شروط التحرك السعودي لتحقيق تطبيع عربي مع سورية الجديدة

بقلم: توفيق المديني

بعد مرور 12 عامًا على اندلاع الأزمة السورية ،ورغم صرفها عشرات المليارات من الدولارات لإسقاط الدولة الوطنية السورية ،باتت المملكة العربية السعودية ومعها الدول الخليجية تقر بفشلها في هذا المجال.
وكنا تحدثنا في المقال السابق عن تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان ، الذي قال : “سترون أنَّ إجماعًا يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار”، مضيفًا “في ظل غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حل سياسي فإنه بدأ يتشكل نهج آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا.
ويتساءل المحللون والخبراء في العالم العربي عن إمكانية التطبيع العربي مع سورية،تحت غطاء كارثة الزلزال ، في ضوء المستجدات التي حصلت في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة،والتي تؤكِّدُ بتغير النظرة السعودية من القضية السورية بشكل عام، حيث باتت القضايا العربية “مصدر إزعاج ممل للمملكة”.
وهذا ما أشارت إليه صحيفة “أيكونوميست” البريطانية التي أشارت إلى أنَّ التحول السعودي لا يعود إلى تقارب بين السعوديين وخصومهم، بل إلى “تصور مفاده أن المملكة، مثل بعض جيرانها الخليجيين، أصبحت ترى بشكل متزايد أن بقية العالم العربي مصدر إزعاج ممل”.
ويبدو أنَّ الزلزال دفع بالقضية السورية إلى قائمة اهتمامات الدول العربية، وأعاد كذلك الحديث عن الطروحات العربية السابقة، التي تشترط على النظام السوري تقديم تنازلات تتعلق بالحل السياسي إلى جانب الحد من نفوذ إيران، مقابل إعادته إلى الحضن العربي.
وفي هذا الإطار، تثار تساؤلات عن حظوظ نجاح الحراك العربي في تحجيم التحالف “القوي والاستراتيجي” بين النظام السوري وإيران.
ما هي أسس المقاربة العربية الجديدة لحل الأزمة السورية؟
بداية لا بدَّ من التأكيد أنَّ أي مقاربة عربية لحل الأزمة السورية يجب أن توافق عليها المملكة العربية السعودية باعتبارها القوة العربية المتنفذة في السياسة الرسمية العربية ،وكذلك على الصعيد الدولي . فالسعودية ترفض عقد صلح منفرد مع سورية، كما ترفض أي تطبيع شكلي من دون تفاهمات واضحة على القضايا المطروحة. بل إنَّ السعودية تعمل من أجل تطبيع عربي واسع يستمر ،ويكون على أساس قاعدة تفاهم واضحة ومحددة تؤدي إلى تراجع النظام السوري عن سياساته السابقة، وتحقيق اختراق في الاستعصاء السوري الذي يعاني منه الملف السوري منذ سنوات ،وتجعله يلتزم مجموعة مطالب وتعهدات بما يساعد على توحيد الصف العربي وتطويق المد الايراني المتشدد في الشرق الاوسط وإضعافه ، حسب وجهة النظر السعودية.
في ظل الحديث عن الحراك السعودي تجاه سورية ، مثَّلتْ كارثة الزلزال التي ضربت كل من تركيا وسورية “فرصة ذهبية” للدول العربية من أجل وضع المقاربة العربية الخاصة بها موضع التنفيذ، حيث رفعت الحرج عن بعض الدول من أجل طرحها بشكل علني مثل السعودية ومصر، علمًا أنَّ هذه المقاربة ليست وليدة اللحظة، بل تم الاتفاق على إطلاقها منذ خمسة أشهر عندما حصل الأردن على موافقة مبدئية من المملكة العربية السعودية على إطلاقها.
في سبتمبر/أيلول الماضي كشف وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي عن مبادرة أردنية من أجل الشروع في عملية سياسية يقودها العرب تهدف إلى حلّ الأزمة السورية استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2254، معبرًا عن قلقه من عدم الاستقرار الحاصل في الجنوب السوري على الحدود الأردنية، وقال الصفدي يومها إن بلاده “تحشد من أجل دعم دولي وإقليمي لعملية سياسية يقودها العرب لإنهاء الحرب المستمرة منذ 11 عامًا في سوريا”، موضحًا أن العملية “ستشمل المملكة العربية السعودية ودولًا عربية أخرى”.
وأضاف الصفدي أن المبادرة تستند إلى قراري مجلس الأمن الدولي 2254 و2642، اللذين يضعان خريطة طريق لتسوية تفاوضية في سوريا، وتسليم المساعدات الإنسانية إلى السوريين، قائلًا: “إننا نريد أن نرى كيف يمكننا تحقيق تسريع في مشاريع التعافي المبكر وفق القرار 2642″، وفي 15 فبراير/شباط الحالي، قال الصفدي بعد لقائه بشار الأسد في دمشق، إن زيارته إلى دمشق “محطة انطلاق لحل الأزمة في سوريا”.
بالعودة إلى أهداف المقاربة العربية الجديدة ،فقد بدأت الدول الخليجية تتخذ سياسات متمايزة عن الولايات المتحدة بشكل أوضح، حيث أصبحت تنظر بقلق إلى الإستراتيجية الأمريكية في سورية، التي تقوم على إبقاء الوضع فيها كما هو عليه دون أي أفق، خاصة أنَّ تركيا بدأت تتحرك بناء على نفس النظرة القلقة من الإستراتيجية الأمريكية (السلبية)، فبدأت عملية تطبيع مع نظام الرئيس الأسد، ما جعل الدول العربية تسارع لكي يكون لها الحضور الفاعل.
تقوم المقاربة العربية الجديدة العربية وفق المصادر الدبلوماسية المعنية على فكرة اتخاذ خطوات تطبيع حقيقي مع نظام الرئيس الأسد ،بما يتضمن مساعدته على إعادة الإعمار وعودته للحضن العربي في مقابل التزامه بالشروط التي تريدها منه المنظومة العربية،لا سيما تحقيق الشرطين الأساسيين، وهما:”الأول تحجيم الدور الإيراني في سوريا، وهو مطلب عربي وأمريكي وإسرائيلي، والثاني استعداد النظام لعودة اللاجئين وتهيئة الظروف اللازمة لذلك معيشيًا وأمنيًا”.
أطروحات المقاربة العربية تجاه سورية، ليست بجديدة، وإنما تتجدَّدُ منذ بداية الألفية الجديدة، وهي تقوم على أنَّ أي مصالحة سعودية ومصرية وعربية مع نظام الرئيس الأسد لن تتم على أساس تقبل المطالب والشروط السورية المتعلقة بلبنان وفلسطين وإيران وقضايا المنطقة عمومًا، بل على أساس تقبل سورية المطالب العربية المدعومة دوليا والمتعلقة بهذه القضايا واعتماد سياسات جديدة حيال قضايا المنطقة.
ترى المقاربة العربية الجديدة العربية أنَّ العالم العربي ليس منقسمًا بين معسكرين عربيين الأول معسكر المعتدلين بقيادة مصر والسعودية والثاني معسكر الصامدين والممانعين بقيادة سورية. الواقع أنَّ ثمة كتلة اساسية تضم الغالبية الكبرى من الدول العربية ومنها مصر والسعودية والأردن ومعظم دول الخليج وهي تعتمد سياسات معتدلة وواقعية وتحترم قرارات الشرعيتين العربية والدولية وتعمل من أجل السلام وفق المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت في عام 2002، وفي المقابل ثمة كتلة عربية صغيرة تضم فقط سورية ودولة أو دولتين عربيتين اضافة الى دولة غير عربية هي إيران وتؤدي سياساتها ومواقفها الى شق الصف العربي وخدمة مصالح الجمهورية الاسلامية والقوى المقاومة في المنطقة.
يرى الخبراء أنَّ المقاربة العربية الجديدة تنص أنَّ الاتصالات التي تجريها السعودية ودول أخرى مع الدولة السورية تهدف ليس إلى مكافأة نظام الرئيس الأسد على سياساته ومواقفه بل تهدف الى محاولة إعادة سورية الى موقعها الطبيعي أي إلى الصف العربي بدل أن تكون جزءًا من الاستراتيجية الإيرانية الخطرة في المنطقة حسب المنطق السياسي للسعوديين والخليجيين عموما، الذين يعتقدون في هذا المجال أنَّ سورية وإيران وحلفائهما في المنطقة يعملون على إثارة المشاكل والاضطرابات الأمنية وزرع عدم الاستقرار وإشعال الحرائق وتفجير أو تأجيج الصراعات بين أبناء الشعب الواحد في عدد من الساحات الاقليمية بينها لبنان وفلسطين واليمن.
ووفق رؤية المقاربة العربية الجديدة ، أثبتت تطورات الأحداث أنَّ النظام السوري عاجزٌ كذلك عن أن يسجل مع حلفائه أي انتصار سياسي أو ديبلوماسي أو من أيِّ نوعٍ في الصراع مع الدول العربية المعتدلة، كما أنَّه عاجزٌ عن فرض أي مطالب على هذه الدول. بل إنَّ النظام السوري هو الذي يحتاج الى مساعدة دول أخرى بارزة ومؤثرة عربية أو أجنبية سواء فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل أو مع المجتمع الدولي أو مع أوضاعه الداخلية الاقتصادية والمالية والاجتماعية، لا سيما في موضوع إعادة إعمار سورية.فإيران تعاني بدورها من العقوبات الاقتصادية المتشددة، وهي عاجزة عن مساعدة سورية لحل أي من مشاكلها الاقتصادية والمالية .. كما أنَّ الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تريد ابتزاز الدولة السورية لإضعاف إيران وقوى المقاومة.
أي علاقة عربية مع ايران؟
تريد الدول العربية المعنية من خلال طرح هذه المقاربة العربية الحصول على التزامات واضحة من المسؤولين السوريين للتوقف عن استقبال مجموعات كبيرة من إيران ودول إسلامية أخرى وإيوائهم وتدريبهم تمهيدًا لإرسالهم إلى جبهات القتال في الداخل السوري .. وتؤكد المصادر الديبلوماسية العربية المطلعة أنَّ مصير العلاقة التحالفية الوثيقة بين سورية وإيران يحتل موقعًا بارزًا في الاتصالات العربية الجارية مع الرئيس الأسد، وأنَّ الموقف السعودي – المصري من إيران والمدعوم عربيًا على نطاق واسع يرتكز على النقاط الاساسية الآتية:
أولاَ – ضرورة التعامل عربيًا مع إيران على أساس أنَّها دولة إقليمية مهمة في المنطقة ولكنَّ ليس على أساس أنَّها الدولة المهيمنة على المنطقة التي تستطيع أن تفرض مطالبها وشروطها على دولها.
ثانيا – من الضروري أن يؤدي التطبيع العربي مع سورية إلى منع يران من استخدام أطراف عربية لشق الصف العربي وإضعاف الموقف العربي الموحد في التعامل مع التحديات والتهديدات المختلفة.
ثالثا – الحرص على إقامة علاقات جيدة ومتطورة في مجالات عدَّةٍ مع إيران شرط أن تقوم بدور “الجارة الصديقة” التي تحترم مبادئ حسن الجوار وسيادة الدول العربية واستقلالها وتمتنع عن التدخل في شؤونها وقراراتها وعلاقاتها الدولية، كما تمتنع عن التحريض على العنف واستخدام السلاح لضرب السلطات الشرعية في هذا البلد او ذاك ولمحاولة تغيير الاوضاع وموازين القوى لمصلحتها في الساحات اللبنانية والفلسطينية والعراقية واليمنية وغيرها.
رابعا – المصالحة العربية تتطلب التعامل بموقف عربي حازم وموحد مع أي تدخلات ايرانية سلبية وغير مشروعة في شؤون دول عربية حفاظا على المصالح العربية العليا وعلى الأمن القومي العربي.
خامسا –حسب المقاربة العربية الجديدة ، لم تطلب السعودية ومصر والدول العربية الأخرى المعنية بالتطبيع مع سورية ،ولن تطلب من الرئيس الأسد قطع علاقاته الاستراتيجية مع إيران بل إنَّها تريد منه أن يعتمد موقفا من الجمهورية الاسلامية ينسجم والموقف العربي العام بحيث يعطي الأولوية لتأمين المصالح العربية العليا وليس لتأمين المصالح الإيرانية في المنطقة. فالعلاقة السورية الجيدة مع إيران يجب ان تكون في خدمة المصالح السورية الحقيقية والمصالح العربية.
خاتمة: سورية الجديدة بعيون عربية
سورية في المخيال الجمعي العربي، هي قلب العروبة النابض ،وهي بحاجة ماسة إلى “الأموال العربية” من أجل إعادة إعمار ما دمرته الحرب ، وهذا لن يتم إلا من خلال التطبيع مع الدول العربية والإقليمية وفي مقدمتها المملكة السعودية، إضافة إلى مصر، خصوصا أنَّ حلفاء سورية على الصعيدين الإقليمي و الدولي :إيران تعاني من الأزمة الاقتصادية و المالية ،ولم تعد قادرة على تقديم الأموال للإستثمارات في سورية، وروسيا غارقة في المستنقع الأوكراني ، وتوجّه الغرب نحو خنق إيران اقتصاديًا وماليًا بسبب دعمها روسيا في حرب أوكرانيا، وفشل الرهان على الصين.
هناك إجماع عربي ودولي على أن الأزمة السورية تحتاج إلى تسوية تاريخية لحلها رغم حالة الاستعصاء، من جراء تداخل العوامل الإقليمية و الدولية في هذه الأزمة.
ولكنَ السؤال الذي يطرح نفسه عربيًا، هل إنَ سورية وحدها تعاني من هذه الأزمة ، أم إنَّ الأزمة السياسية ظاهرة عربية بامتياز!
في بيئة الدولة العربية المعقدة، والمتسمة بالتعددية الطائفية و المذهبية والعرقية، يؤثر هيكل التكوينات الاجتماعية في محاولات إعادة بناء الدولة، من خلال تأثيراته في الهوية القومية، وشرعية السلطة المركزية، وغيرها، وتحول الانقسامات العرقية دون تطوير سلطة مركزية تتمتع بالشرعية، مما يعوق بالتالي تأسيس مؤسسات دولة قوية قادرة على القيام بوظائفها.
والحال هذه ،لا بد من أن تتمتع مشروعات إعادة البناء بقدر من الشرعية الدولية، سواء كان قانونياً أو سياسياً، إضافة إلى وجود قدر من المقبولية الداخلية لفكرة مسئولية الخارج عن إعادة البناء. وربما يفسر استسلام اليابان لمشروعات إعادة البناء فيها أنها منيت بالهزيمة العسكرية في حرب بادرت هي بها، وهو أمر لم يتوفر في الحالتين العراقية و السورية ، حيث لم يكن العراق قبل احتلاله دولة فاشلة، ولم يكن لاحتلاله مشروعية قانونية أو سياسية ، ولم تكن سورية دولة فاشلة قبل الحرب الإرهابية الكونية عليها.
إنّ محددات إعادة بناء الدولة الوطنية ذات صلة بالبيئتين الإقليمية والدولية، وتتمثل أهمها في :
أولاً: بناء الدولة الدستورية في كل العالم العربي
يتفق علماء الاجتماع والسياسة على أنه ليس هناك دولة دستورية في العالم العربي، ومشروعيتها، بالمقارنة مع دولة القانون التي وضعتها الثورات الديموقراطية البورجوازية المتعاقبة في الغرب، وركائزها الحديثة باعتبارها دولة تقوم على المذهب الوضعي الذي يستند بدوره الى الفكرة القائلة إن الدفاع عن القانون يقوم على الحرية. وفي ظل غياب الحرية ينعدم القانون.
وما زال الفكر السياسي العربي يفتقر افتقاراً فعلياً الى بلورة نظرية حول طبيعة الدولة الدستورية العربية، وهو ما يشكل واحدة من أهم أزماته، فضلاً عن أنه يتجاهل التمييز بين الدولة والسلطة، لأن فكرة الدولة في العالم العربي لم تتغير كثيراً عن معنى الدولة قبل الأزمنة الحديثة، حيث كان معنى الدولة عند ابن خلدون على سبيل المثال هو مدة حكم أسرة حاكمة تبعيتها، أو الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية من العصبيات، سواء أكان هذا الحكم عاماً أو خاصاً.
وحين نتأمل في أحوال الدولة العربية الراهنة، فإنَّنا نجدها متماثلة مع السلطة، بما أن هذه الدولة على الرغم من أنها ذات دستور، تقلصت الى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساوين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لأثنية أو لاقليم بعينه. وهنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور وبين دولة دستورية. فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولاً وفعلاً على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة “حرية الفكر والعقيدة والتملك” على حد قول مونتسكيو.
والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدول التي تحترم القانون، بينما الدولة العربية ذات الدستور، فتلك التي تنتهك القوانين والانظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، وتصادر الحريات وتعرضها للضرر والانتهاك، وترفض ايضاً اقامة نوع من التوازن السياسي عبر الالتزام بمبدأ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمراً ممكناً، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الاستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
يعني مصطلح “دستور”، الذي يقابله في الفرنسية  Constitution،«التأسيس أو البناء»، أي التنظيم أو القانون الأساسي، فهو يحيل على مرجعية مفادها البحث عن الأسس الكفيلة تأصيل وضبط ممارسة السلطة وتنظيم مؤسسات الدولة، وعلى خلفية ذلك يفسر لماذا ارتبط مفهوم الدستور بالدستورانية الأوروبية الهادفة، مع  مطلع القرن الثامن عشر، إلى إعادة بناء الدولة والسلطة على تصورات فلسفية وآليات تنظيمية جديدة.
بيد أن الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية gitimit le حقيقة مقبولة حين  تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية.
إن ما يميز الدستور الديمقراطي  Constitution democratique ويجعله جديرا بهذه الصفة استناده على جملة مقومات تضفي صبغة الديمقراطية عليه، وتبعده عن الدساتير الموضوعة إما بإرادة  منفردة، كما هو حال الدساتير الممنوحة، أو عبر  استفتاءات مفتقدة إلى شروط الاستقلالية والحياد والنزاهة. لعل أهم مقومات الدستور الديمقراطي
(أولاً): تأسيسه على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولاسيادة لفرد أو قلة عليه .
(ثانياً) : حكم القانون
(ثالثاً): أن يحترم فيه فصل السلطات
(رابعاً): تؤكد فيه الحقوق والحريات
(خامساً): ان يتم الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة. هذا بالإضافة إلى الطريقة التي يوضع بموجبها الدستور من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.
ثانيًا: المعارضة الجدلية للسلطة
يبدو الوعي السياسي العربي محكوماً بعنصرين أساسيين هما:
أولاً ــ اللاشعور السياسي: يقول محمد عابد الجابري في هذا الموضوع “إذا كانت وظيفة” مفهوم “اللاشعور السياسي” كما أشار ريجيس دوبريه (في كتابه نقد العقل السياسي) هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإنَّ وظيفته بالنسبة إلينا (العرب) ستكون بالعكس من ذلك: إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم منه والمعاصر. فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل السياسي العربي يجب أن لا ينظر إليه فقط على أنه “الديني” و”العشائري” اللذان يوجّهان من خلف الفعل السياسي بل لا بد من النظر إليه أيضاً على أنه السياسي الذي يوجّه من خلف التمذهب الديني والتعصب القبلي.
ثانياً ــ المخيال الاجتماعي: الذي هو “جملة من التصورات والرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي الإيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما، ولدى جماعة اجتماعية منظمة بنيتها اللاشعورية”.
إنَّ اللاشعور السياسي والمخيال الاجتماعي اللذين يربطان العقل السياسي بمحدوداته، يتغذيان من بنية إيديولوجية لا تزال مسيطرة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، من أبرز سماتها محاربة الفكر الحر، وطردها كلّ ما هو جديد. فالتاريخ العربي الإسلامي فيه ظواهر إيجابية، كانت تتخللها صراعات دموية عنيفة. فمقولة الفرقة الناجية هي تعبير مكثّف عن التقليد السياسي العربي الإسلامي، بصرف النظر عن القوى المتصارعة في المجتمع العربي.
وليس غريباً أن تظهر حركة التكفير والهجرة، وما يماثلها على الصعيد العربي، وهي صورة عن الحركات السياسية العربية، ولكنها مدفوعة إلى الحد الأقصى على مستوى التطرف. ويدل تشظّي المجال السياسي في معظم البلاد العربية دلالة قاطعة على أن اللاشعور السياسي الذي أنتجته عهود الاستبداد الطويلة لا يزال قائماً على مبدأ العشيرة والغنيمة والعقيدة، كما أشار إلى ذلك محمد عابد الجابري في كتابه المهم “العقل السياسي”.
هذا التشظّي السياسي عندنا، وهذه البنية السياسية الاستبدادية، مرتبطان بثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: البنية الاجتماعية التقليدية، الناجمة من التأخر التاريخي للمجتمع العربي بوجه عام.
ثانياً: انهيار الفئات الوسطى التي تؤلف أكثرية الشعب، بسبب سياسة الخصخصة والاندماج في نظام العولمة الرأسمالية المتوحشة.
ثالثاً: طابع العلاقة بين المثقف والسلطة، ذلك أن المثقف هو كلمة السر لأي تقدم سياسي. غير أن المثقف العربي الذي هو في حال خنوع وتصالح مع الواقع الآن، في ما يتعلق بالسياسة والثقافة، لا يمكن أن يكون مفكراً نقدياً يقدم مشروعاً مجتمعياً بديلاً، يتخطى جدلياً، السائد من القيم والمفاهيم. ولذلك، فإن السياسة ــ بوصفها نفياً للحرب، والمعنى الذي تنعقد عليه وحدة المجتمع والدولة، ووحدة الحكم والشعب، ووحدة السلطة والمعارضة، والتعبير عما هو عام ومشترك بين جميع المواطنين ــ والفكر، والمنطق، والعقل، والمجتمع المدني، ودولة الحق والقانون، مقولات تتقدم معاً وتتراجع معاً، لأن مقولة السياسة ومقولة المنطق تنتميان إلى جوهر واحد، والى أصل واحد. وعلى الرغم من أن السياسة العربية المعاصرة استخدمت مفاهيم حديثة، إلا أنها ما زالت محكومة بالمحددات الآنفة الذكر.
إن السياسي الراديكالي في بلادنا المتأخرة تاريخياً، يجب أن تتوافر فيه ثلاث مواصفات متلازمة لا غنى عن إحداها: السياسي الراديكالي، والمحلل الاجتماعي، والمفكر العقلاني.
ونعتقد أن هذه الصفات لا تتوافر في الأحزاب المعارضة، ولا في الأحزاب الحاكمة، في العالم العربي. إننا بحاجة إلى سياسة تمارس بالمعنى اليوناني للكلمة، أي مجموعة من المسؤوليات، والحقوق، والواجبات، السياسة كفاعلية اجتماعية ومجتمعة، لا كفاعلية سلطوية ولا كفاعلية حزبية فقط، سياسة بوصفها مرآة المجتمع. إنها اعتراف بإفرادية الواقع ومعقوليته، وإنطواء كليته ووحدته الجدلية على التعدد والاختلاف والتعارض. وسياسة بما هي مشاركة إيجابية في الشأن العام، هي حق من حقوق الإنسان والمواطن. فلا مشروعية لأي حزب معارض ولا مشروعية للسلطة القائمة، أو لأي سلطة محتملة إلا بتوافر هذه المواصفات في السياسة، وتأسيسها.
بما تتحدد المعارضة؟
تتحدد المعارضة بالسلطة نفسها، وتحمل أهم خصائصها، وإلا لما جاز أن تكون سلطة بالقوة. ويؤكد لنا التاريخ السياسي الحديث في العالم العربي أمثلة عديدة على إنتاج السلطات الاستبدادية الحاكمة معارضات من نوعها، أو على صورتها وشاكلتها. ولكن بم تتحدد السلطة؟ لكي نفهم المعارضة يجب أن نفهم السلطة. إن فهمنا السلطة هو الذي يزيح اللثام عن وجه المعارضة القائمة في أي بلد عربي.
تتحدد السلطة السياسية سلباً وإيجاباً بثلاثة عناصر أساسية:
1 ــ بمستوى تقدم المجتمع أو تأخره، أي بمستوى نمو المجتمع المدني أو ضموره.
2ــ وتتحدد بالنظام الدولي الجديد، ولا سيما في عصرنا، حيث لا سلطة خارج هذا النظام
3ــ وبنسبة القوى الاجتماعية السياسية.
هذه العناصر التي تحدد السلطة هي التي تحدد كذلك المعارضة، وبقدر ما تعي المعارضة هذه المحددات، ترتقي إلى مستوى معارضة حديثة وعقلانية، أي معارضة تضع برنامجها وتحدد مهماتها بدلالة المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، وليس بدلالة السلطة فحسب.
وفضلاً عن ذلك فإن السلطة السياسية، بحصر المعنى، لا تستمد شرعيتها من أي مصدر أقوى وأهم من شرعية المعارضة. فليست السلطة والمعارضة تعبيرين متكاملين عن المجال السياسي المجتمعي فحسب، بل هما قطبان جدليان في وحدة تناقضية، يحمل كل منهما إمكانية أن يصير الآخر. فالمعارضة هي معارضة بالفعل وسلطة بالقوة. والسلطة هي سلطة بالفعل ومعارضة بالقوة. وجدلهما هذا هو جدل الكينونة الاجتماعية عينها، جدل تعارضاتها الملازمة، وقد اتخذت شكلاً سياسياً سلمياً مُتمدّناً أو متحضراً، لا يكاد يلحظ فيه العنصر الاجتماعي الطبقي المباشر.
كل معارضة لسلطتها الحاكمة تكره الدولة، فيما المعارضة العقلانية تضع في أساس تصوراتها أهمية الدولة، وضرورتها في الوقت عينه الذي تنتقد فيه السلطة القائمة، وتؤسس لعدم التماثل، أو التماهي مع الاستبداد. فالمعارضة العقلانية تعتبر أن قوة السلطة الحقيقية في المجالين الداخلي والخارجي، من قوة المعارضة، وضعفها من ضعفها وإضعافها، وهي تتناقض على طول الخط مع الوعي الزائف لدى السلطة العربية التي تعتقد أنها قوية بفضل قوة بطش القمع العارية التي لا يمكنها أن تصمد في أي مواجهة مع العدو الصهيوني والإمبريالية الأميركية، والتي في جميع الأحوال ليست سوى قوة وهمية. من هنا نقول إن ضعف المعارضة العربية هو في الوقت عينه قوة السلطة الأمنية الوهمية.
إن العلاقة بين السلطة والمعارضة مفهومة فهماً جدلياً سليماً تقر بأن قوة المعارضة هي قوة السلطة الفعلية، وتتطلب وجود مجال سياسي مفتوح تتطابق حدوده مع حدود المجتمع المنفتح. وفي مثل هذا المجال السياسي المشترك الذي ينتجه المجتمع، والذي تتجابه وتتقاطع فيه تيارات واتجاهات وأحزاب سياسية مختلفة ومُتخالِفة، تتحقق الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة على قاعدة التعدد والاختلاف والتعارض، ويتحقق في الوقت عينه الاستقرار السياسي، والتداول السلمي للسلطة، باعتبارهما من أهم المداخل السياسية إلى بناء ديموقراطية فعلية في العالم العربي.
غير أن الدولة العربية التي ربطت مصيرها بالرأسمالية المحلية والعولمة، وأنتجت أوضاعاً مخالفة للقوانين والأعراف والمعيارات السياسية الديموقراطية والأخلاقية، ودمرت المجال السياسي إلى درجة التشظي والتذرر، لا تعرف هذه الوحدة الجدلية بين السلطة والمعارضة، ولا تعترف بها، وتستهجنها الطبقة السياسية الحاكمة ومثقفوها أيضاً، علماً بأنها تفضي إلى الاستقرار الفعلي وإلى تداول السلطة السلمي.
فهل بإمكان التحرك السعودي الذي يسعى إلى تقديم حل للأزمة السورية، أن يقدم وفاقًا تاريخيًا للعلاقة الجدلية بين السلطة والمعارضة في العالم العربي؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى