زيارة الرئيس الأسد لمسقط وضرورة التضامن العربي مع دمشق

بقلم: توفيق المديني

شكلت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى مسقط عاصمة عُمَان يوم الإثنين 20فبراير /شباط الجاري تحولاً استراتيجيًا في فكِّ العزلةِ التي كانت تعاني منها سورية منذ أكثر من عقد من الزمن، إِذْ تُعَدُّ هذه الزيارة الأولى للرئيس الأسد إلى عُمَان منذ تفجر الأزمة السورية في عام 2011، وما تلاها من حرب ، حين تكالبت القوى الاستعمارية الجديدة بقيادة أمريكا وقاعدتها المتقدمة في فلسطين “إسرائيل”، وأطماع تركيا في سورية والعراق، فانتهت سورية بالتشرذم، وأصبح السوري نازحاً في بلاده أو مهاجراً ينشد الحياة الكريمة في مكان آخر خلف البحار ليست فيه مقابر جماعية، بعد أن ضاقت به السبل وتكالبت على قتله والتنكيل به قوات أجنبية مدججة بأشرس أدوات القتل والموت، تصاحبها تنظيمات إرهابية من القتلة المحترفين، من الذباحين ومدمري الآثار الحضارية.
وإذا كانت زيارة الأسد إلى مسقط لا تندرج في إطار الزيارة الاستثنائية بحكم أنَّ سلطنة عُمَان لم تقطع علاقاتها مع الجمهورية العربية السورية من الأساس، وعيّنت مسقط، في عام 2020سفيراً لها لدى سوريا، وكان حينها أوّل سفير لدولة خليجية لدى دمشق منذ اندلاع الحرب وسحب البعثات الدبلوماسية،فإنَّ الرئيس الأسد أشاد بعُمان لكونها “حافظت دائماً على سياساتها المتوازنة ومصداقيتها، وأنَّ المنطقة الآن بحاجة أكثر إلى دور مسقط بما يخدم مصالح شعوبها من أجل تعزيز العلاقات بين الدول العربية على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى”، بحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا”. ونقلت الوكالة عن سلطان عمان السلطان هيثم بن طارق قوله إنَّ “سورية دولة عربية شقيقة ونحن نتطلع لأن تعود علاقاتها مع كل الدول العربية إلى سياقها الطبيعي”.
عودة العرب إلى التواصل مع سورية
شكَّلَ الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية في 6 فبراير/شباط الحالي،فرصةً عربيةً جديدةً لمعاودة التواصل بين قادة الدول العربية و الرئيس بشار الأسد ، الذي تلقى اتصالات عديدةٍ من رؤساء دول عربية وأجنبية غير غربية، كان أبرزها اتصال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث أكّد المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية في مصر أحمد فهمي، أنّ “الرئيس أعرب خلال الاتصال الهاتفي عن خالص التعازي في ضحايا الزلزال المدمر الذي وقع، والتمنيات بالشفاء العاجل للجرحى والمصابين”.
كما كشف الرئيس المصري في وقت لاحق، كواليس حديثه مع الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، مؤكداً أنه تطرق إلى “زيادة الدعم الموجه للمتضررين من الزلزال في سوريا” .وقال السيسي، خلال مؤتمر صحفي على هامش القمة العالمية للحكومات، إنَّه “طلب خلال جلسة مع الشيخ محمد بن زايد، مساعدة سوريا”، مشيراً إلى أنّ “الرئيس الإماراتي أبلغه بأنّ أبوظبي ترسل 8 طائرات كلّ يوم”.
كما أعلنت الرئاسة السورية في وقت سابق، أنّ الرئيس السوري تلقّى اتصالاً هاتفياً من الملك الأردني عبد الله الثاني، نقل خلاله “تعازيه في ضحايا كارثة الزلزال الذي ضرب مناطق من سوريا”.
إضافة إلى تلقي الرئيس الأسد اتصالات من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وغيره من زعماء عرب وغير عرب، منهم من كانوا قد قطعوا علاقات بلدانهم مع سورية عقب اندلاع “الاحتجاجات”فيها عام 2011.
وفي هذا السياق، قرَّر الرئيس التونسي قيس سعيَّدْ، الخميس 9فبراير/شباط الجاري ، رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا، في تطور لافت للموقف الرسمي التونسي بعد أزيد من عشرة أعوام على قطع العلاقات الديبلوماسية مع سوريافي فبراير منى العام 2012.
وقال الرئيس سعيّد لدى استقباله وزير الخارجية نبيل عمارإنَّ”قضية النظام السوري شأن داخلي يهم السوريين بمفردهم والسفير يُعتمد لدى الدولة وليس لدى النظام”، وفق  بيان الرئاسة .ويرى المحللون في تونس،أنَّ الرئيس سعيَّدْ يتجهُ نحو إعادة العلاقات الرسمية بشكلٍ كاملٍ مع سوريا، وتجسيد القطع النهائي مع الاصطفاف الأيديولوجي ومنطق المحاورالإقليمية الذي عانت منه تونس خلال حكم حركة النهضة الإسلامية.وهكذا ، جاء رفع التمثيل الدبلوماسي من قبل الرئيس التونسي سعيَّدْ مع دمشق ليسجل خرقاً جديداً في ملف التطبيع العربي مع سورية.
وعقب الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية قبل أسبوعين،استقبل الرئيس الأسد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، في زيارة هي الأولى لمسؤول أردني بهذا المستوى إلى العاصمة السورية (منذ بدء الأزمة)، كما استقبل وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان.
أهمية عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وسورية
تربط السياسة الخارجية السعودية بين الأزمة السورية المستمرة منذ 2011 ولغاية الآن، وبين كل التطورات الإقليمية لا سيما التي تعصف بإقليم الشرق الأوسط منذ إنهاء معاهدة الاتفاق النووي الإيراني في عهد إدارة ترامب في سنة 2018، وصعود الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة، وصمود الدولة الوطنية السورية طيلة سنوات الحرب الإرهابية عليها خلال السنوات العشر العجاف(2011-2021)، وبناء عليه، يمكن قراءة الموقف السعودي من الانفتاح على سورية، حيث تعاطت المملكة السعودية مع كارثة الزلزال مع النظام السوري حين وصلت طائرات المساعدات السعودية إلى مطار حلب الخاضع لسيطرته، وأعلنت المملكة السعودية أيضاً عن توقيع عقود مشاريع لصالح متضرري زلزال تركيا وسورية بأكثر من 183 مليون ريال سعودي (48.8 مليون دولار)، فيما قال المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والمساعدات الإنسانية الحكومي، عبد الله الربيعة، في مقابلة مع وكالة “فرانس برس”، إن التعهدات الجديدة، تشمل مشروعاً يمكن بموجبه إرسال متطوعين طبيين سعوديين إلى سورية للمرة الأولى.
أمَّا على الصعيد السياسي، فإنَّ اللافت في هذا التحرك السعودي على الصعيد الإنساني، هو التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود في مؤتمر مونيخ ،يوم السبت 12فبراير الجاري، حين قال :إنّ “هناك إجماعًا، ليس في دول الخليج فقط، بل في العالم العربي أيضًا، على أنَّ الوضع في سوريا يجب ألا يستمر هكذا”.وأضاف أنَّه “علينا أن نعيد النظر بطريقة تعالج الأزمة، وتعيد اللاجئين. وهناك معاناة كبيرة بسبب الزلزال الذي ضرب سوريا”، لافتاً إلى أنّ “معالجة أزمة اللاجئين وكارثة الزلزال لا بد أن تتمّ في حوار مع دمشق”.
غير إنَّ العائق الرئيس في عودة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وعدة دول عربية مرتبطة بالغرب مع سورية هوعدم رغبة الأنظمة العربية تجسيد سياسة التصادم مع موقف الولايات المتحدة المتشدد من النظام في دمشق إضافة إلى تعاظم الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، إذ إنَّ سورية متحالفة استراتيجيًا مع إيران بسبب التقاء الدولتين على قواسم مشتركة تتمثل في مناهضة الهيمنة الأميركية ، وتقديم الدعم لحركات المقاومة التي تناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي. وكانت إيران ولاتزال تقدم دعما قويا لصمود الدولة الوطنية السورية طيلة سنوات الحرب الأخيرة.
ما هي مرتكزات بناء تضامن عربي جديد مع دمشق ؟
من الناحية الرمزية التاريخية، أسستْ حرب تشرين التحريرية 1973، المرحلة الذهبية من التضامن العربي التي عاشها العالم العربي في عقدالسبعينيات من القرن الماضي، وهي المرحلة التي بلغت فيها القضية الفلسطينية أوجاً من الاعتراف والتأييد من جانب المجتمع الدولي.
في معظم العواصم العربية وحتى على صعيد الشارع العربي، هناك حديث سياسي كبير عن ضرورة تجاوز الدول العربية حالة الانقسام الموروثة من الحرب الباردة بين الدول العربية المرتبطة بالسياسة الأمريكية التي التزمت تاريخيا بوجود إسرائيل منذ ولادتها،وبالدفاع عنها ، وبين الدول العربية في سورية والعراق ومصر، ولاحقاً في ليبيا واليمن والجزائر لتي كانت تلقب بالتقدمية ،واختارت التحالف مع الاتحاد السوفياتي ، فكان ذلك هو خيارها الوحيد، ولو لم يكن الأفضل، فقد أرفقت ذلك بخطوات اشتراكية متعجلة وغير ملائمة لأوضاع المنطقة وشعوبها؛ كالتأميم والحراسة وإلغاء الحريات وتخفيف حركة التعليم ومستوياته، وأُلْغِيَتْ تماماً طبقات الصناعيين والتجار والمزارعين والمثقفين المعارضين ، وأُزِيلَتْ البورجوازية الوطنية كلياً، وحلّتْ محلها طبقة من الأوليغارشية النفعية المحدودة الإنتاج والآفاق، التي لا كفاية أو ميزة لها سوى ميزة الخضوع للنظام، وطبعاً، طغت في الوقت نفسه المحسوبية ودوافع الفساد، واستُبدل الإقطاع السياسي التجاري الفلاحي بإقطاع جديد قائم على المشاركة هذه المرَّة مع ما عُرف بالأنظمة القائمة، وأصبحت السياسة هي المصدر المالي الأول من خلال التحالفات السرِّية والمعلنة، مع المعسكرات القائمة في المنطقة وفي العالم.
هناك ارتياح عام بالنسبة لعودة العلاقات العربية مع دمشق ، التي يمكن أن تشكل بادرة إيجابية تسهم في تنقية الأجواء العربية- العربية، وإرساء المناخ الملائم لإعادة إحياء التضامن العربي و التعاون لمواجهة التحديات والمشاكل العالقة التي لا يمكن للعرب أن يواجهوهاإلا في إطار العمل العربي المشترك، و لا سيما أنَّ سوريا و المملكة العربية السعودية ومصر و الجزائر تشكل أقطاب مهيمنة في الوضع السياسي العربي .
التحديات التي تواجه العالم العربي كبيرة، وتحتاج إلى الفعل العربي المشترك، أو التضامن العربي الجديد الذي يحتاج إلى عودة سورية تحتل موقعها الطبيعي في مؤسسات العمل العربي المشترك، وإلى انتهاج المملكة العربية السعودية، ومصر والجزائر وتونس والعراق ودول الخليج الخ،سياسة جديدة تتعلق بمسألة إعادة بناء النظام الإقليمي العربي الجديد، تقوم على مايلي: .
أولاً:إنَّ الدول العربية الآنفة الذكر نشأت منذ الاستقلال في أحضان العولمة الرأسمالية منذ يومها الأول ولا تزال تترعرع أو تتأزم حتى هذه الساعة، أي في زمن العولمة الأمريكية الليبرالية المتوحشة.من هنا لا يمكن النظر إلى إعادة بناء التضامن العربي الجديد كسياسة عربية قائمة بذاتها بل كوحدة مشروطة بوظيفتها إلاَّ بالخروج من شبكة الحقل السيادي الرأسمالي العالمي بقيادة الدول الغربية الأمريكية والأوروبية الوارث التاريخي للحقل التاريخي الإسلامي.وهكذا ، فإنَّ سيادة الدولة الوطنية التونسية خاضعة للحقل السيادي الرأسمالي الأوروبي-الأمريكي.
والسؤال المطروح عربيًا ،هل تمتلك الدول العربية استراتيجية وطنية وقومية وفكر سياسي راديكالي لتحويل الدولة الوطنية العربية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية الأوروبية -الأمريكية إلى موقع متمرد على هذه السيادة،وإعادة فتح الحقل التاريخي العربي المقاوم للمشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني ،لا سيما أنَّ إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية فيكل بلد عربي هو التحول إلى ثورة وطنية جذرية قادرة على التحرروالانعتاق كُلِّيًا من الحقل السيادي للهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية.
ثانيًا: إنَّ التحدي الثاني ،يتمثل في أنَّ سياسة التسوية المطروحة تحت مظلة الشرعية الدولية التي بدأت منذ تقسيم فلسطين ، لم تعط للشعب الفلسطيني سوى اتفاقيات أوسلو.لأنَّ إسرائيل لا يمكن لها أن تقبل بوجود دولة فلسطينية بالمواصفات الوطنية الفلسطينية- أي دولة حقيقية، وفي ظل صعوداليمين الفاشي إلى السلطة بزعامة بنيامين نتنياهو ، بات هذا الأخير يطرح تصفية القضية الفلسطينية بالكامل ، وتهويد القدس، مستفيدا من العجز و التشظي الذي يعاني منه النظام الرسمي العربي، و الانقسام الحاد في الوضع الفلسطيني.و لهذا،لا يزال القادة الصهاينة مقتنعين وبإصرارأن إقامة الدولة الفلسطينية الفعلية يجب أن تكون من خلال الوطن البديل في الأردن.
ثالثًا:من الذي يتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية في تنامي الدور الإقليمي الإيراني؟بطبيعة الحال النظام الرسمي العربي، الذي لم يعد يمتلك مشروعاً سياسياً و استراتيجياً يبلورفيه رؤيته للعالم العربي، و يحدد أهدافه و مصالحه الجماعية، و يضع إطاراً واضحاً للمحافظة على أمنه القومي. فقد أظهرت الدول العربية ، فرادى و جماعات ،عجزاً فاضحاً عن تحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة عام 1948، ثم الأراضي المحتلة عام 1967، وعن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، رغم توقيع مصر اتفاقيات سلام إسرائيل منذ العام 1979، و انخراط معظم النظام الرسمي العربي في مسلسل السلام الأميركي منذ ذهابه إلى مؤتمر مدريد في عام 1991، وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة الراحل ياسر عرفات اتفاقيةأوسلو عام 1993.
وهكذا ،تحولت إيران إلى الدولة الإقليمية الصاعدة بسبب احتضانها القضية الفلسطينية ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، و المجاهرة بالعداء لإسرائيل و للسياسة الأمريكية ، الأمر الذي مكنها من كسب تعاطف الشارع العربي في معظم البلدان العربية ، فضلا عن تعاطف المواطنين الشيعة في دول مجلس التعاون الخليجي معها.
خاتمة: الأزمة السورية وأكذوبة الديمقراطية الليبرالية الأمريكية
على الدول العربية التي تتبنى الأطروحة الأمريكية بأنَّ “النظام السوري غير ديمقراطي، ويقمع شعبه”،و لا يريد أن يعالج الأزمة السورية على أساس القرار 2254، أنْ تعي مسألة أساسية أنَّ الولايات المتحدة المدافعة عن النظام الليبرالي العالمي الأمريكي ، والتي ترفع عاليًا “راية الديمقراطية” على الصعيد الكوني ، هي الدولة الأولى في العالم التي باشرت فيها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالقيام بالإنقلابات العسكرية والحروب في بقاع مختلفة من العالم، لمجرد ضمان المصالح الأمريكية فيها، وبقاء أنظمة ديكتاتورية حليفة هناك.
وهذا مايكشفه الكاتب الأمريكي وليام بلوم في كتابه بعنوان:” الديمقراطية أشد الصادرات الأمريكية فتكاً” ، الذي ترجمته الدكتورة فاطمة نصر (ونشرته دار سطور، القاهرة، 2015) ، إِذْ يُعَدٌّ بلوم أحد أهم الكتّـاب الأمريكيين الذين يتبنون خطاً مناهضاً لسياسات بلاده الإمبريالية، ويعمل على كشف حقيقة الوجه القبيح للسياسة الأمريكية، وجرائم إداراتها في العالم عبر التاريخ، وله في هذا كتاب شهير عنوانه “قتل الأمل”، سرد فيه قصة الانقلابات والمذابح التي دبرتها السياسة الأمريكية عبر العالم ويوضّح كيف أنها تستغل شعارات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تدمير المجتمعات الأخرى من الداخل؛ للحيلولة دون ظهور منافسين لها في الهيمنة الدولية. كما قامتْ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية بالإطاحة بما يربو على خمسين حكومة أجنبية، كانت غالبيتها منتخبة ديمقراطياً.
ويشير الكاتب الأمريكي بلوم إلى أن الإعلام ونظام التعليم في الولايات المتحدة يؤسسان الأجيال الجديدة والمجتمع كله على أساس مجموعة من الثوابت المتعلقة بالنظرة إلى أمريكا، أو ما يسميه بالأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، وعلى رأسها نظرية التفوق الأمريكي، والرسالة “الأخلاقية” للولايات المتحدة في العالم، وأنه لا يجوز مطلقاً المساس بالمصالح الأمريكية، كما ينتقد بلوم إطار النمط الرأسمالي المتوحش الذي تدافع عنه الولايات المتحدة، وتحاول تسويقه في العالم؛ رغم أنَّه قائم على أساس الاستهلاك الشرِه، والإثراء غير المحدود الذي يتم في كثير من الأحيان دون تقديم أي خدمات نافعة للمجتمع، هذه هي الولايات المتحدة كما يراها أهلها، ولئن كانت هناك مشكلة حقيقية تواجه المجتمعات الإنسانية، والعربية من بينها، كما يقول بلوم، فهي تكمن في عدم دراسة النموذج الأمريكي كما ينبغي، وبالتالي محاولة تقليده، أو بالأحرى تقليد ديمقراطيته، بينما كلّ ما يقود إليه ذلك هو المزيد من التبعية للولايات المتحدة!
إنَّ الإمبريالية الأمريكية دعمت سياسات المؤامرة وانتهجت سياسة من أجل تقسيم العالم وتفتيت قواه، وتكشف لنا الحروب في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق(في عقد التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة) ،ومع اندلاع الربيع العربي في 2011، في كل من ليبيا وسورية ، كيف أنَّ السياسة الأمريكية عملت على إسقاط الدول الوطنية المناهضة للعولمة الليبرالية الأمريكية المتوحشة، إِذْ إنَّ أكثر ما يستهوي قادة الولايات المتحدة هو إعادة صنع العالم في صورة أمريكا، حيث تصبح عناصره الجوهرية هي المشاريع الليبرالية الحرة والفردانية، وما يطلقون عليه مصطلح القيم اليهودية المسيحية، وشيئاً آخر يطلقون عليه اسم “الديمقراطية”.
فقد أسقطت الإمبريالية الأمريكية نظام الرئيس صدام حسين البعثـي، وساعدت في إسقاط نظام العقيد الليبي معمر القذافي لتصفية خلافات وخصومات قديمة معه، ثم تركت البلد بعد ذلك للفوضى بيد الإرهابيين والذباحين، وفشلت في إسقاط الدولة الوطنية السورية،وفي حالات الدول العربية الثلاث لجأت الولايات المتحدة إلى تسويق معلومات غير صحيحة عن خصومها هناك، كما فعلت مع صدام حسين قبل غزو العراق في ربيع العام 2003، ثم عادت وقالت إن معلوماتها عن مساعيه لامتلاك أسلحة دمار شاملة كانت غير صحيحة.
من هنا نقول أنَّ على الدول العربية أن تجسد فيما بينها سياسة تضامن عربي حقيقي مع سورية ،وأن تعالج الأزمة السورية بعيدَا عن تدخل السياسة الأمريكية في الشؤون الداخلية للدول العربية، لأنَّ ما يهم الولايات المتحدة هو دفاعها المستميت من أجل بقاء نظام الرأسمالية المالية المعولمة التي تمثل سيطرة الأوليغارشية المهيمنة على الإمبراطورية الأمريكية، ليس فقط على الدخل والثروة، بل على السلطة السياسية؛ والتي تتكون من الأقلية :صفوة من المجموعات المتحكمة في صناعات النفط والسلاح وصناعة الترفيه وأصحاب رؤوس الأموال الكبرى، بجانب الساسة المؤدلجين المنتمين إلى الأصولية البروتستانتية، إضافة إلى مراكز الأبحاث والمؤسسات الصهيونية المتجذرة في الإعلام وسوق الأموال والجامعات وصناعة الترفيه، وهو ما عزز من فقدان الترابط بين الرأسمالية والديمقراطية، وبين العولمة والعالم المفتوح أمام الجميع، وبهذا تصبح أزمة النظام العالمي الليبرالي الأمريكي أزمة ثلاثية الأبعاد؛ في الإنتاج الضائع، وفي التوزيع غير المتساوي بشكل كبير للدخل والثروة، وفي العجز عن بناء ديمقراطية حقيقية على الصعيد الكوني .
والحال هذه،يصبح من حق روسيا و الصين ودول البريكس، وإيران، وسورية، وحتى الدول العربية،أن تطالب بإعادة بناء نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر عدلاً، وبناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى