بعد زيادة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.. إنحدار أمريكا يظهر سريعاّ في تفكك علاقاتها مع حلفائها
لم ينضم حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى العقوبات المفروضة على روسيا، ويتشككون في الدوافع الأمريكية لمعاقبة موسكو بأدوات مثل تحديد سقف لأسعار صادراتها النفطية أو تخفيض الإنتاج، ما يؤكد النفوذ الروسي في المنطقة.
علاوة على ذلك، فإن حقيقة أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” سيستفيد بشكل خاص من خفض الإنتاج لمواصلة جني الأرباح العالية التي يحتاجها لتمويل حربه في أوكرانيا والصمود في وجه العقوبات الغربية، تمنح الخلاف النفطي بين واشنطن وحلفائها الخليجيين بُعدًا مرتبطًا بالجغرافيا السياسية العالمية وأمن الطاقة.
وفي مثل الاضطرابات العالمية التي تعد أحد إرهاصات التحول من نظام أحادية القطبية الأمريكية إلى نظام متعدد الأقطاب، فإن الخيار الصائب لدول الشرق الأوسط، كان زيادة الاعتماد على نفسها وتنويع الشراكات الخارجية.
يعكس مأزق الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، في ترويض السياسات النفطية الخليجية مأزقًا أكبر يواجه الولايات المتحدة في إدارة علاقاتها مع الحلفاء الرئيسيين في الشرق الأوسط.
وتبرز تركيا كمثال آخر على هذا المأزق؛ فقد دفعت سنوات من سوء الفهم وتعارض المصالح، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى قيادة بلاده نحو نسج علاقات أعمق مع روسيا، وتبني سياسات حادة مناهضة للغرب.
مصر أيضا، التي كانت من بين الحلفاء المهمين للولايات المتحدة، تعمل على تعزيز مشترياتها العسكرية من روسيا، وانخرطت خلال العقد الماضي مع السعودية والإمارات في مواجهة مشروع “الربيع العربي”، الذي دعمته إدارة الرئيس السابق “باراك أوباما”.
كما ترتبط الجزائر بعلاقات قوية مع روسيا، حتى أصبحت تقتني أكثر من 60% من أسلحتها من موسكو، وتمتلك 6 غواصات روسية الصنع، كما يربطهما منذ 2001 “اتفاق شراكة استراتيجية”، يتعلق بالشراكة والتعاون في عدة مجالات أبرزها الاقتصادي والتجاري والطاقوي والعسكري والعلمي والتقني.
عندما تبدأ شمس قوة عُظمى كالولايات المتحدة الغروب سرعان ما تظهر نتائج انحدارها العالمي على علاقاتها مع الحلفاء الذين رهنوا خلال عقود طويلة، مصالحهم الأمنية والإقليمية بها، كالخليج أو أولئك الذين يطمحون إلى تحقيق استقلال استراتيجي في سياستهم الخارجية عن الغرب والتحوّل إلى قوّة إقليمية قائمة بحد ذاتها كتركيا.
الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، على سبيل المثال، خطا أشواطا بعيدة لتحقيق هذا الهدف مقارنة بالخليج.
وعلى غرار أنقرة، التي تولي أهمية كبيرة لشراكتها مع موسكو في الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها، تنظر الرياض وأبوظبي إلى الشراكة النفطية مع روسيا والعلاقات المتنامية مع الصين على أنها بوابة لبناء شراكات أوسع مع هاتين القوّتين لملء الفراغ الذي يُخلّفه تراجع الدور الأمريكي في المنطقة.
ومنذ سنوات، تحذر وسائل إعلام غربية، من تنامي النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، في ظل تضاؤل النفوذ الأمريكي وتراجعه.
وسبق أن ذكرت مجلة “ذي ناشونال إنترست” الأمريكية، إلى أن تضاؤل الدور الأمريكي في الشرق الأوسط ترك فراغا في المنطقة، وهيأ الظروف لظهور “بوتين” بوصفه لاعبا رئيسيا في الأمن الإقليمي، وخاصة في أعقاب التدخل العسكري الروسي في سوريا.
ولعل أحداث وتداعيات الحرب المستعرة في سوريا منذ سنوات، أثبتت أن اليد الروسية أصبحت مرئية في كل مكان بالشرق الأوسط، وأن روسيا ترأس الجهود لإنقاذ النظام مرتكبة مئات المجازر بحق السوريين، إلا أنها أدرجت نفسها في قضايا المنطقة برمتها.
ودعمت روسيا النظام السوري، خلال السنوات الماضية، سياساً واقتصادياً وعسكرياً تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”.
في المقابل، منحت دمشق الروس امتيازات واتفاقيات اقتصادية في مختلف المجالات كالنفط والغاز والقمح والفوسفات والكهرباء والطاقة في سورية.
لم يقف النفوذ الروسي عند سوريا، بل تجاوزه إلى ليبيا عبر ميليشيات ودعم الجنرال المتقاعد “خليفة حفتر”.
كما كان لروسيا دورا بارزا في السودان، تسعى من خلاله إلى بناء قاعدة عسكرية فيه، ما يجعلها متواجدة وحاضرة عسكريا بقوة في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن.
وتستغل روسيا دبلوماسية الوساطة لتعزيز تموضعها في المنطقة، فتشارك في الملف الفلسطيني، محاولة إجراء مصالحة بين فصائله المتناحرة.
كما لعبت كذلك دورا في الحفاظ على “الهلال الشيعي” المتمثل في النفوذ الإيراني في كل من العراق وسوريا، وتشارك في محادثات مباشرة مع السعودية ودول الخليج بشأن كيفية الحفاظ على توازن هش للسلطة في المنطقة.
ووفقا لمفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي التي أقرّها “بوتين” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فإن موسكو “ستواصل تقديم مساهمة كبيرة في استقرار الوضع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ودعم الجهود الجماعية الرامية إلى تعطيل التهديدات المتمثّلة بالجماعات الإرهابية الدولية، واتّباع سياسة متماسكة تهدف إلى تسوية سياسية وديبلوماسية للنزاعات في دول المنطقة على أساس احترام سيادتها وسلامة أراضيها، وكذلك حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم من دون أي تدخل خارجي”.
وربما يشعر “بوتين” يشعر بالمتعة عندما تسلط عليه الأضواء بوصفه رجل دولة عظمى، وعلى قدم المساواة مع رؤساء الولايات المتحدة، ولكن روسيا لا تسعى لمجرد الحصول على الهيبة على المستوى الدولي، بل إنها تسعى لجني فوائد ملموسة من سياساتها.
فهي تسعى من خلال لعبها دورا نشطا في الشرق الأوسط، إلى إيجاد مناخ يزدهر فيه الطلب على السلع والخدمات الروسية، بدءا بالأسلحة ومصانع الطاقة النووية إلى التقنيات الأخرى التي لا ترغب الولايات المتحدة في توفيرها.
كما تسعى روسيا لتحقيق الكثير من المطامح الجيواقتصادية، وإلى إنشاء طريق شمالي جنوبي يربط قلب روسيا بالخليج وبالمحيط الهندي.
والأهم يتمثل في أن روسيا تمكنت من استخدام نفوذ موسكو في الشرق الأوسط لإحباط الجهد الأمريكي الرامي لاستخدام السعودية نقطة ضغط ضد الاقتصاد الروسي.
وبصرف النظر عن الأسباب التي تحدو بالسعودية ودول الخليج إلى التزام الحياد في ذروة الحرب الباردة الجديدة الناشبة بين واشنطن وموسكو، من مثل محاولات “بايدن” العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أو عدم التأييد الأمريكي المطلق للسعودية في حرب اليمن، فإن المرحلة الخطيرة التي بلغها النزاع الأوكراني، تجعل الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى من يعاضدها في “حرب الطاقة” ضد روسيا، في حين أن القرار الأخير لـ”أوبك+” أتى مخيباً للآمال الأمريكية.
ويستدل من الضغط الذي مارسته إدارة “بايدن” على لبنان وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، مدى الحاجة الأميركية إلى تدفق الغاز إلى أوروبا، كي لا ينفرط عقد الوحدة التي أظهرها الأوروبيون في مواجهة روسيا، تحت ضغط صقيع الشتاء المقبل.
كما يبدو أن الخروج الفوضوي الأمريكي من أفغانستان صيف عام 2021، أقنع العديد من القادة العرب أن الانفتاح على الصين وروسيا اقتصاديا وسياسيا قد يوفر ضمانات، أكبر مما توفرها واشنطن، لمواجهة أسوأ الاحتمالات مستقبلا.
وتتغاضي روسيا في علاقاتها عن المسألة الحقوقية، التي تثيرها الولايات المتحدة بين الحين والآخر في شكل مقلق لحلفائها بالشرق الأوسط.
تسعى الدول العربية، كل على حدة، للإبقاء على خيارات متعددة خدمة لمصالحها المختلفة.
وترى أن مصلحتها على المدى الطويل تقتضي الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو وغيرها من العواصم الهامة، وليس غلقها كما يريد الغرب.
لقد استيقظ الغرب ليجد أن الدول العربية التي كانت في الماضي تثق به ثقة شبه عمياء وتؤازره ظالما أو مظلوما، وتسير على خطى مواقفه وسياساته لم يعد أمرها كما كان.
لا أحد يمكن أن يتنبأ بالوضع الذي سينتهي إليه الاجتياح الروسي لأوكرانيا. لكن المؤكد الآن هو أن هذا الغزو ربما غير طبيعة علاقات الدول العربية بالدول العظمى ليعيد رسم خريطة تحالفات جديدة على أسس جديدة في الشرق الأوسط.
فالحرب الأوكرانية لم تعد حسابات الربح والخسارة فيها مقتصرة على الميدان فقط، وإنما باتت حرباً أوسع وأشمل تطاول في انعكاساتها العلاقات الدولية برمتها، وهذا وضع شبيه إلى حد بعيد بالوضع الذي كان سائداً إبان الحرب الباردة الأولى.
وعندما يصل الأمر بالإدارة الأمريكية إلى التودد للرئيس الفنزويلي “نيكولاس مادورو” من أجل إبعاده عن روسيا، وتوظيف موارد الطاقة الفنزويلية في الحرب، يتبين مدى الإحراج الذي تواجهه واشنطن في الشرق الأوسط، وفي الوفاء بوعودها للأوروبيين ببذل أقصى الجهود من أجل عدم إحساسهم بالندم على قرار القطيعة الاقتصادية والسياسية مع روسيا.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن مقارنة حجم المنظومة الإعلامية الروسية، أو قدراتها التأثيرية، بنظيرتها الغربية، فإن المنظومة الإعلامية الغربية العاتية والنافذة وصاحبة الأسماء البراقة تشكو باطراد من نجاح الدعاية الروسية في حصد بعض التأييد، خصوصاً في دول الشرق الأوسط وأفريقيا.
ففي شهر مارس/آذار الماضي، نشرت مجلة “تايم” البريطانية، مقالاً لأحد الباحثين في “كارنيغي” تحت عنوان: “كيف تجاوب العالم العربي مع الحرب في أوكرانيا؟”، وهو المقال الذي نفهم منه أن كاتبه يستشعر فجوة بين السرعة التي توحّد بها الغرب ضد الغزو الروسي لأوكرانيا من جانب، و”التباطؤ والتريث” العربيين في الإدانة من جانب آخر.
ويعزو الكاتب هذه الفجوة إلى أن الدول العربية الرئيسية أرادت أن «تُبقي خياراتها مفتوحة» إزاء الأزمة، أو أنها “فقدت الثقة في مساندة الغرب لأنظمتها”، خصوصاً بعد تخليه عن بعض الأنظمة الحليفة له في فورة الانتفاضات العربية، إضافةً إلى الارتباك والتخبط الأمريكيين تحديداً في ملفي العراق وأفغانستان.
والأسبوع الماضي، نشرت وكالة “بلومبرج” الأمريكية، تقريراً بعنوان “داخل ماكينة الدعاية الروسية”، وهو التقرير الذي حوى إشادة واضحة بقدرة شبكة “روسيا اليوم” في دول الشرق الاوسط وأفريقيا، رغم كونها “ركيزة استراتيجية” في الدعاية الروسية “المُضللة” المواكبة للأزمة الأوكرانية.
أما “دويتشه فيله” الألمانية، فقد نشرت تقريراً لافتاً في نسختها العربية بعنوان: “غزو أوكرانيا.. هل ربحت روسيا حرب المعلومات في الشرق الأوسط؟”، تدرك في نهايته أن الإجابة التي توصل إليها التقرير هي: “نعم”.
ويطرح الكاتب سؤالاً مبدئياً عن الأسباب التي تدعو جمهوراً عربياً إلى الإعراب عن تضامنه مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتوجيه الدعوات لها بالنصر، كما يظهر في تفاعلات “سوشيال ميديا”، والتعليقات على المواد المنشورة بخصوص النزاع.
ولمزيد من الإيضاح، فإن الجمهور العربي والأفريقي، وهو أكثر عاطفية من الجمهور الغربي على أي حال، يرصد هيمنة غربية على الساحة الإعلامية، وإقصاءً وتعتيماً على الصوت الروسي، ومحاولة لتسييد السردية الغربية عن الأزمة الأوكرانية، فينتصر لـ”الأضعف”.
هذا التغيير ليس في الغرف المغلقة وليس بين الشعوب فحسب، وإنما ظهر في تصريحات رسمية، على لسان المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات “أنور قرقاش”، في أبريل/نيسان الماضي، حين قال إن الحرب أثبتت أن النظام الدولي لم يعد أحادي القطب مع الولايات المتحدة على رأسه.
وشكك في استمرارية تفوق الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي، كما صرح بأن أبوظبي تعيد تقييم تحالفاتها.
وأضاف أن “الهيمنة الغربية على النظام العالمي في أيامها الأخيرة”.
الأمر ذاته، ذكره سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة “يوسف العتيبة”، في وقت سابق من العام الجاري، حين قال إن العلاقات مع واشنطن تمر بـ”اختبار تحمل”، بعد أن انضمت الإمارات إلى الهند والصين في الامتناع عن التصويت على قرار في مجلس الأمن الدولي مدعوم من الولايات المتحدة لإدانة الحرب الروسية، في فبراير/شباط.
ومن المتوقع، وفق مراقبين، أن يزداد الدور الروسي ويتسع نطاقاً في المستقبل، بالنظر إلى مصالح روسيا الحيوية المتنامية في الشرق الأوسط على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي، والثقة والقبول اللذين أصبحت تتمتع بهما روسيا بوصفها شريكاً لكثير من دول المنطقة.
ولكن لا يخلو هذا الطموح بالطبع من المخاطر، فلا تزال دول الخليج تعتمد بشكل أساسي على الولايات المتحدة في الأمن، ومع تزايد مخاطر امتلاك إيران سلاحا نوويا واستمرار الاضطرابات الجيوسياسية الإقليمية، فإن المصالح طويلة الأمد للخليج لا تزال مرهونة بالترابط الأمني العضوي مع واشنطن.
وكذلك حقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال مؤثرة في الاقتصاد العالمي رغم الانحدار تؤثر على التوجهات الاقتصادية للخليج، كما تركيا التي أصبحت مؤخرا أكثر حذرا في تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية مع روسيا لتجنب مخاطر العقوبات الغربية عليها.