النقابات المهنية المصرية تتململ في مواجهة نظام السيسي، وتثبت أن خطط السيطرة الأمنية عليها لم تحقق أهدافها

القاهرة- بدأت النقابات المهنية تعود تدريجيا كقوة رئيسية بموازاة الجيش والحكومة في مصر، وترسل رسائل إلى النظام الحاكم أن قلبها لا يزال ينبض بالحياة، وأن خطط السيطرة عليها طوال السنوات الماضية لم تحقق أهدافها الكاملة.

فبعد انتخاب نقيب مستقل في نقابة المهندسين، وزيادة التململ في نقابتي المحامين والأطباء، أوصلت نقابة الصحافيين رسالة سياسية مباشرة إلى من يهمهم الأمر في القاهرة، حيث انتخبت جمعيتهم العمومية الجمعة خالد البلشي رئيس تحرير موقع “درج”، متفوقا على خالد ميري رئيس تحرير جريدة “الأخبار” الحكومية الذي وجد دعما سخيا من المسؤولين عن إدارة الإعلام في مصر.

وجاء تفوق البلشي كإشارة اعتراض مهنية على الحال الذي وصل إليه الإعلام في البلاد، بينما فسره آخرون على أنه رسالة سياسية إلى النظام الحاكم فحواها أن عملية التضييق على الفضاء العام بشقيه السياسي والإعلامي غير مجدية، إذ بعد حوالي ست سنوات من السيطرة شبه الكاملة فشلت الحكومة في إيصال مرشحها إلى مقعد النقيب.

ومن مفارقات نجاح خالد البلشي أنه رئيس تحرير موقع (درج) محجوب منذ سنوات في مصر، وتم التعتيم على تحركاته وبرنامجه الانتخابي لصالح منافسه خالد ميري الذي استضافه عدد كبير من القنوات التلفزيونية المملوكة للحكومة ومنحوه كل الدعم مقابل تقزيم دور منافسه عمدا.

وتشير نتيجة انتخابات الصحافيين إلى أن هذه النقابة المعروفة بـ”قلعة الحريات” قد تلعب دورا سياسيا الفترة المقبلة، فقد نجح أربعة في عضوية مجلس النقابة من المحسوبين على المعارضة هم هشام يونس ومحمد الجارحي وجمال عبدالرحيم ومحمود كامل، إضافة إلى اثنين من المستقلين هما عبدالرؤوف خليفة ومحمد يحيى.

وتؤكد تطورات المشهد العام في بعض النقابات أن أدوات الحكومة لم تفلح في تدجينها والسيطرة عليها تماما، خاصة أن الأجهزة الأمنية التي تتولى إدارة النقابات اعتقدت أن الهدوء داخلها السنوات الماضية هو قبول بالصيغة الجديدة، إلى أن بدأت تفاجأ بتوالي ملامح الرفض من المهندسين إلى المحامين والأطباء وأخيرا الصحافيين.

وتحمل هذه التطورات علامات ممانعة لما جرى مع النقابات المهنية من قبل أجهزة الدولة، وأنها قد تعود إلى دورها السياسي الذي انتعش في أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وأسهمت في تصاعد حدة الاحتجاجات ضده وصولا إلى إجباره على التنازل عن الحكم في ثورة شعبية، وكان “سُلم” أو درج نقابة الصحافيين من الأماكن التي انطلقت منها مظاهرات الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني في مصر.

ولعبت النقابات المهنية دورا مهما في الحياة العامة بسبب ضعف الأحزاب السياسية جراء توالي الضغوط التي تمارس عليها من خارجها، ما جعلها تلجأ إلى اختراق منظم لعدد من النقابات، قادته جماعة الإخوان في عهد مبارك وباتت لها اليد الطولى في نقابات الأطباء والمهندسين، وحضور نسبي في نقابات المحامين والصحافيين.

وقال يحي قلاش، نقيب الصحافيين المصريين سابقا، وهو أحد أبرز النقابيين الداعمين لحملة خالد البلشي، إن خسارة مرشح الحكومة رسالة واضحة إلى الدولة بأن أبناء المهنة يرفضون الوضع الراهن بكل تفاصيله مهنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ومستعدون لخسارة أيّ إجراءات مالية مقابل وقف تأميم المهنة وإصلاح مسارها.

وذكر أن نجاح معارض للحكومة كنقيب الصحافيين يمكن استثماره بشكل إيجابي للدولة، إذا أرادت ذلك وقرأ النظام الحاكم المشهد بشكل صحيح، فهذه رسالة بأن الدولة “لا تتدخل في الانتخابات ولديها استحقاقات نقابية نزيهة ومستعدة للحوار والمساعدة في الإصلاح وقبول اختيارات الناس”.

وأوضح أن انتخابات الصحافيين تتجاوز في دلالاتها مجرد انتخابات نقابة مهنية، حيث تعطي مؤشرا على ما يريده الرأي العام من السلطة، لذلك تحظى بمتابعة دقيقة من جهات دولية، مستبعدا حدوث خلافات بين النظام والنقابة مع وجود معارض على رأس النقابة، مبررا ذلك بأن الدولة ليست ساذجة حتى تقطع علاقتها بالصحافيين لمجرد أن النقيب معارض لها، وبالتالي ستحاول احتواء أبناء المهنة بكل السبل.

ويتعامل متابعون مع ما حدث مع الصحافيين على أنه عودة إلى ممارسة النقابة لدورها السياسي، بما يقود لاحقا إلى أن تصبح ضلعا مؤثرا في المشهد العام، يُضاف إلى الحكومة وأذرعها المتباينة، والمؤسسة العسكرية التي لها اشتباكات نوعية مع الفضاء العام، يبدأ من الأمن إلى الاقتصاد ويمر بالسياسة والإعلام.

ويقول هؤلاء المتابعون إن رسالة الصحافيين بقدر ما هي مزعجة لمن اعتقدوا أنهم سيطروا على كافة المفاتيح، وفي مقدمتها الإعلام، يمكن أن تصبح مدخلا ودافعا للإصلاح العام إذا أحسن النظام المصري قراءة فحواها، وتأكد أن الخدمات التي تقدمها النقابة لأعضائها ليست المعيار الوحيد لتعامل الصحافيين معها.

وهذه المرة الثانية التي يسقط فيها مرشح الحكومة بصورة مدوية على مدار ثلاثة عقود، وتُرفض كل الإغراءات المادية التي وعد بها من قبل الصحافيين، ففي انتخابات سابقة خاضعها الكاتب الراحل صلاح منتصر في مواجهة المعارض جلال عارف نجح الثاني دون أن يعد بأيّ دعم مادي، وأخفق الأول الذي وعد بزيادة في رواتب الصحافيين، ولم تضل هذه النتيجة طريقها السياسي.

وقتها لم يغضب الرئيس مبارك واجتمع مع جلال عارف وأقر الزيادة التي وعدت بها الحكومة منافسه، في إشارة إلى أن الدولة لن تفرّق بين مؤيد ومعارض.

وكشفت مصادر إعلامية أن هناك جهات في الدولة بدأت منذ أسابيع دراسة ملف الإعلام بعيدا عن الجهات التي تسيطر على إدارته حاليا، وعقدت اجتماعات مع شخصيات إعلامية جرى تهميشها في السنوات الماضية ولا تشارك مع الإدارة الحالية في مشروعاتها الفضائية والرقمية، بقصد تحديد عيوب الإعلام وطرق إصلاحه.

وأضافت المصادر ذاتها أن أحد الأجنحة المهتمة بالشأن العام في الدولة لم يستبعد نجاح مرشح المعارضة خالد البلشي على حساب خالد ميري، ودللت على كلامها بنشر بعض المقالات في عدد من الصحف شبه الرسمية من كتاب قريبين منها تدعو للانتخابات على أساس مهني، وتتحدث عن المتاعب الراهنة للصحافيين.

وشددت المصادر على أن النظام المصري لن يفوّت إشارة النقابات المهنية وسيتعامل معها بشكل مختلف من شأنه استيعاب ما حوته من مضامين سياسية قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى