مئوية الأستاذ هيكل العام المقبل

بقلم: يوسف القعيد

مؤخراً مرت ذكرى ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل التاسعة والتسعين (23 سبتمبر 1923 ـ 17 فبراير 2016)، وكعادتها أقامت أسرته الاحتفالية السنوية، حيث تم توزيع جوائز ومنح مؤسسة هيكل للصحافة والإعلام السنوية على الفائزين بها. وتجمَّع عددٌ كبير من تلاميذ وعشَّاق الأستاذ فى مكتبه ومنزله ابتداء من الساعة السادسة والنصف فى لقاء سنوى لا يتخلف عنه إلا من كانت لديه أعذار قهرية. سواء كانوا من تلاميذه أو من الذين تعلموا من مدرسته وعاصروه وارتبطوا به بعلاقات إنسانية. ومن حسن حظى أننى تعرفت على الأستاذ فى حياته. ونشرت خلال وجوده كتابى معه: محمد حسنين هيكل يتذكر: عبد الناصر والمثقفون والثقافة، الذى تم نشر طبعته الأولى بدار الشروق فى أول مايو 2003. وللكتاب حكاية كانت بينى وبينه خلال حياته. كان صاحب فكرة نشر ما يدور بيننا من الحوارات التى تبحث فى العلاقة الفريدة والنادرة بين الزعيم جمال عبد الناصر أحد مؤسسى مصر الحديثة ومثقفى عصره.
سبق أن كتبت هذا الكلام فى حياة الأستاذ هيكل أنه كان صاحب فكرة تدوين الحوار. كنت أتردد على مكتبه بصفة مستمرة. ربما كانت أسبوعية. وخلال جلوسى معه كان يحكى عن هذه التجربة الفريدة فى تاريخ مصر المعاصر. وكنت أستمع مبهورا، وأحيانا كنت أستأذنه فى تدوين عبارة قالها، أو وصف أطلقه، أو حكم استند إليه. وعندما كنت أستأذنه فى تدوين ما أكتبه اقترح علىَّ أن أُسجِّل الحوار وأنشره. فهو شهادة للتاريخ. وهكذا لجأت إلى منجزات الحضارة الحديثة التى أتجنب استخدامها كثيرا وألوذ بها لتسجيل ما كان يدور بيننا من حوارات دارت جميعها حول تلك العلاقة نادرة الحدوث التى قامت بين عبد الناصر ومثقفى عصره.
أشهد بأن الأستاذ هيكل حكَّاءٌ نادر. ولو لم يكن الصحفى الأول فى زمانه لكان روائيا مهما، فهو عند روايته لما جرى يهتم جدا بالتفاصيل الصغيرة التى تحيط بالمشهد. وعندما قلت له هذه الفكرة ضحك طويلا وقال لى إنه يختلف معى، فهو جاء للدنيا لكى يكون صحفيا. وأضيف من عندى: وإداريا من الطراز الأول. وهذا انعكس على تجربته كرئيس تحرير التى بدأها فى سن مبكرة جدا، ثم استمر فيها وختمها بالأهرام، الصحيفة الأولى مصريا وعربيا وعلى مستوى العالم الثالث، وربما عالميا. لكن لدينا مثل شعبى يقول: إن الحلو لا يكتمل أبدا. وأنا أُكمل أن الكمال لله وحده. فخلال جلسات التسجيل للحوار الذى نُشِرَ فى بعض الصحف العربية والمصرية وفى كتاب صدرت منه أكثر من طبعة، اشترط علىَّ الأستاذ أن يقرأ المسودة الأخيرة للكتاب قبل النشر. لا أقول إننى وافقت على ذلك، بل رحبت به. واعتبرته إضافة مهمة لما سأكتبه، خاصة عندما يقرأ مخطوط الكتاب الأستاذ هيكل الذى يُعد أهم صحفى فى القرن العشرين. ولم أكن أدرى وقتها أنه قد يحذف من الكتاب ما لا يرى ضرورة نشره. فقد كان الرجل يُفرِّق بين ما يمكن أن يُقال فى جلسة خاصة، وما ينشر على عموم الناس. الذى لابد من مراعاة اعتبارات كثيرة جدا فيه.
وهكذا ما إن ذهبت إليه بالكتاب فى نسخته الأخيرة التى ستذهب إلى المطبعة فورا وكنت أتصور أنه سيُلقى نظرة سريعة أو متأنية عن الكتاب فى جلستنا هذه، ثم يصرح لى بنشره. ولكن الذى حدث كان عكس ذلك. فقد أخذ الكتاب لكى يقرأه كلمة كلمة، واستبعد من الكتاب الكثير جدا من المعلومات والوقائع والحكايات التى رأى أنه لا يجوز نشرها، خاصة أنها تدور حول راحلين من رموز هذه الأمة. وعندما نقترب من حكاياتهم يجب أن يتم ذلك بحذر كامل، ومراعاة لأصول إنسانية كثيرة. أعترف الآن وبعد كل هذه السنوات بأن لدىَّ نسخة كاملة من الكتاب قبل الحذف. وكنت أحاول خلال حياته أن أقنعه بنشر الكتاب كاملا. ولكنى كنتُ أتردد فى أن أعرض عليه أمرا كان لدىَّ إحساس أنه قد يرفضه. ولكنى فى أكثر من مرة تجرأت وطلبت منه ذلك، فرفض رفضا قاطعا وأعاد علىَّ الاعتبارات الإنسانية التى دفعته لذلك وهى مازالت قائمة من وجهة نظرى. وحتى رحيله عن الدنيا كان يساورنى أمل فى أن يوافقنى فى لحظة ضعف إنسانية نادرة الحدوث بالنسبة له على نشر الكتاب كاملا. ولكن هذا لم يحدث. إلى أن رحل عن دنيانا. فأصبحت لكلامه فرضية الأمر الواقع.
يوم الجمعة الماضى كان ذكرى ميلاده، وهو اليوم الذى تعودت مؤسسته أن تُعلن فيه عن مِنَحِها وقد تأخر ليوم السبت التالى، وقد بقى لنا الكثير منه: ذكراه وقيمته، وكتاباته، ومؤسسته. سواء كانت الأهرام أو المؤسسة الخاصة التى تمنح جوائزها كل عام. مؤسسة هيكل للصحافة العربية مؤسسة أهلية للخدمة العامة، لا تستهدف الربح، أنشئت بمصر 2007، وهدفها السعى لرقى مهنة الصحافة وتقدمها، ولحاقا بآمال تنتظر وسط عالم وزمان اتسعت فيهما آفاق المعرفة ودروس التجربة على نحو لم يسبق له مثيل. حسبما قال الأستاذ هيكل فى بيان التأسيس. وتضع المؤسسة كهدف عام لها مستقبل الصحفى العربى باعتباره المؤتمن الأصلى على مستقبل المهنة والحفاظ على دورها التنويرى ضمن حركة التقدم للأمة. والمحافظة على مستوى يساعد على تمكين الصحافة العربية من دور مؤثر فى محيطها يتواصل بالزمالة مع قوى التطور والخبرة فى الإعلام الدولى وحركاته المتسارعة. رحم الله الأستاذ هيكل رحمة واسعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى