منطاد صيني تقليدي “متجوّل” يكشف ثغرات التقنية الأميركية
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري/ واشنطن
أزمة صامتة تشكّلت بين أقطاب المؤسسة الحاكمة الأميركية، ببُعديها التقني/الاستخباري والسياسي، على خلفية تحليق منطاد هوائي للصين في عمق الأجواء الأميركية وبعض المواقع في كندا، أتاحت الفرصة لتجدد توجيه اتهامات إلى الرئيس بايدن بـ “التقصير في أداء الواجب”، والمزايدات الحزبية.
قرار الرئيس بايدن بإسقاط المنطاد الهوائي بصاروخ “سايدويندر”، يوم 4 شباط/فبراير الحالي، والذي تبلغ كلفته وحده 380،000 دولار، لم يشفِ غليل النخب السياسية والفكرية أو النبض الشعبي، بشكل عام، للتوقف عند ملابسات المنطاد. بدأت الاتهامات تأخذ منحى أعمق تدريجياً، خصوصاً بعد إقرار “رئيس قيادة القوات الشمالية – نورث كوم”، الجنرال في سلاح الجو، غلين فان هيرك، بأن المؤسسة العسكرية “فشلت في التحرّي والكشف عن منطاد تجسسي من الصين” (يومية “ميليتاري تايمز”، 7 شباط/فبراير 2023).
نظراً إلى الطبيعة السرّية للبيانات التقنية الخاصة بنظم الدفاع الجوّي الأميركي، لكن المتوفّر منها، وهو شذر ضئيل، يتيح للمرء الاطلاع على أفاقه المحدودة، إذ تنشر الولايات المتحدة نظام “الاعتراض من الأرض”، يغطي أراضيها الشاسعة، ويتكوّن من وحدتين قادرتين على تصويب 44 صاروخاً: الأولى منشورة في قاعدة “غريلي” بولاية ألاسكا، والثانية في قاعدة “فاندنبيرغ” الجوية بولاية كاليفورنيا. ويشير بعض الخبراء العسكريين إلى قصور بنيوي في ذاك النظام كونه “لا يعمل على نحو موثوق، وهناك مخططات لترميمه في المستقبل” (تقرير لمعهد الدراسات الدولية والاستراتيجية بعنوان “نظام اعتراض من الأرض”، 26 تموز/يوليو 2021).
يعزز نظام الاعتراض من الأرض سلاح “ثاد – وهي منظومة دفاع جوي صاروخي، أرض – جو”، نطاق فعاليته يبلغ نحو 125 ميلاً، 200 كلم، ينتشر في 3 مواقع: قاعدة فورت بليس بولاية تكساس، هاوايي وجزيرة غوام. كما نشرت واشنطن تلك المنظومة في كل من كوريا الجنوبية والسعودية والإمارات. ويضيف الخبراء بالشؤون العسكرية أن “ثاد غير صالح كمنظومة دفاعية للأراضي الأميركية”، لكن باستطاعته توفير الحماية المطلوبة لمنشآت حيوية استراتيجية مثل “العاصمة الأميركية”.
أما في الأبعاد السياسية، فتزدحم التكهنات بمواكبة دخول أطياف سياسية متعددة للإدلاء بدلوها. ما يهمنا بالدرجة الأولى هو سبر أغوار الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، والمتضمّنة في ثنايا تقارير وزارة الدفاع الدورية والسنوية، أبرزها “المراجعة الرباعية للدفاع”، التي تنجز كل 4 سنوات، تسلط فيها الجهود على مواجهة “متعددة الأوجه والأبعاد” مع روسيا والصين.
في مراجعة سريعة لأرضية التقارير “الرباعية”، بشّر البنتاغون العالم بنيّة الولايات المتحدة شن “حرب طويلة مع شركائها وحلفائها بالتزامن وفي مناطق متعددة”، ضد ما أسمته “الإرهاب الدولي”، لعام 2006. ثم “تطورت” إلى “تنافس القوى العظمى، وليس الحرب على الإرهاب”، بحسب تقرير مفصّل صدر عن المحاسب العام للبنتاغون، ديفيد نوركويست، بتاريخ 12 شباط/فبراير 2018، ممهّداً الوعي العام لتقبل تخصيص ميزانيات عالية للبنتاغون من شأنها “عكس سنوات من مسار تدهور القوات العسكرية”.
“المنافسة” الأميركية مع الصين تحديداً اتّسمت بخط بياني في اتجاهين: تحقيق الصين اختراقات أمنية متعددة، أبرزها “القبض على طائرة تجسس إلكترونية بكامل معداتها تابعة لسلاح البحرية الأميركية من طراز EP-3، تعمل لمصلحة وكالة الأمن القومي”، 1 نيسان/إبريل 2001؛ وقرصنة قاعدة بيانات “مكتب إدارة الموارد البشرية”، وسيطرتها على نحو 22 مليون سجّل تضمنت “معلومات حديثة لعدد هائل من المسؤولين الحاليين والسابقين في الأجهزة الأميركية المتعددة، وربما بيانات تخص ضباط الاستخبارات” (نشرة “تاسك آند بيربوس” – Task and Purpose المتخصصة في الشؤون العسكرية، 6 شباط/فبراير 2023).
الغموض يكتنف النشاطات التجسّسية الأميركية ضد الصين، خصوصاً في وسائل الإعلام المتعددة، لكن الثابت أنها بمجملها تستند إلى التقنية المتطورة والحرب الإلكترونية. منذ تسلم الرئيس جو بايدن مهام منصبه، مطلع عام 2021، أطلق موجه من التدابير ضد الصين، بعضها لتحييد بعض معارضيه في الحزب الجمهوري، وبعضها الآخر يصب في عمق العلاقات التجارية المعقّدة بين واشنطن وبكين.
وأطلقت الإدارة الأميركية مشروع “مراجعة الأمن”، على خلفية الجدل الواسع بشأن منصة “تيك توك” للتواصل الاجتماعي، والمملوكة للصين، وتراجع سلفه الرئيس ترامب عن اتخاذ إجراءات عقابية ضدها في أوج حملة الانتخابات الرئاسية خشية خسارة تأييد قطاعات واسعة من الجيل الناشئ دائم الاستخدام للمنصّة. وعلّقت صحيفة أميركية نافذة على مشروع المراجعة الأمنية بأن “نتائجه ما زالت غير منشورة” (“واشنطن بوست”، 30 تشرين الثاني/اكتوبر 2022).
وفي هذه الأثناء تتوارد بعض التفاصيل الكاشفة عن قصور الأجهزة والمعدات الأميركية، نورد منها: رئيس “نورث كوم” المشرفة على مراقبة الأجواء الأميركية وحمايتها، غلين فان هيرك “لم نستطع الكشف عن تلك التهديدات، وذلك ثغرة معرفية في المنظومة (الحالية). وأبلغتنا الأجهزة الاستخبارية بالأمر بعد فوات الأوان”. واضاف “حلّق المنطاد على علوّ 60،000 قدم، بلغ طوله 200 قدم، وعلى متنه أجهزة استشعار ومعدات أخرى تقدّر أنها بحجم طائرة نقل (متوسطة) زنتها تفوق 2000 رطل” (يومية “مليتاري تايمز”، 6 شباط/فبراير 2023).
مؤسسات إعلامية نافذة نقلت عن “مسؤولين أميركيين بأن منطاد الصين التجسّسي كان يحلق بمحركات لمساعدته على تقويم مساره” (“واشنطن بوست”، 4 شباط/فراير 2023).
وفي غياب المعلومات الدقيقة حول مكوّنات المنطاد، باستثناء ما يتلفظ به “مسؤولون” لم تحدد هويتهم، لم يستطع أحد كبار الخبراء، استاذ علوم الهندسة والطيران في جامعة كولورادو، إيان بويد، تأكيد تلك التصريحات، مكتفياً بالقول: “أن تم التأكد من ذلك (التحليق بمحركات)، فمعناه وجود مشغّل بشري لديه قدرة سيطرة كبيرة على مسار التحليق” (نشرة “نيكد كابتاليزم – Naked Capitalism” الإلكترونية، 5 شباط/فبراير 2023).
بعض خبراء الشأن الصيني في مراكز الأبحاث سعى للإضاءة على زاوية مختلفة من “التنافس” الصيني الأميركي، بالقول “لا تعتمد الصين على نموذج معيّن من سبل التجسّس، وهو ما يفسّر لماذا أرسلت منطاداً للتجسّس فوق الأجواء الأميركية، وفي الوقت نفسه تسخّر اساليب تجسّس أخرى ضد الحكومة الأميركية، ضمنها أقمار اصطناعية خاصة بالتجسّس” (نقلاً عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، مقابلة مع دين شينغ، مستشار كبير لمشروع الصين في “المعهد الأميركي للسلام”، 3 شباط/فبراير 2023).
التساؤل العام “لماذا لجأت الصين إلى التجسّس عبر منطاد هوائي” يبقى مفتوحاً، بالرغم من تأكيد بكين بأنه منطاد لدراسة الأحوال الجوية خرج عن مساره بفعل الدفع الهوائي القوي في ذلك العلوّ. ويرجّح بقوّة أن بكين رمت “إطلاق رسالة سياسية” معينة من وراء ذلك “لدغدغة” الأوساط الأميركية، وامتداداً الكندية أيضاً، بتأكيدها على قدرتها التقنية على التحكم في مسار تحليق يثبت عند نقطة معينة، ويتيح لها التقاط معلومات مفصّلة لا تستطيع الأقمار الاصطناعية القيام بها من حيث الدقة والشمولية، خصوصاً سيره فوق قاعدة “مالمستروم” الجوية في ولاية مونتانا، والتي تستضيف الفصيل الدفاعي الأميركي، الجناح 341 الصاروخي، المكلّف بتفعيل الصواريخ النووية الباليستية العابرة للقارّات.
وجاء تصريح رئيس “نورث كوم”، غلين فان هيرك، صادماً لعموم المؤسسة العسكرية والسياسية الأميركية بالقول: “تنصبّْ جهود الحكومة (الرسمية) الآن على ما يمكنها تعلّمه من قدرات هذا المنطاد التجسّسي”، بمواكبة تصريحات غاضبة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بأن الصين أرادت “مراقبة مواقع استراتيجية في عموم الأراضي الأميركية”.
هل من رد صيني محتمل؟
نددت الصين بإسقاط المنطاد وطالبت واشنطن بأن تعيد الحطام بوصفه ملكية صينية، ويعتقد بعض المحللين أنه بمقدورها الرد بأشكال مختلفة، إن رغبت بالتصعيد، انتظاراً للحظة المناسبة . ومروحة الردود الصينية متعددة، من امكانية اسقاط قمر تجسّسي أميركي، عنما يحلّق فوق الفضاء الصيني، أو الإستيلاء المسلح على سفينة للبحرية الأميركية، عندما تدخل مياه بحر الصين الجنوبي، أو إرغام أي طائرة أميركية على الهبوط حين تدخل ما تعدّه اجواءها فوق بحر الصين أيضا.