صفحة من التارخ العربي المجيد.. الاستاذ «هيكل» يروي استقبال دمشق الأسطوري للرئيس عبد الناصر

 

65 عاما مرت على إعلان الوحدة بين مصر وسوريا بتوقيع الرئيسين جمال عبد الناصر وشكرى القوتلى فى 22 فبراير 1958، وظلت الإذاعة تردد أغنية محمد قنديل «وحدة ما يغلبها غلاب تباركها وحدة أحباب.. أنا واقف فوق الأهرام وقدامى بساتين الشام» التى كتبها بيرم التونسى ولحنها عبد العظيم عبد الحق، وبعد يومين فوجئ السوريون بوصول الرئيس جمال عبد الناصر إلى دمشق وفق ما جاء فى الوصف الذى نشره الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى «الأهرام» بتاريخ 25 فبراير 1958 بعنوان «جمال فى دمشق».

ويقول «هيكل»: لقد كان وصول جمال عبد الناصر إلى دمشق مفاجأة تمت فى سرية كاملة محكمة، فى الصباح الباكر سارت سيارات متتابعة فى الطريق إلى مطار ألماظة ولم يفطن الذين شاهدوها إلى أن حدثاً كبيراً يجرى أمامهم، كان فى هذه السيارات جمال عبد الناصر فى طريقه إلى دمشق ومعه المشيرعبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وأنور السادات وعبد القادر حاتم، وفى الساعة السابعة قامت الطائرة من مطار ألماظة متجهة إلى دمشق .

ويواصل «هيكل» قائلا: أطل جمال عبد الناصر من نافذة الطائرة يلقى أول نظرة على الأرض التى انتخبته رئيساً لجمهوريتها دون أن تراه ودون أن يراها، وفى الساعة التاسعة إلا الربع كانت الطائرة تهبط فى مطار المزة، وبدت الطائرة للذين كانوا فى المطار كأنها طائرة عادية كغيرها من عشرات الطائرات التى تهبط كل يوم، توقفت الطائرة تماماً أمام مبنى المطار وكانت هناك جماعة من قواد الجيش السورى يتقدمهم اللواء عفيف البزرى والزعيم أمين النافورى والقائم مقام عبد المحسن أبو النور الملحق العسكرى المصرى فى دمشق، كانوا ينتظرون الطائرة وفى تصورهم أن القائد العام المشير عبد الحكيم عامر موجودا بين ركابها.

فُتح باب الطائرة ولدهشتهم جميعاً ظهر على بابها آخر شخص كانوا يتوقعون ظهوره فى هذه الساعة من الصباح. وكان اللواء البزرى أول من أفاق من الدهشة فقال: «يا خبر» ! ثم بدأ الباقون جميعاً يتطلعون إلى الرئيس جمال عبد الناصر فى ذهول وهم يرونه يهبط سلم الطائرة ويمد يده إليهم مصافحاً، ولم تكن هناك سيارات فى الانتظار ولم تكن هناك ترتيبات للاستقبال، ركب الرئيس سيارة كانت فى المطار واندفعت سيارة اللواء البزرى تفسح الطريق أمامها، فى الطريق الذى يؤدى من مطار المزة إلى عاصمة الأمويين الخالدة، وكان اندفاع سيارة اللواء البزرى فى الطريق هو الشىء الذى لفت أنظار بعض السيارات المارة، فتطلع ركابها إلى ركب السيارات التى تجرى على الجانب الآخر من الطريق واكتشف ركاب هذه السيارات، الحقيقة مرة واحدة، فاستداروا بسياراتهم وعادوا يحاولون اللحاق بموكب جمال عبد الناصر وهم ينادون باسمه، وبعد قليل كانت شوارع دمشق تردد نفس الاسم، وفى تلك اللحظة كانت سيارة الرئيس عبد الناصر قد وصلت إلى دار الرئيس شكرى القوتلى الذى كان ما زال بالدور العلوى بمنزله ولم يكن يعرف بأمر المفاجأة التى وصلت إلى دمشق فى هذه اللحظات، وأخُطر الرئيس القوتلى بأن عبد الناصر ينتظره فى الصالون، ارتدى الرئيس القوتلى ملابسه وهرع للقاء ضيفه، تعانق الرجلان وقال الرئيس شكرى القوتلى: «لقد حدثتنى نفسى بأنك قادم بعد أن سمعت فى محطات الإذاعة تصريحاً نُسب للسيد على صبرى يقول فيه: إن مشاورات تأليف الوزارة الاتحادية سوف تكون عقب وصول شكرى القوتلى والوزراء السوريين إلى مصر، ولما كان شىء من ذلك لم يتقرر فقد أدركت أن فى الأمر شيئاً وأحسست بشعور غامض أن ذلك التصريح كان مجرد تمويه، وقد صدق ظنى، ولكننى لم أكن أتوقع وصولك بهذه السرعة، كنت أتصور أنك قادم غداً أو بعد غدٍ، لا من اليوم».

ويواصل «هيكل» فى تقريره: فى تلك اللحظات كانت جموع الشعب بدأت تزحف على قصر الرئيس القوتلى كأنها سيل ينحدر من قمم الجبال، وبدأت أصوات الجماهير تعلو حتى وصلت إلى أسماع الرئيسين فى الصالون، وكانت الجماهير تهتف : «ناصر ناصر ناصر ناصرنا»، خرج الرئيسان للشرفة وتحدث شكرى القوتلى وبعده الرئيس عبد الناصر، ثم دخل الرئيسان، ولما جاء الموعد الذى يجب أن ينتقل فيه الرئيس عبد الناصر إلى قصر الضيافة، خرج إلى شوارع دمشق فى سيارة مكشوفة، الحماس الذى شهدته شوارع دمشق لا يمكن أن يوصفه، الطريق بين قصر القوتلى وقصر الضيافة لا يزيد طوله على 100 متر، قطعتها السيارة المكشوفة فى أكثر من ساعة، وصل الرئيس عبد الناصر وسط بحر متدفق من الجماهير وبقى واقفاً فى الشرفة أكثر من ربع الساعة يرد تحية الشعب الذى احتشد فى الميدان الكبير، وملأت الجماهير الشوارع المؤدية إلى قصر الضيافة، وعقد الرئيسان اجتماعاً حضر جانباً منه صبرى العسلى وأكرم الحورانى، ثم تناول الجميع طعام الغداء، وقال الرئيس القوتلى للرئيس عبد الناصر: «إن هذه الأمة فى حماية شبابك وإيمانك وشجاعتك»،

وقد قضى الرئيس كل ساعات ما بعد الظهر يخرج إلى شرفة القصر ويدخل منها، كلما كانت الجماهير تلح عليه فى أن يطل عليها وكانت أصواتها كالرعد وهى تناديه: «طل علينا يا جمال»، فكان يخرج إليهم ويرد تحيتهم رافعاً كلتا يديه، وكان الرئيس يطلب من الجماهير أن تنصرف لأن البرد يشتد مع وصول الليل، ولكن تجمعات الجماهير كانت تزداد، وأنا أملى هذه السطور قبل منتصف الليل بقليل والميدان الفسيح أمام قصر الضيافة مازال ممتلئاً حتى آخره بالجماهير وهى تهتف من قلوبها: «طل علينا يا جمال».

محمد حسنين هيكل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى