المنطادُ الدّوليُّ 🚀

بقلم: احمد عمرو

-1-

كانَتِ الصينُ الشعبيةُ مثلاً يقتدىٰ بهِ في القيامِ مِنَ العدمِ ، والتحررِ مِنْ أوضارِ الجرائمِ الاستعماريَّةِ الَّتِي عاثت فيها فساداً ، إذ قُيِّضَتْ لها قيادةٌ فذَّةٌ ، حرَّرَتْها ، ونقلتها في نحوِ سبعينَ سنةً إلىٰ مصافّ القوىٰ العظمىٰ في العالمينَ ، وَ ألهَبَتِ الحسَّ الوطنيَّ لدىٰ المغلوبينَ في الأرضِ جميعًا ، وملأتْ صدورَهم بالأملِ .
وَ قَبْلَ هَٰذَا ، كانَتِ الصينُ في قرونٍ طويلةٍ مِنَ الزَّمَنِ ، مستودعَ الحكمةِ والفكرِ وَ الإبْدَاعِ ، والتَّمَكُّنِ في أسبابِ العِمْرَانِ وَ التّمَدُّنِ ، وَ بناءِ الدولَةِ عَلَىٰ قَواعِدَ مِنَ سِيادَةِ القانونِ ، وَ الكِفايَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ ، قبلَ أنْ تقومَ أيةُ حضارةٍ في العالمينَ .
فَلِهَٰذَا ، وَ لِكَثِيرٍ غيْرِهِ ، يحتارُ المَرْءُ في فهمِ مَا فعلتِ الصِّينُ بمنطادِها الأسبوعَ الماضِيَ ؛ كَيْفَ تَجْهَلُ هَٰذِهِ الجَهالَةَ ، و تقعُ هَٰذَا الوقوعَ ؟ فَقَدْ نقلتِ الأخبارُ أنَّ منطاداً صينيّاً ، دخلَ أجواءَ ألاسْكَا يوْمَ ( ٢٨ / ١ / ٢٠٢٣ م ) ثمّ أجواءَ كَانَدَا مِنْ تلكَ الناحيةِ الغربيَّةِ في اليوميْنِ التاليَيْنِ ، حَتّىٰ وافىٰ أجواءَ مونتانا الأميركيَّةِ يوْمَ ( ٣١ / ١ ) . وَ جاءَتِ الأخبارُ بِأنَّهُ كانَ يحومُ في سماءِ قاعدةِ مَالْمْسْتْرُوٰم ، الَّتِي فيها ١٥٠ مُسْتَوْدَعاً للصَّواريخِ البالستيَّةِ العابرةِ للقاراتِ ، قَبْلَ أنْ تُسْقِطَهُ الولاياتُ المتحدةُ في المحيطِ الأطلسيِّ ، قريباً مِنْ سواحلِ كارولايْنَا الجنوبيّةِ ، يوْمَ السبتِ ( ٤ / ٢ / ٢٠٢٣ م ) .
وكانتْ ثارتْ ثائرةُ الولاياتِ المتحدةِ لِدُخُولِ المِنطادِ الصِّينِيِّ أجْوَاءَهَا ، ورأتْهُ عملاً مُزَعْزِعاً للاستقرارِ ، وانتهاكاً لسيادةِ البلادِ الأمِيرِكِيّةِ ، ومخالفةً ” وَقِحَةً ” للقانونِ الدوليّ .
وقُلْنا إنَّ المَرْءَ لَيحتارُ في فهمِ هَٰذَا العَمَلِ مِنَ الصينِ ، لأنّ أمامَها سجلّاً وافياً ، مِنِ الْتِزامِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ بالقانونِ الدوليِّ ، الّذِي وَضَعَتْهُ هيَ ، وَأنَّهَا في تاريخها القريبِ جدّاً ، فضلاً عَمّا سبقَ في زَيْدٍ عَلَىٰ ثلاثمئةِ سنةً قبلَ هَٰذَا ، ليسَ لهَا – لا سمحَ اللهُ – أيّةُ أعمالٍ ” وقحَةٍ ” تعاكسُ بها القانونَ الدّوليَّ ، وَ أبسَطَ ما تعارَفَ عليْهِ النّاسُ مِنَ الحَقِّ وَ الباطِلِ ، والمُنْكَرِ وَ المَعْروفِ ، فَكَيفَ عَمِيَتْ عنهُ الصّينُ ، وَلَمْ تَتَخِذْهُ إمَاماً ؟ إلّا هَنَاتٍ هَيِّنَةً ، فِي أجْواءِ بَعْضِ البُلدَانِ ، لَا تَكَادُ يُنْظَرُ إلَيْها .
• فَمِنْ ذلكَ – ونحنُ نعُدُّ منها ولا نعَدِّدُها – أنّ طيارةً أميركيةً من طرازِ ( Lockheed U2 ) أقلعت مِنْ مطارِ پيشاوَرَ في پاكسانَ ، يوم ( ١ / ٤ / ١٩٦٠ م ) و دَخَلَتْ سَماءَ الاتحادِ السوڤييتيِّ ، لكنَّ قائدَها بوب أريكسون فوجِئَ بطياراتٍ المِيٰغِ السوڤييتيَّةِ تُوشِكُ أنْ تُحِيطَ بِهِ ، فأفْلَتَ مِنْها ، وَ فَرَّ إلَىٰ إيرانَ القَرِيبَةِ .
• ثُمّ رَدُّوا الكَرَّةَ عَلَيْهِم تارَةً أُخْرَىٰ بطيارةِ U2 أيضاً ، يوْمَ ( ٢٨ / ١ ) مِنْ ذلكَ الشهرِ ، فأقلعَتْ مِنْ پيشاور ، في خُطَّةٍ لِعُبُورِ سماءِ الاتحادِ السوڤييتيّ ، وَ عَلَىٰ مَتْنِها آلاتُ التصويرِ والتجسُّسِ ، ثُمّ لتهبطَ آخرَ رحلتِها في نُوٰرواي ، ولكنّ السوڤييتَ أسقطوها مِنْ علُوِّها الشاهقِ ( ٧٠ ألفِ قدمٍ ) ، وقبَضُوا طيارَهَا ، فْرَانْسِيسَ غَارِي پاوَرْزَ ، الّذِي هبَطَ بالمِظَلَّةِ .

-2-

• وَمِنْ ذلكَ أنّ طيّارةً أميركيةً مِنْ طرازِ ( Lockheed E P – 3 )كانَتْ قَرِيباً مِنْ ساحِلِ بَحْرِ الصّينِ الجَنُوبِيِّ ، يوْمَ ( ١ / ٤ / ٢٠٠١ م ) وَ كَانَتْ تَستَرقُ السّمْعَ لِمُكَالَمَاتٍ ترْصُدُها فِي الصِّينِ ، وَ تَقْرَأُ الفاكساتِ الصينيّةَ الرّسْمِيّةَ .
أصْعَدَ الصّينِيُّونَ إليْها طَيارتينِ مِنْ طرازِ ( شينجيانغ – ٨ ) فَصَدَمَتها إحداهُما في مُقَدِّمَتِها ، وَ اضْطَرَّتْها إلَىٰ أنْ تهبِطَ في جزيرَةِ هاينانَ الصّينيّةِ القَريبةِ .
وَ نَزَلَ مِنْها ٢٤ رَجُلاً مِنْ أولِي العِلْمِ الاسْتِخباريّ والاخْتِصاصِ ، بَعْدَ أنْ عَمِلوا ” العَمايلَ ” في تقطيعِ الوَثائقِ وَ الصُّورِ الَّتِي جَمَعُوها وَ تَدْمِيرِها ، ثُمّ أتْلَفُوا ما اسْتَطاعُوا مِنْ مُحَرِّكات الأقْراصِ وَ اللّوحَاتِ ، وَهُمْ في بَغْتَةِ الهُبوطِ الوَشِيكِ وَ مُسابَقَتِهِ ، ثُمَّ صَبَّوْا عَلَىٰ ما لَمْ يسْتَطِيعُوا مِنْ باقِيهَا ، أبَاريقَ مِنَ القَهْوَةِ الحَارَّةِ ، ” وَ زادُوها هِيٰل ” !
• وَمِنْ ذلكَ أنَّ طيارةً أمِيرِكِيَّةً مِنْ طِرازِ ( Global Hawk R – 4 ) أقْلَعَتْ مِنْ قاعدةِ الظُّفْرَةِ في أبي ظبْيٍ ، يوْمَ ( ٢٠ / ٦ / ٢٠١٩ م ) إلَىٰ سماءِ دولَةٍ عضوٍ في المُنَظَّمَةِ الدَّوْلِيّةِ ، وَ يحْمِي سَمَاءَها القانُونُ الدَّوْلِيُّ ، هيَ إيرانُ ، فأسْقَطَها الإيرانيونَ في ساحلِهِمُ الإقليميِّ ، وَ عَرَضُوا حُطامَها في اليومِ التّالي .
• وَمِنْ شواهدِ احترامِ الولاياتِ المتّحِدَةِ للأجواءِ الدوليَّةِ ، وَ القانُونِ الدَّوْلِيِّ ، ما تخرجُ بهِ عَلَىٰ النّاسِ ، التَّقارِيرُ الأميركيةُ بيْنَ الحينِ والحينِ ، مِنْ صورٍ فضائيةٍ لمَا يقولونَ إنها منشآتٌ إيرانيَّةٌ عسكريّةٌ ، بُنِيَتْ ، أوْ توسَّعَتْ أوِ احترَقَتْ ، أوْ تغيَّرَتْ هَيْآتُها ، فكيفَ يكونُ هَٰذَا إلّا مِنْ سماءِ إيرانَ ؟!
• وَمِنَ التَّجَلِّيَاتِ الفائقَةِ لاحترامِ القانونِ في الأجْواءِ الدَّوْلِيَّةِ ، فَضْلاً عَمّا يكونُ مِنْ نتائجِها عَلَىٰ الأرْضِ ، ما خَرَجَتْ بهِ الأنباءُ قريباً ، عَنْ نِيَّةٍ كانَتْ للرَّئيسِ دُوٰنَلْدَ تْرَمْپَ سنةَ ٢٠١٧ م ، بِأنْ يَضْرِبَ كُوٰرِيَا الشماليَّةَ بالقنابلِ النوويَّةِ ، ثُمّ يَزْعُمُ أنَّ ذلكَ الفتْكَ الذّريعَ ، والدّمارَ الّذِي لا يُبقِي وَ لا يَذَرُ ، مِنْ عملِ دَوْلَةٍ أخْرَىٰ ، لوْلا أنْ ردَّهُ كَبيرُ مُوَظَّفِي البَيْتِ الأبْيَضِ ، جوٰنُ كيلِي بأنّهُ ” سيكونُ مِنَ الصَّعْبِ عَدَمُ توْجِيهِ أصابِعِ الاتِّهامِ إلَيْنَا ” ( فلا مانعَ – كَمَا تَرَىٰ – عندَ هَٰذَا العاقِلِ فِي تِلْكَ الإدارَةِ ، لِأنْ يكونَ ذلكَ ، ولكِنّ المشكلَةَ في أصابِعِ الاتِّهَامِ ! ) ، ثُمّ لَمْ يزَل بهِ مُتعَطِّفاً مُدَارِياً، حَتّىٰ اسْتَلَّ سخيمَتَهُ ، وَ زَيّنَ لهُ أنْ يُفاوِضَ الزّعيمَ الكورِيَّ فِي لِقاءٍ مُباشِرٍ ، وقَدْ كانَ ذلكَ ثلاثَ مَرّاتٍ كَمَا تَعلمُ !
[ انْظُرْ ما كَتَبَ مايكِلُ شْمِيدْتَ عَنْ هَٰذَا الخَبَرِ خاصَّةً ، فِي كتابٍ لهُ يصدُرُ قريباً : دوٰنَلْدُ تْرَمْپ ضِدَّ الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ ] وَ نَشَرَتْ شَبَكَةُ NBC مقتطفاتٍ منهُ قَرِيباً .
هَٰذَا هُوَ احترامُ القانونِ الدَّوْلِيِّ عَلَىٰ أصولهِ ، وَ هوَ غيضٌ مِنْ فيضٍ عَرِمٍ مِنْ سجلّ احترامِ الوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ ، وَ إذْعَانِها لَهُ كَمَا لَمْ تُذْعِنْ لَهُ الصينُ أوْ تَعْبَأْ بِهِ ، حَتّىٰ ضَلّتْ هَٰذَا الضَّلَالَ المُبِينَ ، وَ بلغَتْ بها ” الوَقَاحَةُ ” هَٰذَا البَلاغَ ( فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى