كتاب “التغيّر الاجتماعي في العالم العربي الإسلامي: تخلف وعطالة”.. عرض وتعقيب: توفيق المديني

 

الكتاب: التغيّر الاجتماعي في العالم العربي الإسلامي :تخلف وعطالة
المؤلف :سعيد الحسين عبدلي

حظي موضوع التغير الاجتماعي باهتمام خاص من قبل العلوم الاجتماعية ،لا سيما علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، فهو بذلك من المداخل الرئيسية لدراسة المجتمع مهما كان موضوع الدراسة. فمنذ ابن خلدون وصولاً إلى مرحلة التأسيس الثانية إبّان عصر الحداثة الأوروبية خاصة مع أوجست كونت ودوركايم، كان معطى التغير الاجتماعي مدار الاهتمام الرئيسي في الدراسات التي اختصت بدراسة المجتمع والقضايا المتصلة به.
هذا الكتاب يطرح سؤالاً جوهريا،كيف يمكن إحداث التغيير الاجتماعي في عالم عربي إسلامي يعاني من ثلاث آفلات تفتك به ،كالتخلف و التبعية للغرب، وخاصة الفساد الذي ما فتئ يتعاظم في جسد المجتمعات العربية ويعمل على إفشال كل نفس إصلاحي ويزيد الوقع قتامة. فهو بذلك ينتعش وينمو في دائرة القانون والأخلاق والدين الأمر الذي يجعلنا نقرّ منذ البدء بأنّ هذه البنيات الموكول لها حماية المجتمع هي بدورها فاسدة وتشجّع على تعاظم هذا المرض الاجتماعي الخبيث الذي أضحى سمة لصيقة بكل المجتمعات العربية دون استثناء مثلما نقرأ ذلك في كل موجات الحركات الاجتماعية وما تصرّح به التقارير الدولية.
إنَّ دراسة مسألة التغير الاجتماعي يحيلنا إلى دراسة مختلف مقومات المجتمعات العربية من نوع الدّين،الثقافة،الأخلاق، السياسة، الاقتصاد، المعرفة، الابتكار، البنيات الاجتماعية، التنظيمات، و غيرها من الخاصيات التي تمثل هويَّة هذه المجتمعات. وكلها تساعد على إدراك طبيعة التغيّرات الحاصلة وعلاقتها بأمّهات القضايا العربية والتي طالما مثّلت حلماً لدى الشعوب أو النّخب؛ فكرية كانت أو سياسية، وهي خلق كيانات عربية إسلامية قوية ومستقلة. وحتماً فإن التاريخ يكشف بعض هذه المحاولات التي باءت جميعها بالفشل الذريع، ويُغنيني واقع الأمة المأزوم ـ المهزوم، على ذكر مبررات ذلك.
إن ما يميز المجتمع العربي في الثلاثة قرون الأخيرة من تاريخ الإنسانية كونه مجتمع ثري بتعاقب الأحداث وهي دموية في غالبها، سواء تعلق الأمر بمرحلة الاستعمار أو ما بعده. أي أن المنطقة العربية مهيأة بحسب طبيعتها الجغرافية أو علاقتها بالآخر أو بحكم النُّظم والبنيات السائدة أن تكون منطقة ساخنة باستمرار، وهو أمر ما انفك بتفاقم .فالمنطقة العربية هي من أكثر مناطق العالم حساسية وتأثراً بالتحولات على المستوى الدولي، خصوصاً على ضوء حالة الفراغ الاستراتيجي التي تعانيها منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 ، والتي ازدادت حدتها بفضل التطورات الداخلية، حيث شهدت صعوداً لأسهم الاتجاهات القطرية التي عبّرت عن نفسها برفع شعار بلدنا أولاً، الذي تضمّن في ثناياه دعوة إلى القطيعة مع القضايا المتعلقة بمصير العرب والقضية الفلسطينية في مقدمتها.
في هذا الكتاب ، الذي يحمل العنوان التالي: “التغير الاجتماعي في العالم العربي الإسلامي:تخلف وعطالة: ، و المتكون من مقدمة طويلة،وسبعة فصول،يتناول فيه الباحث سعيد الحسين عبدلي :أستاذ علة الاجتماع بجامعة قرطاج عملية التغير الاجتماعي آخذًا بعين الاعتبار طبيعة النظم السياسية ،والثقافات السائدة، ودور الاستعمار،والمصالح الاقتصادية ، وكذلك الموروث الثقافي الذي يمير بلدان العالم العربي الإسلامي.
ورغم تفاوت الحالات بين هذه المجتمعات العربية وهو أمر يكشف عنه الباحث سعيد عبدلي من خلال إبراز العوامل المتحكمة في التغير التي تبدو متضاربة متناقضة، بل قل متفاوتة بين مختلف الأقطار أحياناً، كتلك التي عوّلت على العلمانية في إحداث تغيرات عميقة وفورية على المجتمع ومثال في ذلك التجربة البورقيبية في تونس التي اعتبرها البعض أكثر تطرّفاً من العلمانية الأتاتركية. وهذا على العكس من بعض بلدان الخليج والمشرق العربيين التي حافظت على البنيات التقليدية المكوّنة للمجتمع العربي وهنا يبرز نوعين في التعامل مع التراث:، حسب قول الباحث سعيد عبدلي:” النوع الأول الذي أحدث قطيعة كلية أو شبه كلية مع بعض مضامين الموروث حتى وإن كان من ثوابت هوية ذلك المجتمع، وبالكاد بقي وفيّاً لبعض مضامينه مثلما هو الحال في المثال التونسي، ممثّلاً في رؤية الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية.
في حين أن النوع الثاني بقي محافظاً في البداية على ثوابت المجتمع التقليدي ولكن أخذ في التبدّل تدريجياً على إثر موجات التغيّر المتعاقبة ومردها الإصلاحات التنموية والانفتاح على التجارب التحديثية الأخرى مثلما هو الحال في بلدان المشرق والخليج الذي كان الريع النفطي أحد محركات التنمية، بل وأهمّها على الإطلاق لكنه في نفس الوقت يمثّل أحد أبرز أزماته التي جرّت المنطقة إلى هزّات عنيفة في أكثر من مناسبة” (ص 14).
أهمية البحث:
تكمن أهمية هذا العمل المتواضع في كونه يلامس بعض مظاهر إخفاقات البلدان العربية الإسلامية قياساً بمستوى الدول العظمى في العالم، رغم الإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها في خلق النهضة الشاملة. فهذا الكتاب يأتي في فترة ما بعد 6 عقود أو يزيد من الاستقلال وبداية بناء الكيانات الوطنية القُطرية وفشل كل مشاريع الوحدة العربية . أي في مرحلة تتكالب فيها البلدان الرأسمالية الغربية على البلاد العربية وإخضاعها، إما باستعمال القوة العسكرية أو سلمياً عبر الابتزاز والدخول معها في سياسات تنموية تبدو في ظاهرها موضوعية، لكنها لا تعدو أن تكون إلا استنـزافاً لمقدرات شعوب المنطقة.
ويذكر الباحث سعيد عبدلي أنّ البلدان العربية التي حقّقت نسب نمو عالية شملت تحسّن مستوى التنمية البشرية لديها ووصوله إلى مراتب طلائعية في مستوى الترتيب العالمي مثل بلدان الخليج، لم تفلح في تحقيق شروط القوة، فإخفاقاتها مفزعة في بناء معالم القوة المأمولة التي كانت مسعى كل الدول والأمم التي تحتل اليوم مواقع مؤثّرة في العالم. فبلدان الخليج الريعية و الجزائر مثلا تستورد معظم سلعها من الخارج بما في ذلك السلاح.
ويرى الباحث أنَّ البلدان العربية بحاجة ماسة إلى الانخراط في مشروع وحدوي لا من منطلق أنه خيار قومي يتبناه هذا الحزب أو ذاك، بقدر ما هو غاية ملحة وجب أن تتفق عليه كل الأطراف وتبنّيه كمشروع تنموي. لتجاوز حالات الوهن والمهانة التي آلت إليها أوضاع البلدان العربية الإسلامية والتخلص من عقدة التعارض بين التراث والحداثة. ذلك أن الإسلام هو دين يحثّ في جوهره على إعمال العقل، محرّض على التدبّر والابتكار من أجل تحصين وجودنا. ذلك هو إسلام الحياة بعزّة وكرامة، لا إسلام الموت والخوارق التي تفصلنا عن واقعنا المادي في امتداداته المكانية والزمانية كما يسوّق له البعض. أو هو الإسلام المجزّئ الذي يتم قياسه على هوى الطامعين في تحقيق مآربهم فيخيطون لها تبريراً شرعياً على مقاسهم.
الحركات الاجتماعية في الوطن العربي: أسبابها وتقييمها:
إن مسألة التغير الاجتماعي حتمية تاريخية لازمت الإنسانية على مرّ العصور. فهي بالتالي أحد خصائص الحياة الاجتماعية. وهذا التغيّر هو نتاج تفاعل مكونات المجتمع الحياتية، لتنبت أشكال جديدة من الأنماط والقيم الاجتماعية التي هي دليل التجدد. ومن هنا فإن جملة من العوامل تبرّر حدوث الحركات الاجتماعية في العالم العربي، وهي تحولات لا تنفصل عن بُعدها التاريخي القُطري أو الكوني المتصل بالمجتمع الدولي. ومن باب الموضوعية، لا يستقيم تحليل الظاهرة الاجتماعية دون ربطها بالمعطى الدولي خاصة وأن دوره آخذ في التعاظم إلى جانب المجتمع القُطري. فما هي بالتالي الخلفيات التي حرّكت ما يسمّى بالثّورات العربيّة؟ ما هي تجليّات هذا الحراك وآليات التعبير عنه؟ وكيف يمكن أن نقيّمه؟
غير أن الوقائع السياسية و الاقتصادية في العالم العربي، ومنذ الصدمة البترولية الأولى 1973، ومع ارتفاع أسعار النفط ، وما رافقها من اضطراب البنية الاجتماعية – السياسية في الدول العربية ،تؤكد أن البلدان العربية تنتمي إلى فئة البلدان الريعية سواء التفطية أو غير النفطية ،التي تعتمد على السياحة ،والمساعدات الخارجية، وعائدات العمال المهاجرين .
ويبدو أن العالم العربي ظلّ على هامش هذا التاريخ الكوني. فهناك من ناحية الصراع العربي الصهيوني وإسقاطاته المدمرة في ظل غياب مشروع عربي لتحرير الأرض السليبة، وهناك من ناحية أخرى نعمة الريع النفطي التي لم توظف لمصلحة بناء اقتصاد عربي منتج قادر أن يستوعب الأجيال الجديدة من خريجي الجامعات.فقد تفاقمت ظاهرة البطالة في الدول العربية الريعية التي لا تدعو مواطنيها إلى العمل ،ولا تحفز العمل وسوقه. وهذا مثبت في إحصاءات كثيرة. ففي سلم البطالة في العالم، وهي تقاس من أدنى المعدلات الى أعلاها، تتربع مصر في المرتبة 107، والمغرب في المرتبة 109، والجزائر في المرتبة 110، والأردن في المرتبة 139، وتونس في المرتبة 140، واليمن، في المرتبة 185. وعليه، قد يصح رسم خريطة الثورات العربية بناء على معدلات البطالة والعمل.
وهكذا أصبحت بطالة الخريجين الجامعيين ،هذا المرض المتفشّي في معظم البلدان العربية .فالبطالة التي تصيب أكثر من 17 في المئة من قوّة العمل في العالم العربي ،باتت تضرب ربع الشبّان الذين هم دون الـ25 من العمر، وهي تتراوح ما بين 30 و35 في المئة في أوساط الشبان الجامعيين. وما يزال حتّى الآن مئات الألاف من المتخرّجين الجامعيين من أفواج ما قبل العام 2005 يفتّشون عن فرصة العمل الأولى لهم .
فالدولة في النظام الريعي العربي هي التي تحكم قبضتها على الثروات، وهي ثروات تفتقر إلى قيمة مضافة مصدرها البلد نفسه وقيمتها مرتبطة بالطلب الخارجي.وثمة دول عربية ريعية غير نفطية، مثل مصر، وهذه تعيش على السياحة وعائدات المغتربين في الخارج ومن عائدات قناة السويس والمساعدات الأمريكية. ويترتب على مثل هذه الأنظمة بروز عدم تناظر سياسي بين الدولة والشعب. فالدولة تراكم الثروات ولا توفر فرص عمل. وليس خلق الثروات شاغل الدولة. فهذه تخشى انحسار احتكارها توزيع الريع. وهي تستسيغ التعامل مع العاطلين من العمل أو العاملين في مهن لا تؤمن كفاف العيش. فإرضاء هؤلاء من طريق توفير مساكن لهم أو منحهم إعانات غذائية يسير. وتحول الدول الريعية دون بروز شريحة اجتماعية تنتج الثروات، وتحوز، تالياً، هامش استقلال عن الدولة، وتباشر مساءلة السلطة. والمساعدات الخارجية تسهم في تثبيت الأنظمة العربية. وهذه حال مصر والأردن”..
يقول الباحث سعيد عبدلي :”أفرز الواقع السياسي العربي بملامحه سالفة الذكر واقعاً سياسياً “متعفناً” وصعباً انعكست آثاره على الإنسان العربي ،ذلك أن هذه الأنظمة لم تفي بتطلعات الفرد العربي إلى النهضة الشاملة والوحدة التي هي الطموح المشترك بين كل العرب مهما تباينت اتجاهاتهم الفكرية والثقافية والسياسية، مع استثناء بسيط لأنصار النزعة القطرية الضيقة أن المناصرين لفكرة الدولة الأمة. أو لكونها أنظمة فاسدة أصلاً لم تفلح إلا في الخطب البرّاقة التي ملّتها الشعوب.. كل هذه العوامل مجتمعة ستكون دافعاً للبحث عن أمل شعب ضائع يتوق إلى التنمية والحرية والعدالة والانخراط في منظومة الحياة العصرية القائمة على الفعل والتألق. وذلك لا يكون بطبيعة الحال إلا بتوفر المناخات المشجعة على ذلك.
من الأهمية بمكان أن نشير في مطلع هذا الفصل إلى ملاحظة منهجية ومفاهيمية تتمثل في الحذر من استخدام مفهوم الثورات ونسبته إلى ما حصل في الساحة العربية. فالتعمّق في تحليل هذا المفهوم يحيلنا إلى جملة من الخصائص الغائبة في المشهد السياسي العربي. إذ أن لكل ثورة قادة ومنظومة إيديولوجية تسير وفقها حتى تصل إلى تنفيذها بعد تقويض أركان النظام السياسي القائم. وعليه نستنتج غياب هذه الأركان في كامل الأقطار العربية التي تشهد تحركات جماهيرية شعبية تطالب بالتغيير.
أمام غياب المقومات التقليدية للثورة فإن المطلبية الشعبية هي التي حرّكت ولا تزال الشارع العربي من أجل تقويض أركان الأنظمة السياسية العربية المتهرّمة والتي قلنا عنها منذ بداية تعريفها في هذا الكتاب من كونها كاريزماتية تسلطية لا تتصل بقواعدها الشعبية إلا عبر الاستبداد(ص 182)..
تنامي الوعي الشعبي بفساد الأنظمة العربية
تعكس ملامح النظام السياسي العربي في كافة الأقطار العربية حالة الترهّل التي كان عليها منذ نشأته. فهو لئن تمكّن من الحفاظ على بقائه طيلة خمسة عقود من الزمن مستخدماً طرائقه القمعية تارة وأدواته الديمقراطية المزيفة تارة أخرى. فإنه لم يستطع الصمود في وجه الموجات الشعبية العارمة منذ عام 2010 حتى الآن. وهذا معناه أن ما يجري اليوم في العالم العربي هو نتيجة حتمية لطبيعة تلك الأنظمة التسلطية التي تتميز ببعض الخصائص، أهمّها: “التعددية الحزبيّة المحدودة، والتّنافس المحدود على السّلطة، وانغلاق فضاء المشاركة السياسيّة، وشخصنة السّلطة واحتكارها لفائدة فرد أو أقليّة”.
إن الواقع السياسي العربي لا ينفي وجود تشكيلات سياسية معارضة بل هي موجودة سواء في الداخل أو الخارج. وقد اتهم بعضها بكونها مجرد أحزاب كرتونية موالية للأنظمة القائمة الذي منحها تأشيرة نشاطها وفق شروط مسبقة حتى لا تكون له مصدر قلق. وقلما توجد أحزاب ونخب سياسية معارضة بامتياز في العالم العربي. ورغم ذلك كله فإن الانتفاضات الشعبية في إطار ما أطلق عليه البعض “الثورات العربية” أو “الربيع العربي” كان نابعاً من عمق التوترات الاجتماعية التي ضاقت ذرعاً من سياسيات التهميش والإقصاء.
يحلل الباحث سعيد عبدلي طبيعة الثورات العربية، فيقول :”بمجرد أن تهاوت الأنظمة الحاكمة في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن حتى بتنا نشاهد واقعاً قطاعياً أبرز سماته الفوضى، العبثية، الارتجالية، العاطفية، انقلاب الموازين، التنكر لعديد المبادئ.. فاليوم نحن أمام مفاهيم جديدة لا يمكن فهم معانيها وفك رموزها ومدلولاتها إلا في دراسة مستقلة. من ذلك مثلاً الثورة المضادة، سرقة الثورة، الشرعية والانقلاب على الشرعية، افتكاك الثورة، المدّ الإخواني، عودة الاستبداد.
هذه إذا بعض المفاهيم التي تطفو على السطح السياسي العربي أي البلدان التي شهدت انتفاضات. فلقد كنت حريصاً في مجمل قراءاتي على تحاشي استخدام مفهوم الثورة كمفهوم إجرائي، ما عدا ما استقيته من شواهد تحمل هذا المدلول، لأنه من باب الغباء المعرفي أن نسقط مفاهيم نظرية على واقع لا يتطابق مع خصوصية المفهوم ودلالاته هذا فضلاً عن دور العامل الخارجي فيما حدث من تغيرات في العشرية الأخيرة بمعظم الأقطار العربية وهو أمر بات مفضوحاً ولا يتطلب الأمر جهداً كبيراً لمعاينته.
وفي اعتقادنا فإن انهيار الأنظمة العربية في البلدان التي شهدت موجات الغضب الجماهيري لم يكن بفعل عوامل الداخل فقط التي شرحناها في ركن العوامل القطاعية، بل كان للعامل الخارجي أيضاً دوراً أساسياً في ذلك. وهذا الأمر لا يحتاج إلى جهد كبير لتوضيحه، ولأدل على ذلك ما حدث في كل من ليبيا ومن قبلها العراق وما هو بصدد الحدوث في القطر السوري ونفس الأمر في تونس ومصر واليمن. إذ أن عديد النقاط لا تزال محيرة وغامضة إلى الآن، فلا يزال التونسيون مثلاً يطرحون الأسئلة التالية: لماذا لم تتمكن قيادات الجيش من إيقاف الرئيس قبل هروبه؟ وفي مصر، بأي منطق قانوني تتم تبرئة الرئيس حسني مبارك من جرائمه على امتداد ما يزيد عن 40 سنة من حكمه؟ وعلى العموم، من هي الجهات الخارجية القائمة على ذلك؟ وما هي مصالحها؟” (ص 186-1987)
ماذا فعلت النّخب السياسية التي وصلت إلى الحكم غير صناديق الاقتراع في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية؟ صحيح أن هناك هامش كبير من الحريات وخاصة حرية التعبير، ولكن ماذا عن التنمية والعدل والتعليم وهي من المقومات الرئيسية لنهوض المجتمع؟ أليس القاضي المستقل الذي كان يحكم منذ الأمس القريب هو نفسه القاضي الذي لا يزال يجلس على كرسي القضاء؟ ومثل هذا السؤال له أكثر من دلالة.
لماذا كل البُحّاث والدارسين بما في ذلك المؤتمرات التي عقدت من أجل مناقشة ودراسة ملف “الربيع العربي” تركّز فقط على الفاعل السياسي وتتناسى الفاعل الاجتماعي، أعني المواطن العربي: فهل أن هذا المواطن الذي استطاع أن يزيح أنظمة استبدادية مؤهل فعلاً إلى أداء دوره في النظام السياسي الجديد الذي ساهم بدرجة فاعلة في مولده؟ وهنا يتنـزّل السؤال المحوري التالي: من المسؤول عن الفوضى العارمة التي تتخبط فيها هذه البلدان؟ هل فعلاً أن المواطن العربي قادر على تحمل مسؤوليته في ظل الدولة الجديدة التي طالما حلم بها؟ وأن يعرف قيمة العمل و الانتظام و الواجبات المحمولة عليه على نحو ما حدث في ألمانيا وبريطانيا مثلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟
وينتقد الباحث سعيد عبدلي مفهوم الديمقراطية الوافدة من الغرب، فيقول:”الأزمة تكمن في الفهم المغلوط لمفهوم الديمقراطية، وهو مفهوم مسقط ومفروض على الحضارة العربية قصد تقويضها من الداخل لا من أجل إصلاحها. وهذا ليس معناه أننا ضد الحريات والعدالة والمساواة وما إلى ذلك من قيم نبيلة بل إن ذلك جزء من إيماننا وعقيدتنا الفكرية. ولكن الخطر يكمن في كون الديمقراطية في حد ذاتها أثبتت قصورها في البلدان الغربية منذ أن فرضت نفسها كعقيدة عالمية على شعوب العالم دون الاكتراث بعديد المسائل المتصلة بالخصوصيات الثقافية للشعوب والتي منها خصوصية الإسلام. ولنا أن نستحضر في هذا المقام عام 1990 تاريخ صدور كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الجديدة”،والذي تلاه مباشرة سقوط الاتحاد السوفيتي. منذ ذلك التاريخ تستخدم العقيدة الليبرالية مفاهيم الديمقراطية بطريقة عكسية قصد إيهام الشعوب وتضليلها. هي التي أفرزت بالنتيجة الفوضى الخلاّقة التي تعد واحدة من الخطط قصد السيطرة على العالم وخاصة العالم الإسلامي وزرع بذور الفتنة فيه”(ص 189).

الحلقــــــــــــــــة الثانيـــــــــــــــة والاخيــــــــــرة

لقد مثّل موضوع النهضة العربية الشغل الشاغل للنخب منذ مرحلة ما قبل الاستعمار حتى الآن، فجسد الأمة العربية الإسلامية آخذ في التمزّق بين مكوناته في إطار ما يسمى بالدول الوطنية وسياسات التقوقع، في ظل واقع دولي قائم على التحالفات والتكتلات. وإذا ما أردنا أن نقيّم مشروع النهضة في منطقتنا، لوجدناه لا يخرج عن قطبي الأصالة والحداثة، سواء الانتصار إلى إحداهما أو بالتوفيق بين القراءتين.
ورغم جدية عديد القراءات التي حدثت في هذا الجانب في القرن 19 منذ الأفغاني (1838 ـ 1897) ومحمد عبده (1849 ـ 1905)، مرورا برواد الإصلاح في القرن 20 حتى رواد المرحلة الاستعمارية، وصولا إلى المرحلة الحديثة من أمثال محمد عابد الجابري ومن قبله مالك بن نبي، فإن هذه القراءات ظلّت رهينة إطاراتها النظرية، في ظل واقع عربي قائم على الاستسلام لحالة الخنوع والوهن والتأخر في الكثير من المجالات؛ بفعل تخلّف نظمه السياسية والتعليمية، وغياب روح المبادرة خاصة في تحقيق مطلب الوحدة.
ومن أسباب ذلك أيضا، تأخره المعرفي والعلمي وانتشار شتى مظاهر البؤس الحضاري في مستوى بنيات المجتمع، أو شخصية الإنسان العربي المسكون بالتواكل والعجز والتقاعس. والسبب حسب مالك بن نبي، هو عدم تخلّصنا من عامل التبعية والاستعمار، وهي خلاصة استقاها من النظرية القرآنية {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. وحسبنا أن نشير هنا إلى أهم تلك الرؤى النهضوية والإصلاحية، وهي ثلاثة تيارات متضاربة: الأصالة والحداثة والانتقائية.
إنَّ مجرد رؤية تأملية إلى واقع الأمة الإسلامية ومنها المنطقة العربية، يجرّنا حتما أن ندقّق في المشاريع السياسية التي تتالت عليها، وهي لا محالة كثيرة وتحمل العديد من الإشكاليات الواجب تدارسها. ولعل التجارب السياسية وطبيعة الأنظمة الحاكمة، أبرز ما يشد الانتباه ويعجّل بالبحث في عديد مواطن الغموض، التي طالما مثّلت محرّمات لا يجوز طرقها بحكم ارتباطها الوثيق بقداسة الحاكم. وقد أبانت التجربة التاريخية أن مجرد طرحها للنقاش والدراسة يعدّ استثناء؛ ذلك أن درجة الرقابة والحصار اللذين كانا مفروضين حتى على الحقل المعرفي، حالا دون ذلك، أي تدارسهما بشكل طبيعي.
لكنَّ منطق الحراك الاجتماعي أبى إلا أن يغيّر هذه المعادلة، لتتغيّر المعطيات ميدانيا، ويشهد الإسلام السياسي حضورا مكثفا على الساحة السياسية، خاصة في المنطقة العربية مثلما هو الحال في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، ونقصد تحديدا في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بزعامة أردوغان، والتجربة الإيرانية مع ثورة الخميني 1979.
وعليه، فإن ما يشد الانتباه هنا ـ سواء في السياق المعرفي عندما يتعلق الأمر بالإسلام السياسي كمبحث إشكالي أو كممارسة وفعل سياسي في الوجه المقابل ـ، هو تناول ذلك وفق مفاهيم مركزية هي من طبيعة المرحلة الراهنة، بحكم ما تحتويه من خصوصيات فريدة وفي مقدمتها النظام العالمي الجديد والكونية والعولمة، هذا فضلا عن مفاهيم أخرى كانت ولا تزال مرتبطة بقضية الحال، مثل الحداثة والعلمانية، وبين كلا الطيفين من هذه المفاهيم التي نعدّها مدخلا أساسيّا لتناول أحد موضوعات الإسلام.
الحداثة
تُعَدُّ الحداثة أحد أبرز إرهاصات النهضة الغربية التي خاضت صراعا مريرا مع الموروث الديني المسيحي الأوروبي منذ العصور الوسطى، لمّا كان الصراع على أشده للقطيعة مع الموروثات التقليدية التي كبّلت العقل واستعبدت الإنسان بتعلة الدين، وكان الحاكم يستمد مشروعية حكمه من السماء. فهو من ثم حاكم بحق إلهي، وما الكنيسة ورجالاتها إلا الأداة التبريرية لهذا النمط من الحكم، الذي فرض من ثم  صورة اجتماعية لا تختلف عن هذه الطبيعة السياسية؛ مثل الإقطاع و العبيد والظلم واحتكار الحياة السياسية على الخاصة.
العلمانية
أُطْلِقَ مفهوم العلمانية لأول مرَّة في التاريخ الأوروبي عقب الثورة الفرنسية 1789، وتعني فصل الدين عن الدولة؛ بمعنى عدم توظيف الدين في السياسة. بل إنَّ هذه الأخيرة تكون من خلق الإنسان، وعليه ظهرت القوانين الوضعية التي عوضت القوانين السماوية، وأصبح للجماهير حق تعديلها وفق مصالحهم عبر البرلمانات المنتخبة. ويصدر كل نص قانوني بعبارة باسم الشعب، مثلما لا يحق للدولة أن تتدخل في المسألة السياسة وإكراه المواطنين على دين أو عقيدة بعينها؛ لأن ذلك يعدُّ خرقا للحريات الشخصية، وعليه، فإنَّ الدين مسألة شخصية لا يمكن التدخل فيها، ما لم تخل بالأمن العام.
فالعلمانية هي بدورها مفهوم غربي تمخَّض عن جملة الثورات الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها أوروبا وأمريكا، فهي بذلك وردت في السياق عينه الذي ظهرت فيه الحداثة، وظلّا إلى يوم الساعة هذا، مفهومين متقاربين متلاصقين، إذا نظرنا إليهما من زاوية النظر الغربية المحضة.
الإسلام السياسي
هو كل مشروع سياسي ينخرط في العملية السياسية عبر الانتخابات أو غيرها من الطرق، مثل الثورات أو الحركات الاجتماعية أو الانقلابات؛ قصد الوصول إلى السلطة وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. أي أنه يضع برنامجه السياسي في إدارة شؤون المجتمع والتحكم في مفاصل الدولة استنادا إلى الأحكام الواردة في القرآن الكريم والشريعة. وقد ظهر هذا الخطاب السياسي كردة فعل على تنامي الحركات العلمانية في العالم، ووصولها إلى مركز الخلاقة الإسلامية في تركيا، خاصة بعد إعلان كمال أتاتورك عن حلها في 3 آذار/مارس 1924 وإعلانه الرسمي عن تركيا العلمانية التي سارت على هدي التجربة الأوروبية في العلمانية؛ أي الفصل بين الدين والدولة.
في هذا السياق، يقول الباحث سعيد عبدلي: “لعل العلمانية التركية كانت أشد تصلّبا من سابقتها الأوروبية، بحكم التدخل التعسفي في حريات الأفراد وخاصة قمع الحريات الدينية، مثلما تجلى بوضوح في إلغاء اللباس الإسلامي قسريا. فظهرت في العالم الإسلامي ـ وخاصة منه العربي كردة فعل على ذلك وسعيا إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية وإصلاح المجتمع نحو الرقي ـ بروز أصوات تنادي بالمشاركة في العملية السياسية، وتحديدا في الانتخابات واعتماد الشريعة الإسلامية كمرجع لوضع القواعد القانونية والبرامج السياسية في إدارة شؤون المجتمع. وقد اقترن الإسلام السياسي بالمفكّر حسن البنا، الذي يعد أول منظّر لحركة الإخوان المسلمين.
العلمانية هي بدورها مفهوم غربي تمخَّض عن جملة الثورات الديمقراطية البرجوازية التي شهدتها أوروبا وأمريكا، فهي بذلك وردت في السياق عينه الذي ظهرت فيه الحداثة، وظلّا إلى يوم الساعة هذا، مفهومين متقاربين متلاصقين، إذا نظرنا إليهما من زاوية النظر الغربية المحضة.
ولكن ذلك لا ينفي ارتباطه بحركات أخرى مثل السلفية وحزب التحرير والإسلام الثوري المستنير في إيران، ولكن تأكيدنا لحركة الإخوان المسلمين؛ فلكونها الأكثر شيوعا، التي وصلت إلى السلطة في مناسبات عديدة مثل السودان وتركيا والمغرب وتونس ومصر، رغم ما تخلل هذه التجارب من تشويهات وتحريفات وأخطاء؛ منها ما هو مفروض، وما هو حيف داخلي(ص 209).
في ختام هذا الكتاب، يمكن القول بأنَّ مراجعة ما يزيد عن سبعة عقود من مرحلة ما بعد الاستقلال، كافية لمراجعة سياسات الدول الوطنية التي راهنت منذ ميلادها على تبني سياسات إصلاحية منفتحة بدرجات متفاوتة عن الحضارة الأوروبية، أي عن التجارب التحديثية والفكر والحداثة في آن. ونحن لا نروم هنا تفكيك أبعاد كل تجربة عربية أو إسلامية على حدة، خاصة أن هذه التجارب مختلفة من حيث الشكل والمضمون، وكذلك في النتائج التي آلت إليها.
ولكنَّ نريد أن نقف عند نتيجة واضحة تشترك فيها كل هذه البلدان، وهي تخلّفها وتأخّرها الحضاري، مما جعلها من عداد البلدان المتخلّفة وازداد وضعها سوءا في زمن العولمة، حيث لا بقاء إلا للقوي الذي استثمر كل الطاقات والإمكانيات، وفي مقدمتها العبقرية الفكرية وحسن التدبير والتسيير من أجل الوصول إلى مصافي الدول المتقدمة، التي تمتلك إمكانيات التفوق. في حين لا يزال العالم العربي الإسلامي يبحث عن مخارج لأزماته الآخذة في التعاظم، مما جعلها موضوع عدة أطراف فاعلة فيه. وهو ما سنتناوله من خلال فكر الإسلام السياسي؛ باعتباره الطرف السياسي الذي عاد بشكل أكثر فاعلية في الساحة السياسية داخل المنطقة العربية وما جاورها، خاصة في إيران وتركيا.
ندرك جيدًّا أنَّ التاريخ العربي إذا قرأناه وفق السياقات الحضارية ومسارات الحداثة التي هي قدر كل مجتمع أراد تحقيق النهضة الشاملة، لا يعدو أن يكون سوى مشهد من الهزائم والأنّات الأليمة. ففي تقديرنا الخاص، فإنَّ أنظمة الحكم التي تعاقبت على المنطقة، هي سبب كل هذا الخراب الحضاري الذي نعيشه اليوم وجعلنا في أسفل السّلم العالمي، وهو حتما آخذ في التعمق، خاصة عندما نلاحظ تسارع الأحداث الكونية، حيث السّباق على أشدّه بين عمالقة العالم، في سياق مرحلة ما بعد الحداثة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى