لا تخلو من تحريف بعض الحقائق.. إحياء الدراما التاريخية وإعادتها للأضواء في الموسم الرمضاني الحالي

شهد الموسم الدرامي الرمضاني هذا العام عودة الأعمال التاريخية بشكل أكبر مما كانت عليه خلال السنوات الماضية، لا سيما على الساحة المصرية التي كانت تعاني من ندرة هذا النوع من الدراما لصالح الأعمال السياسية التي سحبت البساط من تحت الأقدام بشكل أثر سلبيًا على التنوع المعهود في الخريطة الدرامية الرمضانية.

وتباينت الأعمال التاريخية التي شهدها الموسم الحاليّ، التي انحصر إنتاجها في الغالب على مصر وسوريا، بين الدراما التاريخية الدينية والسياسية والاجتماعية، التي تناولت حقبًا زمنيةً متعددةً، بعضها قد يعود إلى القرن السابع الميلادي، فيما تطرقت أخرى إلى القرن السابع عشر، وثالثة إلى حقبة الاحتلال الأوروبي – الإنجليزي والفرنسي – لمصر، أما الدراما السورية فتطرقت إلى بدايات القرن العشرين حيث سمات الحارة الدمشقية وعادات أبنائها.

وقد أثارت تلك الأعمال مع اليوم الأول لعرضها على الشاشات الفضائية حالة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي، انقسام فني بشأن مستواها وسياقها الدرامي، وتباين في الآراء بشأن الأخطاء التي وقعت فيها، بعضها فنية وأخرى تاريخية، لكن تبقى العودة الحميدة لتلك الدراما الشيء المتفق عليه من الجميع.

رسالة الإمام.. عودة قوية للدراما التاريخية المصرية
يتصدر مسلسل “رسالة الإمام” الذي يتطرق إلى السنوات الأخيرة من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي التي قضاها في مصر، قائمة الأعمال التاريخية التي شهدها الماراثون الرمضاني هذا العام، حيث نال إعجاب وتقدير شريحة كبيرة من المصريين على منصات التواصل الاجتماعي، مشاهدين ونقاد.

ويركز العمل على تأثر الشافعي بالحضارة المصرية وسماتها وطقوسها، وتأثره كذلك بالشعب المصري في وقت عصيب كانت تعاني فيه الدولة المصرية آنذاك وعاصمتها الفسطاط من صراعات سياسية ومذهبية حامية الوطيس بين التيارات والفرق الدينية التي كانت موجودة فوق ترابها.

ويقود الفنان خالد النبوي الذي يجسد دور الإمام قائمة الفنانيين المشاركين في العمل، وهم من المصريين والسوريين، أبرزهم نضال الشافعي وأروى جودة وأمير صلاح الدين وسلمى أبو ضيف وحمزة العيلي وفرح بسيسو وخالد القيش وهافال حمدي، أما الإخراج فكان سوريًا خالصًا بأيدي المخرج المعروف ليث حجو، بينما عكف على كتابته سبعة مؤلفين (4 مصريين و3 سوريين)، بإشراف الكاتب محمد هشام عبية، وبإنتاج شركة “سعدي جوهر – Media Hub” التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة لأحد الأجهزة السيادية في مصر التي أنتجت قرابة 15 عملًا دراميًا خلال الموسم الحاليّ.

ورغم حالة الاحتفاء بالعمل مع عرض الحلقات الأولى منه، فيما يتعلق باللغة المستخدمة والإخراج الجيد وكادرات التصوير واللقطات التي أثارت إعجاب الجميع وإعادة الحياة مرة أخرى للدراما التاريخية المفقودة، فإن هناك بعض الأخطاء التي تسببت في تعرض العمل لانتقاد البعض، أبرزها لقطة استعانة الإمام الشافعي براهب مسيحي لعلاج زوجته وتطبيبها رغم أنه كان معروفًا بسعة اطلاعه في علم الطب والتشريح حتى قال: “لولا اشتغالي بالفقه لاشتغلت بالطب”.

وهو الخطأ الذي حاول البعض تفسيره بصبغة سياسية في محاولة لبروزة حالة الوحدة الوطنية التي عليها الشعب المصري بين المسلمين والأقباط على حساب المصداقية التاريخية، وهو الخطأ ذاته الذي وقع فيه فيلم “الناصر صلاح الدين” حين استعان بمستشار له من الأقباط وهو ما نفاه المؤرخون وخبراء السير والتراجم.

ومن الأعمال التاريخية المشاركة في الماراثون الرمضاني الحاليّ مسلسل “سره الباتع” المأخوذ عن رواية الكاتب المصري يوسف إدريس التي تحمل نفس الاسم، وتدور أحداث العمل حول الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801م) وتأثيراتها في الشعب المصري.

العمل من إخراج خالد يوسف العائد إلى بلاده بعد سنوات من الاغتراب، وبطولة حسين فهمي وخالد الصاوي وأحمد السعدني وحنان مطاوع وأحمد عبد العزيز وأحمد فهمي وريم مصطفى وأحمد وفيق وبيومي فؤاد ونجلاء بدر ومنة فضالي ومحمود قابيل وعايدة رياض وخالد سرحان.

هناك كذلك مسلسل “سوق الكانتو” الذي يتعرض لفترة الاحتلال الإنجليزي لمصر (1882 – 1922م)، وإن كان في صيغة اجتماعية درامية أكثر منها تاريخية بالمعنى التوثيقي، العمل من بطولة أمير كرارة ومي عز الدين وعبد العزيز مخيون ومهار نصار وغيرهم، وتأليف هاني سرحان وإخراج حسين المنباوي.

الدراما التاريخية السورية.. البيئة الشامية
كعادة الدراما السورية، احتلت الأعمال التاريخية مرتبة متقدمة كما هو معهود منذ سنوات، فالسوريون متميزون في هذا النوع من الدراما كما يقول النقاد، فلديهم من الإمكانات والأفكار والكوادر البشرية والفنية ما يؤهلهم لصدارة الدراما العربية التاريخية في الوقت الذي تخلت فيه العواصم العربية الأخرى عن ريادتها في هذا المجال.

وتتميز الدراما التاريخية السورية بالمزج بين التأريخي والاجتماعي، فتخرج الأعمال التي توثق لحقب تاريخية معينة في قوالب درامية اجتماعية مبهرة، خالية من الجفاف التوثيقي وشح جرعات الترفيه والتسلية، وهو ما جعلها مقصد كل من يبحث عن تلك الدراما، سواء داخل سوريا أم خارجها.

تشارك سوريا في هذا الماراثون الرمضاني بعدة أعمال تتطرق كلها للبيئة الشامية، على رأسها مسلسل “مربي العز” الذي تدور أحداثه في بعض حواري دمشق خلال الفترة بين عامي 1900 – 1919، من بطولة عباس النوري وأمل عرفة ونادين خوري وخالد القيش، وإخراج رشا شربتجي.

كذلك مسلسل “زقاق الجن” الذي يتناول المجتمع الدمشقي مطلع القرن العشرين، حيث يعكس ملامح تلك الفترة في قالب اجتماعي رومانسي مشوق، العمل من تأليف محمد العاص، وبطولة أيمن زيدان وأمل عرفة وعبد المنعم عمايري وشكران مرتجى، وإخراج تامر إسحاق.

بجانب ذلك يدخل عمل “الزند: ذئب العاصي” الذي يتناول الفترة التاريخية ذاتها، كأحد المنافسين بشراسة على صدارة المشاهدة، حيث يركز على طبيعة الحياة في الشام تحت ولاية العثمانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، المسلسل من بطولة تيم حسن ودانا مارديني ومن إخراج سامر البرقاوي.

أعمال خارج السباق
هناك أعمال تاريخية أخرى كان يتوقع أن تحدث صدى مدويًا وتثير الكثير من الجدل لكن تأجل عرضها في رمضان، على رأسها مسلسل “معاوية” الذي أنتجته قناة “إم بي سي” السعودية، وهو العمل الذي تدور أحداثه خلال تلك الفترة الحساسة في التاريخ الإسلامي والعربي من مقتل عثمان بن عفان إلى خلافة يزيد بن معاوية، وهي الفترة التي شهدت العديد من الأحداث الفارقة في تاريخ الدولة الإسلامية.

المسلسل كان قد أثار حالة من الجدل حين تم الإعلان عنه، وصل إلى حد إصدار زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بيانًا خاصًا بشأنه دعا فيه إلى التراجع عن بث العمل باعتبار أنه يجرح مشاعر بعض المسلمين بحسب تعبيره، ما دفع القناة المنتجة له إلى عدم عرضه في العراق.

ويعتبر هذا العمل من الأعمال الدرامية الضخمة من حيث الميزانيات والإمكانيات وفق شهادة النقاد، وقد تم تصويره في تونس، ويجسد فيه دور معاوية الفنان السوري لجين إسماعيل، فيما يجسد الفنان الأردني إياد نصار شخصية الصحابي علي بن أبي طالب، أما سهير بن عمارة فتمثل شخصية هند بن عتبة، العمل من تأليف خالد صلاح وإخراج طارق العريان.

ومن الأعمال التي خرجت من السباق الرمضاني هذا العام مسلسل “الحشاشين” الذي يوثق المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها طائفة الحشاشين في بلاد فارس بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلادي، وهي الطائفة التي عرفت بالوحشية في مواجهة خصومها السياسيين، وقد أرجئ العمل بسبب ضعف الميزانية وبعض المشاكل الإنتاجية التي واجهتها الشركة المنتجة، وهو من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي.

الدراما التاريخية.. أسباب التراجع ومقومات العودة
تعددت الأسباب وراء تراجع الدراما التاريخية بصفة عامة وخلال الآونة الأخيرة على وجه التحديد، أبرزها كما تقول الناقدة الفنية ماجدة موريس الكلفة الإنتاجية العالية التي تشكل العائق الأبرز وراء إنتاج أعداد كبيرة من الأعمال التاريخية، لافتة أن المشاهد لن يقبل رؤية مسلسل يقدم التاريخ في صورة هزلية متواضعة سواء على مستوى أدوات الإنتاج من ديكورات وإضاءة أم على مستوى أسماء الفنانيين المشاركين في تلك الأعمال.

وفي السياق ذاته يرجع الناقد طارق الشناوي تراجع الأعمال التاريخية إلى استهداف المنتجين تلك الأعمال التي تدر أرباحًا كبيرة وسريعة، التي ليس من بينهما الدراما التاريخية التي تستهدف شريحة من الجمهور المثقف والمحب للتاريخ والمتطلع لمعرفة المزيد عن ماضيه، وهو ما اتفق معه فيه المؤلف والسيناريست أيمن سلامة الذي أوضح أن العصر الذهبي للدراما التاريخية المصرية كانت تحت ولاية اتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو) الذي كان يتولى إنتاج تلك الأعمال بهدف الترفيه والإمتاع والتثقيف دون انتظار مقابل أو مردود مادي، أما حين سحب البساط من تحت ماسبيرو لصالح شركات الإنتاج الخاصة تغير الوضع وتذيلت الأعمال التاريخية قائمة اهتمامات المنتجين.

ومن أبرز الأسباب التي أدت بطبيعة الحال إلى تراجع الحضور الدرامي التاريخي غياب الكوادر والعقليات المؤمنة بتلك الرسالة ودورها التثقيفي والتوعوي بعيدًا عن المسائل الربحية، ومن أبرز الشواهد الجلية في هذا الشأن تأثر الدراما العربية بصفة عامة والتاريخية بصفة خاصة بغياب نجمها اللامع وأحد أبرز من أثروها على مدار سنوات طويلة، تمثيلًا وإخراجًا، المخرج السوري العبقري حاتم علي (2 يونيو/حزيران 1962 – 29 ديسمبر/كانون الأول 2020).

واستطاع علي بما قدمه من أعمال درامية وما آمن به من رسائل وأهداف تغيير وجه الدراما السورية بشكل قاطع خلال العقود الثلاث الماضية، حيث عزف على أوتار التاريخ والمجتمع، الرومانسية والترفيه، الإنسان والطبيعة، الحضارة والمستقبل، فقدم من خلال أعماله لوحات فانية سجلت اسمه بأحرف من نور في سجلات أعلام الدراما العربية.

وطيلة مسيرته الفنية كمخرج قدم الفنان السوري أكثر من 27 مسلسلًا، بعضها وثق تاريخ المسلمين في الأندلس كما هو الحال في مسلسل”صقر قريش ” و”ربيع قرطبة” و”ملوك الطائف”، ومن قبله العمل الرائع “صلاح الدين الأيوبي” الذي تُرجم إلى عدة لغات وعرض في قنوات تليفزيونية عديدة، كذلك مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي تطرق إلى ما تعرض له النازحون الفلسطينيون بعد عام 1948.

ثم انتقل إلى التاريخ المعاصر من خلال مسلسل “الملك فاروق” عام 2007، ليعود مرة أخرى إلى سير الخلفاء ودولة الإسلام الأولى عبر مسلسل “عمر” عام 2012، الذي يعد أضخم إنتاج عربي في ذلك الوقت، ويروي سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، وكانت تلك أول مرة يسمح فيها بتجسيد أحد الصحابة في الأعمال التليفزيونية ولاقى نجاحًا كبيرًا.

مثل تلك الأعمال التي تحتاج ميزانيات إنتاجية ضخمة تتطلب توحيد الجهود وتعزيز التشارك العربي لإنتاجها في إطار مشروعات فكرية عملاقة تستهدف تجديد الدماء في أنهار الوعي العربي التي تعاني من انخفاض واضح في منسوبها بسبب الأعمال السطحية التي تعزف على أوتار البلطجة والجنس والفوضى الملوثة أحيانًا بالصراعات الأيديولوجية، الأمر الذي يحمل الكثير من التداعيات الكارثية على الأجيال القادمة.

في المجمل، ورغم الأخطاء التي وقعت فيها الأعمال التاريخية المعروضة الآن في السباق الرمضاني الحاليّ، فإنها خطوة جيدة نحو إحياء الدراما التاريخية وإعادتها للأضواء مرة أخرى لما تمثله من قيمة ورسالة أكبر من عوائدها المادية، وهو ما يجب أن يعيه القائمون على أمور الدراما في الوطن العربي في ظل المنافسة المتوقعة من بعض خصوم الأمة العربية والإسلامية ممن أعلنوا تصدرهم مجال التوثيق التاريخي، وفي المقدمة منهم دولة الاحتلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى