عندما تكتب هدى عبد الناصر عن ثورة يوليو

أهدتني الدكتورة هدى جمال عبد الناصر نسخة من كتابها المهم: «جمال عبد الناصر سيرة الحياة» الصادر هذه الايام عن دار نشر هى المكتبة الاكاديمية بالقاهرة، وهو كتاب جامع مانع، يقع فى ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير، يمكن القول أن فيه كلمة الفصل الأخيرة عن جمال عبد الناصر الأب والإنسان قبل أن يكون زعيماً مهماً حقق لمصر نهضة حديثة، ربما تعد أهم نهضات القرن العشرين.
وقد عرفت بعد رحيل عبد الناصر اثنين من أبنائه بشكل إنسانى ونادر، الدكتورة هدى المثقفة والإنسانة وصاحبة الدور المهم والنادر فى الكتابة عن مشروع والدها لبناء مصر الحديثة، والدكتور المهندس المرحوم خالد جمال عبد الناصر، عندما تواصل معى عبر صديقنا المشترك سعيد الشحات، لأنه كان يريد الذهاب إلى نجيب محفوظ لمناقشتة والكلام معه حول عبد الناصر وتجربته.
متردداً حملت رغبة خالد جمال عبد الناصر إلى نجيب محفوظ، كنت متخوفاً ألا يتحمس للقاء، وربما يعتذر عنه بلباقته المعهودة وإنسانيته الفيَّاضة التى عرفت عنه. لكن مفاجأتى كانت عندما رحب نجيب محفوظ بلقاء خالد جمال عبد الناصر وسعد به.
كنا نلتقى فى مركب «فرح بوت» الراسية على نيل الجيزة، التى كان يمتلكها رجل الأعمال النادر والجميل الدكتور إبراهيم كامل. كنت لا أعرف بالضبط مشاعر نجيب محفوظ عندما أطلب منه استقبال خالد جمال عبد الناصر، وهو الذى انتقد كثيراً جداً تجربة جمال عبد الناصر السياسية والوطنية فى بناء مصر الحديثة. بل إن بعض رواياته وأشهرها رواية: «الكرنك». تقوم بشكل أساسى وجوهرى على انتقاد تجربة حكم عبد الناصر التى كنت-ومازلت وسأظل-أعتبره مؤسس مصر الحديثة فى القرن العشرين.
كانت مفاجأتى تامة وكاملة، عندما رحب نجيب محفوظ بإستقبال الدكتور مهندس خالد جمال عبد الناصر، وفى اللقاء وصل التلاقى الإنسانى المذهل بينهما لدرجة أن نجيب محفوظ طلب من خالد عبد الناصر أن يكرر هذه التجربة، وكان شاهداً على هذا اللقاء، من كانوا يحضرون معنا، منهم صديق العمر وتوأم الروح جمال الغيطانى والمهندس المثقف عماد العبودى.
دعونا من الماضى بكل ظلاله الجميلة وحكاياته التى لاتنتهى ولن تنتهى، لأكتب الآن عن كتاب الدكتورة الصديقة هدى جمال عبد الناصر عن والدها، الذى أعتبره مؤسس مصر الحديثة، إن كان محمد على باشا قد حاول هذا المشروع فى القرن التاسع عشر وحاربه الاستعمار. فإن جمال عبد الناصر قد قام بعمل محاولة باسلة ومهمة وشجاعة فى القرن العشرين. ومثلما حاول الغرب الاستعمارى محاربة محمد على باشا، فقد كرر نفس التجربة، وإن كان بضراوة أكثر مع جمال عبد الناصر.
◄ وثائق سرية
تقول الدكتورة هدى إنها أعتمدت فى الكتاب على وثائق لم يسبق نشرها تتسم بالسرية، خاصة تلك التى كتبها والدى بيده اكثر من 2650 ورقة كتبها، وهى تعبر صراحة عن أفكاره وعن رؤيته للأمور، كما نجد فيها تعليقاته عن الاجتماعات التى شارك فيها، سواء التى تتعلق بتنظيم السياسة الخارجية أو الداخلية أو القمم العربية. بل لقاءاته وبصورة خاصة مع القادة السوفيت فى موسكو.
تعترف هدى كإنسانة وكاتبة وإبنة للزعيم الخالد، إنها انبهرت بتسجيل اجتماعاته مع قادة الدول الذين أتوا إلى مصر من أجل الالتقاء به وتبادل الرؤى، خاصة بعد عدوان الخامس من يونيو1967 فقد اتضحت له فى هذه التسجيلات حقائق لم يتم الكشف عنها من قبل لأى أحد. و لم يكن لغيره أن يحيطهم علماً بها. تعترف هدى أن هذه التسجيلات أثارت فى نفسها إحساساً بالسعادة مغلفاً بشعور عميق بالحنين إلى الماضى، فقد كان الذى يتحدث والدها بنبرة صوته التى أحبتها كثيراً.
وتعترف أنها فعلت كل ماكان بوسعها فى هذا الكتاب، إلا أن المشاعر التى تكنها تجاه والدها غلبت أحياناً على عمل الباحثة فى العلوم السياسية التى سعت لأن تقدم من خلال حياة رئيس دولة فى حجم دور وتاريخ وبطولة جمال عبد الناصر، وتؤكد أن جمال عبد الناصر كرَّس كل حياته لمصر والعروبة، ورغم محاولات أعدائه الفاشلة للنيل من تاريخه. إلا إنه ظل فى قلب أبناء بلده مصر وفى قلب الامة العربية-واضيف من عندى – وفى قلب العالم الثالث، وربما العالم كله.
تؤكد صاحبة الكتاب أن الزمن أثبت أن المبادئ التى دافع عنها والسياسات التى تبناها لا تصلح للماضى فقط، بل أيضا للحاضر والمستقبل، وبالنسبة لنا-نحن عائلته-نحمد الله أنه أتاح لنا أن نعيش لنشهد العصر الذى رد له اعتباره وأعاد حقه، وهى تقصد بذلك حكم الرئيس عبد الفتاح السيسى.
◄ جمال الزوج
من أجمل ما قرأت فى هذا الكتاب، رسالة جمال عبد الناصر التى كتبها لزوجته من ميدان القتال من الفالوجا أثناء وجوده فى فلسطين. مع ملاحظة هامة تكتبها هدى أن هذه الرسائل كانت تفتح بمعرفة الرقيب فى العريش.
◄ فى رسالة السيدة تحية تكتب:
– عزيزى جمال، أبعث لك سلامى وقبلاتى الزائدة وأشواقى، أرجو أن تكون فى أحسن الأحوال وأن يكون موعد حضورك قريبا، وقد مضى شهر على سفرك: ما أطوله من شهر.
لقد إطمأننتم بعض الشىء من الهدنة، وأدعو الله أن يعقبها سلام دائم.
جاءنا ضابط، وأخبرنا أنك بخير، وأنه كان معك قبل حضوره بيوم . فشكراً لك يا حبيبى لاهتمامك الزائد بى وتقديرك لشعورى.
هدى ومنى وأنا الحمد لله بخير: وها هى هدى جالسة أمامى على الترابيزة، ومنى بقت عفريتة أوى وتعلمت كلمات كثيرة منها لا. وطول النهار تقول لجدها: اية اية وهو مسرور جدا وبيشيلها كثيراً.
لا تؤخر علينا الجوابات فاكتب لى كثيراً. لك قبلاتى وقبلات هدى ومنى.
تحية أما رد جمال عبد الناصر، الإنسان النادر عليها فقد كتب فيه:
◄ عزيزتي تحية
سلامى وأشواقى وقبلاتى التى لا يمكن أن تعبر عنها: تصلنى خطاباتك، والحقيقة أننى كل يوم أنتظر البريد لعلى أجد جوابا منكِ: وأنا أراكِ أمامى طول الوقت، وأتخيلك فى المنزل عند حضورى وعند خروجى، وإن شاء الله سأعود إليكِ بعد النصر، وبعد أن شعرت بالحاجة إليكِ. والحقيقة أن قيمتك عندى لا يمكن أن تُقدر، وأنا فى هذا الوقت فى شهر يونيو بالذات – الشهر الذى ارتبطنا فيه – أذكر السنين التى قضيناها معا يوماً يوماً، وإنى أجدها كلها أيام سعيدة، وأشعر بأنكِ كنت السبب فى هذه السعادة التى أرجو الله ان تدوم.
لا داعى لانشغالك مطلقاً لأن كل شيء هادئ، وإننى كمن يقضى الصيف فى الشام.
أرجو أن يكون الوالد مرتاح، وأرجو أن تكونى إستلمتِ الفلوس التى أرسلتها لكِ يوم 12 الجارى، وعشمى أن تكونى مرتاحة فى معيشتك، أما هدى ومنى فلهما قبلاتى وأشواقى وسلامى وقبلاتى الزائدة لكِ.
◄ جمال 20 يونيو 1948
وثمة هامش كتبه جمال قال فيه:
– أرجو أن تُبلغى عائلة عبد الحكيم أننا نتقابل بإستمرار وهو فى أحسن حال.
◄ جمال فلسطين عبد الناصر
تكتب هدى:
– وفى فلسطين شعر والدى بأن الشعوب العربية ضحية لمؤامرة أخفت عنها عمداً حقيقة ما كان يجرى وضللتها، ويقول فى كتابه «فلسفة الثورة»:
– لقد كنت أحس إنى أدافع عن بلدى وعن أولادى، وكان ذلك عندما كنت ألتقى بين الأطلال المحطمة ببعض الأطفال اللاجئين الفلسطينيين تحت الحصار، وأذكر بينهم طفلة صغيرة كانت فى عمر ابنتى، وكنت أراها وقد خرجت إلى الخطر مندفعة تبحت عن لقمة عيش أو قطعة قماش.
وكنت دائما أقول لنفسى: قد يحدث هذا لإبنتى. كنت مؤمناً أن الذى يحدث لفلسطين يمكن أن يحدث لأى بلد فى المنطقة، مادام مستسلما للعناصر والقوى التى تحكمه.
◄ وتكتب هدى:
– رُقِىَّ والدى أثناء حرب فلسطين فى 7 يوليو 1948، وجُرِحَ مرتين أثناء الحرب، ونقل إلى المستشفى، ونظراً للدور المتميز الذى قام به خلال المعركة، فإنه منح «نيشان نجمة فؤاد العسكرية» و«المشبك» عام 1949، وتحت الكلام صورة النيشان.
تكتب هدى: وبعد رجوعه إلى القاهرة أصبح والدى واثقاً أن المعركة الحقيقية هى فى مصر، فبينما كان ورفاقه يحاربون فى فلسطين، كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التى أشتروها رخيصة وباعوها للجيش.
◄ حتمية الثورة
تعترف الدكتورة هدى أن والدها بعد العودة من فلسطين أصبح مقتنعاً أنه من الضرورى تركيز الجهود لضرب أسرة محمد على، فكان الملك فاروق هو هدف تنظيم الضباط الأحرار.
وبعد عودته من فلسطين عُيِّنَ والدى مُدرساً فى كلية أركان الحرب التى كان قد نحج فى إمتحانها بتفوق فى 12 مايو 1948، وبدأ من جديد نشاط الضباط الأحرار، وتألفت لجنة تنفيذه بقيادته، وهى اللجنة التى أصبحت مجلس قيادة الثورة فى 1952.
◄ المنشور الأول
بعد أول تحقيق أجرى مع جمال عبد الناصر، وهو ضابط فى 25 مايو 1948، وتحكى قصة كما جاءت على لسان والدها:
– لقد جمعنا فيما بيننا ثمن آلة رونيو لطبع المنشورات، وآلة كاتبة، وقام بعض الضباط من زملائنا بشرائها، وبدأنا بطبع المنشورات. وقد صدر أول منشور للضباط الأحرار فى نوفمبر 1949، وقد تضمن تحليلاً لحالة البلاد ولمأساة حرب فلسطين، وكانوا يقومون بتوزيع المنشورات على صناديق البريد وباليد، وكنا نطبع فى المرة الواحدة 1000 منشور، وقد قامت السلطات المختصة بضبط هذه المنشورات مرة واحدة فى البريد، إذ أنها شكت فى محتويات أظرفها التى كانت من مقاس واحد، فغيرنا طريقتنا فى التوزيع بالبريد، وأصبحنا نرسل المنشورات من بلاد مختلفة.
وتكمل هدى حكاية الثورة ووقائعها، كما جرت فى بر مصر، وغيرت الدنيا كلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى