ريثما يتم إجراء انتخابات. لكن ذلك الترتيب تعطل فجأة نتيجة انقلاب برهان العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 وما تلته من احتجاجات حاشدة مطالبة بالديمقراطية في أنحاء السودان. وعلى أثر الانقلاب أصبح الجنرالات يسيطرون بشكل شبه تام على السودان ، ما أدى لبروز خلاف قديم بين الجيش و”قوات الدعم السريع” التي ساهمت بدورها في الإطاحة بعمر البشير.
خاتمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
تتخوف القوى الوطنية و الديمقراطية -قوى الحرية والتغيير السودانية- من أن يصبح السودان “مسرحا لحرب بالوكالة”، نظرًا لارتباط طرفي الصراع بعدة قوى إقليمية ودولية لديها أجندات في البلاد، تسعى لتعظيم مكاسبها.فأمريكا تواجه منافسة من لدن كل من الصين، التي قدمت الدعم لمشاريع بالموانئ وخطوط السكك الحديدية، وروسيا التي واصلت استراتيجيتها الخاصة لبناء نفوذ لها لدى قادة الدول الأفريقية الضعيفة.
وفضلاً عن ذلك ،أنَّ لغة البنادق لم تكن حلاًّ لأي من مشاكل السودان سابقًا. ويعكس الصراع العسكري على السلطة في السودان، فشلاً ذريعًا لعملية الانتقال الديمقراطي في السودان، حيث كانت القوى الديمقراطية المدنية تطالب بإجراء انتخابات ديمقراطية رئاسية وبرلمانية، من أجل تأسيس دولة مدنية جديدة .
إنَّ الشراكة في الحكم التي كانت قائمة بين البرهان وحميدتي مبنية على تقويض وتأخير وعرقلة انتقال السودان إلى حكم مدني ديمقراطي. فقد سعى الاثنان إلى التهرب من المساءلة عن الجرائم التي تعود إلى الإبادة الجماعية في دارفور والمذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها أكثر من 120 متظاهرا غير مسلح في حزيران/ يونيو 2019. وفوق كل شيء، استند ترتيبهم إلى الفهم المشترك بأنَّ الجيش السوداني لن يخضع أبدا للمساءلة المدنية.
كما أنَّ أميري الحرب – (البرهان وحميدتي)المبني على الازدراء المشترك لتطلعات االشعب السوداني في بناء دولة مدنية ديمقراطية وتعددية، مرتبطان وتابعان للقوى الدولية الغربية التي تدعم الحكومة الانتقالية المدنية – العسكرية؛ يشهد على ذلك انتهاجهما نهج التبعية للغرب، ودعمهما لاتفاقات أبراهام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبعد الإطاحة بعمر البشير، شرع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في محادثات لتقديم الدعم المالي، فيما سعت السلطات الانتقالية إلى استقطاب الاستثمارات الغربية. لكن ذلك اصطدم بصخرة انقلاب البرهان في العام 2021، حيث قام العديد من المانحين بتجميد الميزانيات المرصودة لدعم السودان، ما ترك الحكومة التي يقودها الجيش أمام معضلة سد ثقب الميزانية. ويقع السودان ضمن أفقر الدول بالعالم، حيث أتى في المرتبة 170 من بين 189 ضمن مؤشر التنمية لبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة.