بنو اسرائيل .. و اليهود .. و فلسطين

 

 

في اعتقاد الكثير من الناس أن كلمات مثل ”بنو اسرائيل“ و ”اليهود“ لا تزيد عن كونها أسماء مختلفة لنفس المجموعة من البشر، و مع أن ذلك صحيح أحياناً إلا أنه مخالف للصحة في أغلب الأحيان. التفرقة بين التعبيرين ضرورية للعربي الغيور، لا لأمور لغوية أو جدلية و لكن لأنها تمس القضية الفلسطينية في صميمها. هذه المقالة، إذ توضح الالتباس بين التعبيرين اعتماداً على مصادر يهودية، فإنها أيضاً تسلط الضوء على حجم الظلم الذي حاق بالأمة العربية و لا يزال يحيق بها.

لنتفق أولاً على أن كلمة ”إسرائيل“ لا تعدو عن كونها إسم آخر للنبي يعقوب الذي ورد ذكره في القرآن، أو بشكل أدق لقب أُطلق عليه في مرحلة لاحقة من حياته و أصبح يعرف به، و بالتالي فإن أبناء إسرائيل هم أبناء يعقوب. تذكر المصادر اليهودية أنه كان ليعقوب إثني عشر ولداً أصبح كل واحد منهم الجد الأكبر و المؤسس لواحدة من القبائل الاثنتي عشر التي ينتمي اليها ”بنو إسرائيل“. و لأن جميع أولئك الأبناء و الأحفاد كانوا يؤمنون بالديانة اليهودية فكان طبيعياً أن يطلق عليهم أيضاً وصف ”اليهود“. في البداية كان كل اليهود من بني إسرائيل لكن مع مرور الزمن، و انتشار اليهودية بين الشعوب و القبائل، أصبحت نسبة كبيرة من اليهود تنحدر من أصول لا علاقة لها بالنبي يعقوب (اسرائيل) و لا بأبنائه. غني عن القول أن من يعتنق الديانه اليهودية يصبح يهودياً لكن ذلك لا يجعله من بني إسرائيل، تماماً كما أن الأوروبي الذي يعتنق الإسلام يصبح مسلماً لكنه لا يصبح عربياً و لا من قريش.

معظم يهود العالم هذه الأيام ينتمون الى العرق المسمى ” اشكنازي“ و الذي كان يعيش في المانيا ثم انطلق منها الى سائر انحاء اوروبا و امريكا. اليهود الاشكنازي يشكلون حالياً ما يقرب من ٨٠٪ من يهود العالم، و هم انحدروا أصلاً من قبائل كانت تستوطن القوقاز و هاجرت الى المانيا (و منها جاءت تسميتهم). أما سبب تواجد أجدادهم أصلاً في بلاد القوقاز فهو ببساطة لأنها كانت بلادهم من آلاف السنين عندما كانوا جزءاً من قبائل الخازار التي كانت تعيش في تلك المناطق. كان أولئك الأجداد يدينون بالديانة المسيحية التي كانت شائعة في تلك البلاد، لكن حوالي القرن التاسع الميلادي اعتنق بعضهم الديانه اليهودية و اقتبسوا لغة و أعياد اليهود و تشرّبوا عاداتهم و ثقافتهم. أي أن أجداد اليهود الاشكنازي لم ينحدروا من بني إسرائيل و لم يخرج أجدادهم من فلسطين بل لم يقطنوها أساساً و لم يكن لهم بها أية علاقه! و مع ذلك يتبجح الصهاينة، الذين غالبيتهم من هذه الطائفة، بالإدعاء أنهم باغتصابهم لفلسطين إنما في الواقع يعودون إلى أرض أجدادهم! و ما ينطبق على اليهود الاشكنازي ينطبق أيضاً علي يهود اسبانيا ”السفراديم“مع اختلاف في التفاصيل لكن كلّاً من الفريقين انحدر من أجداد لم يستوطنوا فلسطين و لم يزوروها و لم يخرجوا منها و لم يكونوا من نسل اسرائيل. و المعروف أن اليهود السفراديم يشكلوا حالياً ثاني اكبر مجموعة من اليهود و تقدر نسبتهم حالياً بحوالي ١٥٪ من العدد الاجمالي لليهود في العالم.

الفكرة السائدة عن الديانة اليهودية أنها ليست ديانة تبشيرية، فمن الواضح للجميع أن اليهود لا يهتمون بنشر دينهم و لا يكترثون برأي الآخرين به و لا يهمهم إقبالهم عليه أو نفورهم منه. فمن هذه الناحية فهم يختلفون كثيراً عن المسيحيين و المسلمين الذين يعتبرون الدعوة إلى أديانهم واجباً دينياً. لكن لم يكن الأمر دائماً كذلك، ففي بداية عهدها كانت اليهودية أيضاً ديانة تبشيرية، بل في بعض الحالات كان اليهود يفرضونها على القبائل التي تقع تحت سيطرتهم. من الشعوب التي اعتنقت الديانة اليهودية بشكل جماعي كانت شعوب الخازار في القوقاز و بعض قبائل البربر في شمال افريقيا، و بعض القبائل في الحبشة. أما في منطقتنا العربية فالمعروف أن ملوك مملكة حِمْيَر في جنوب شبه الجزيرة العربية اعتنقوا الديانة اليهودية حوالي قرنين قبل ظهور الاسلام و كذلك فعلت الشعوب الخاضعة لهم في اليمن و حضرموت. و في نفس الفترة تقريباً انتشرت اليهودية في الجزيرة العربية و اعتنقتها العديد من القبائل العربية مفضلة إياها على الوثنية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.

لكن ماذا عن بني إسرائيل، هل لهم وجود الآن؟
نعم موجودون و لكن عددهم قليل. ربما تكون طائفة السامرة أشهر الاسرائيليين الأقحاح الذين احتفظوا بنقاء عرقهم عبر آلاف السنين. أفراد هذه الطائفة يمارسون ديانتهم بتزمت شديد و يتزاوجون من بعضهم فقط مما تسبب في نسبة عالية من العيوب الخلقية و الوفيات بين مواليدهم. عدد أفراد هذه الطائفة لا يزيد عن بضعة مئات يقطن نصفهم في مدينة نابلس التي لم يغادروها من آلاف السنين. و سبب تمسك السامرة بالمعيشة في نابلس هو وجود جبل جرزيم الذي له أهمية دينيه خاصة عندهم. و هم طبعاً من أبناء فلسطين و يتحدثون العربية كلغة اولى و تربطهم علاقات طيبة مع المسلمين و المسيحيين و يرفضون قيام اسرائيل و يستنكرون الحركة الصهيونية لأسباب دينية. ففي عقيدتهم أن قيام إسرائيل يُفترض به أن يتم بعد ظهور المسيح المنتظر ( و هم لا يعترفون بسيدنا عيسى على أنه المسيح المنتظر )، و لهذا فهم يعتبرون قيام الحركة الصهيونية و إنشاء اسرائيل في هذا الزمان مخالفاً لإرادة الله و عدواناً على شريعته. و هذه العقيدة الرافضة لإنشاء اسرائيل ليست مقصورة على السامرة بل كانت معروفة لليهود قبل ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر. من الحقائق التي لا يعرفها الكثيرون أن إنشاء الحركة الصهيونية لم يكن أمراً يهودياً بحتاً بل تم بإيعاز و تشجيع من بعض الطوائف المسيحية المتطرفة في أوروبا و أمريكا، و لكن هذا موضوع آخر.

من أهم الدراسات التاريخية التي صدرت حول أصل اليهود كانت من آرثر كرسلر، و كان يهودياً مجرياً و نشر نتائج أبحاثه في كتابه المعروف ” القبيلة الثالثة عشر“ سنة ١٩٧٦. يقدم أ. كرسلر الدلائل التاريخية على ما أوضحناه سابقاً من أن أصول اليهود الاشكنازي ترجع إلى قبائل الخازار في القوقاز و أن أجدادهم لم يعيشوا في فلسطين. و يؤكد أن اليهود الأوروبيين ”الأشكنازي“، و هو واحد منهم، ما هم إلا طائفة حديثة نسبياً و منفصلة عن أبناء اسرائل الاثني عشر، و من هنا جاء إسم الكتاب ”القبيلة الثالثة عشر“.

و هناك دراسة أخرى قام بها البروفيسور شلومو ساند، استاذ التاريخ في جامعة تل ابيب و نشرها في كتابه ”صناعة الشعب اليهودي“ الذي صدر عام ٢٠٠٨. يوضح شلومو ساند في كتابه، الذي أعيدت طباعته عدة مرات و ترجم الى لغات عديدة، أن كل ما قيل عن تعرض اليهود الى هجرات قسرية من فلسطين ليس له دليل تاريخي و أن كل تلك الروايات كُتبت من محض الخيال في فترات لاحقة. و هو أيضاً يؤكد أن يهود أوروبا و أمريكا هم نتيجة اعتناق أفراد من الشعوب المحلية للديانة اليهودية.

قضية فلسطين محسومة من الأساس لصالح الشعب الفلسطيني، مهما كانت المزاعم الصهيونية. ليس مقبولاً في أي شريعة من الشرائع الانسانية تشريد شعب من ديارهم بناء على مزاعم واهية من آلاف السنين. وعد بلفور لم يصدر من أجل اليهود الشرقيين و لا طائفة السامرة الذين كانوا أصلاً في فلسطين، بل صدر أساساً من أجل اليهود الأوروبيين (الاشكنازي) الذين لم يستوطن أجدادهم فلسطين و لم يروها و ربما لم يسمعوا بها. و من سخرية القدر أن معظم هؤلاء اليهود لا يؤمنون بالاديان و لا الكتب السماوية و لا يأخذون ما ورد في التوراة على محمل الجد. نسبة الالحاد عند الاشكنازي مقاربة لشعوب شمال أوروبا التي تبلغ ٧٠- ٨٠٪. أي أن اغتصاب فلسطين و تشريد شعبها و زرع إسرائيل و التسبب في كل تلك المآسي من نزف الدماء و الحروب الطاحنة تم بناءً على معتقدات لا يؤمن بها أكثر اليهود أنفسهم!

الحماس الذي أظهرته الدول الكبرى لقيام إسرائيل لم يكن دوافعه دينية خالصة، بل كانت هناك دوافع استراتيجية أهم و أكثر خطراً. نظرة سريعة على خارطة العالم تُظهر بوضوح ما كان يقلق الدول الكبرى و لا يزال يؤرقها و يقض مضجعها – ألا وهو قيام دولة عربية موحدة. القوى الكبرى كانت تدرك أنه لو قامت مثل تلك الدولة فإنها ستكون مؤهلة لتكون قوة عظمى في العالم بسبب موقعها الاستراتيجي الفريد و تجانس سكانها و وفرة ثرواتها الطبيعية. زرع إسرائيل في فلسطين أصاب العالم العربي في مقتل و قسَّمَه جغرافياً و أصبح متعذراً إتصال شرقه بغربه. لو كان الوطن العربي رجلاً و أراد شخصٌ أن يطعنه طعنة قاتلة فإنه سيغرس خنجره في فلسطين. تأسيس إسرائيل أوجد مبرراً ”شرعياً“ للدول الكبرى كي تُقطِّع أوصال الوطن العربي و تبقي دويلاته تحت سيطرتها. اصبح الموقف تجاه اسرائيل هو الميزان الذي تُقَيَّم على أساسه دول المنطقة و أصبح مألوفاً أن تُستثنى إسرائيل من القوانين الدولية و أن يكون مسموحاً لها الاعتداء على من تشاء من دول المنطقة و أن تحتفظ بترسانتها النووية بلا أية شروط أو مُسائلة.

كان مطروحاً أن تقام إسرائيل في أوغندا و تحمس لذلك بعض المسئولين كان من بينهم وزير المستعمرات البريطاني و بعض أقطاب الحركة الصهيونية لكن لم يحظى المشروع بأصوات كافية في المؤتمر الصهيوني في أوائل القرن الماضي. كان الأمر يعني أن يقع الظلم على الشعب الأوغندي بدلاً من الشعب الفلسطيني. لكني أكاد أجزم أنه لو قامت إسرائيل في أوغندا لما عاشت طويلاً و لاندثرت كما اندثرت قبلها روديسيا و جنوب افريقيا. فمن الحقائق التي يجب عدم إغفالها أن قوة إسرائيل ليست قوة كامنة فيها بقدر أنها قوة مستَمَدّة من غيرها، خاصة ممن يُفترض بهم أنهم خُصومُها من العرب،الذين أدمنوا على شهوة الخيانة و الرغبة الجامحة في صداقتها و التعاون معها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى