٢٨ أيلول.. يومٌ للحزن المُبلل بالدمع والمُجلل بالسواد على رحيل القائد جمال عبد الناصر

 

الرجال العباقرة نيازك يحترقون ليضيئوا عصرهم
نابليون

من مسافة صفر ليس له أبعاد، وفي غمرة حزن ليس له حدود، وعلى قارعة جرح راعف ليس له إلتئام.. نكتب اليوم عن رحيل زعيم تتواضع العَظَمة في حضرته، وتتوارى كل الثورات خلف ثورته، وتعتز مصر الكنانة بالانضواء تحت قيادته، وتتباهى أمة العرب بإنتسابه لها وخروجه من صُلبها، وتفخر بكفاحه العنيد لإستنهاضها وتحريرها وتوحيدها وإسماع صوتها وإعلاء كلمتها ورايتها.

بحروف الحنين الدامعة، وبأقلام الوفاء الخاشعة، وفوق أوراق صبغت بياضها بالسواد، وتحت وطأة مزاج مكلوم ومحزون وطاعن في طقوس الحِداد.. نكتب اليوم عن رحيل فارس العروبة الحرة، وحارس مصر الثورة، وحامي عرائس النيل، الزعيم المقدام جمال عبد الناصر، الذي اغتالته يد المنون يوم ١٩٧٠/٩/٢٨، ونستذكر مرارة وداعه المشحون بافدح الآلام، ونستحضر جلال جنازته الاسطورية الزاخرة بملايين المفجوعين، ونتحسر على فراقه المُضني الذي يفوق إفتراق الروح عن الجسد، والقلب عن النبض، والشمس عن الضياء، والبدر عن كبد السماء.

وبقدر ما كان “ابو خالد” قائداً مَهيباً ومتفرداً وإستثنائياً، بقدر ما جاءت جنازته “طبق الأصل” في فرادتها وإحتشادها وأسطوريتها غير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث.. ذلك لأنها عمّت جماهير الشعب العربي عن بكرة أبيها، وشملت شعوباً وقيادات افريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية كثيرة، وجمعت بين زلزال الحزن وطوفان الدمع وهدير الحناجر الصارخة بالندب والنحيب والعويل، وألهمت العديد من الأدباء والشعراء إطلاق أبلغ المراثي وأحرّ النعوات والبكائيات التي لم يظفر بمثلها أي زعيم عربي قبل عبدالناصر، منذ مطلع القرن العشرين وإلى يومنا هذا.

ونقول للأجيال العربية الجديدة التي لم تعايش “ابا خالد”: لقد كان بطلاً باسلاً من هذا الزمان، وطوداً شامخاً علّقت عليه هذه الأمة اعظم الآمال، وحلماً قومياً تجسد في هيئة رجل يمشي على الارض بقدمين راسختين.. ثابت الخطى، رابط الجأش، موفور الكبرياء، شديد الإعتزاز بالنفس، والإيمان بالمساواة والعدالة الاجتماعية، والإعتداد بالنزاهة والطهارة والزهد في متاع الدنيا، والبُعد عن المال الحرام.. خلافاً لمئة في المئة من حكام العرب الراهنين الذين إنصرفوا لنهب المال العام، وإستأثروا بنعيم السلطة والثروة، وإتصفوا بفساد الذمة والهمة، وحللوا ما حرّم الله عليهم من أرزاق الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والممنوعة من الإعراب عن رأيها، والمطحونة بالفقر والبطالة والإهمال وسوء الحال وبؤس المآل.

كل الحكام العرب يقرأون من كتاب واحد، فيبدأون عهودهم بصفحات وردية حافلة بالوعود البرّاقة سياسياً وإقتصادياً، ومفعمة بالتعهدات والإلتزامات الوطنية والديموقراطية والأخلاقية، وتحديداً لجهة النزاهة وطهارة اليد.. ولكن ما أن يستتب لهم الحُكم، وتدين لهم “الرعية” بالولاء والطاعة حتى يتبرأوا من وعودهم، ويتنصلوا من إلتزاماتهم، ويخونوا أمانة مسؤولياتهم.. وحده جمال عبد الناصر ظل “المستثنى بإلا”، والمترفع عن دنيا الغواية، والمُتأبي على دنس الفساد بكل أنواعه، فلم يترك لورثته حُجرةً في أي مبنى، او متراً في أي أرض، او دولاراً في اي بنك.. متمثلاً في ذلك طهارة الخلفاء الراشدين.

وفضلاً عن إيمان الملايين الشعبية العربية بمشروع “أبي خالد” الوحدوي النهضوي المكرّس لنقل أمة العرب من مواقع التخلف الى مدارج العُلا.. فقد تعلقت هذه الملايين، من المحيط الى الخليج، بشخص هذا القائد الكاريزمي تعلقا اسطورياً يكاد يبلغ حدود الإنبهار الصوفي والعشق الوجداني، وتبارت في إطلاق إسمه “جمال” او “عبد الناصر” على آلاف المواليد ومئات الشوارع، خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين.. ناهيك عن خروجها العفوي الحاشد لشوارع المدن المصرية والعواصم العربية، رفضاً لإعلانه التنحي عن الحكم في أعقاب هزيمة ٦٧، وتجديداً للثقة به والسير في ركابه لتحرير التراب المغتصَب.. الأمر الذي أذهل الأعداء والأصدقاء على حد سواء، وشكّل إستفتاءً قومياً على عمق شعبية “أبي خالد”، والإلتفاف حول قيادته، والإيمان بقدرته على الإنتصار.

وعليه، تأخذني سلسلة الوقائع والفواجع المصرية والعربية، التي أعقبت رحيل هذا الغضنفر، الى أقاصي الإعتقاد – وربما اليقين – ان موته كان إغتيالاً مُدبراً بليل، وكان مموهاً بدهاء كي يبدو قَدَرياً وطبيعياً، وكان محسوباً بدقة لجهة التوقيت والتحيين.. فلو أن عبد الناصر غاب قبل وقوع الهزيمة التي صنعها له عام ١٩٦٧ تحالف جونسون وأشكول والملك فيصل، لبقيت مصر محكومة بـ “ضمير الغائب” وبنهجه القومي التقدمي حتى وهو في القبر، ولما تجرأ ايّ من خلفائه على الردة وخيانة الثورة ونقل البندقية من الكتف اليساري الى الكتف الأمريكي.. ولو انه قضى بعد الانتصار في المعركة على الصهاينة، ولو بحدود كسر شوكتهم ومحو آثار عدوانهم، لكانت الأرض قد زلزلت زلزالها، وكانت الأوضاع قد إنقلبت رأساً على عقب، وتغيرت غالبية الموازين والمعادلات والحسابات الاستراتيجية في الشرق الأوسط.. ولا داعي للشرح والتفصيل.

غياب عبد الناصر بعد الهزيمة وقبل الإنتصار، وعلى نحوٍ مفجعٍ ومباغتٍ لم تسبقه “أل” التعريف او التمهيد، أصاب الامة العربية كلها بدوار البحر، وأجهز على الايدلوجيا القومية والحمية الثورية، وخلَطَ كامل الأوراق والبرامج والأجندات والترتيبات على الساحة المصرية، وأتاح للعميل القتيل أنور السادات تزوير أهداف حرب تشرين لتقتصر على “التحريك” بدل “التحرير”، ووفر له فرصة إنتحالها وإدعائها لنفسه، ثم ركوبها للإنتقال من البر الثوري الإشتراكي الى البر الغربي الإمبريالي، والإنقلاب بالتالي على خط “أبي خالد” ونهجه وتوجهاته وإنجازاته وتحالفاته.. والعياذ بالله.

بإستسلام مصر السادات للإمبريالية والصهيونية والرجعية النفطية، دبت روح الإنهزام والإستسلام لدى معظم النظُم والمنظمات والتنظيمات العربية، خصوصاً بعدما تَبِع ذلك إنهيار القطب السوفياتي ومعسكره الإشتراكي، وبالتالي تغول القطب الأمريكي وتفرّده بالعربدة والسيطرة على العالم تحت مزاعم “نهاية التاريخ”، وتسلّطه أولاً وقبل كل شيء على الوطن العربي، خدمةً لمطامع العدو الإسرائيلي ومخططاته التوسعية التي تزداد شراهة وشراسة، كلما إزداد النظام العربي ضعفاً وتخاذلاً .

التفاصيل بعد ذلك معروفة، فقد رفعت منظمة التحرير الفلسطينية الراية البيضاء بتوقيع إتفاقية اوسلو، وتبعتها الاردن بإبرام معاهدة وادي عربة في تسعينات القرن الماضي، فيما حملت لنا بدايات القرن الراهن غزو العراق عام ٢٠٠٣، ومحاصرة سوريا بعد طردها من لبنان عام ٢٠٠٥، تمهيداً لتفجيرها بصواعق “الربيع العربي” عام ٢٠١١، وتدمير ليبيا، وتقسيم السودان، وتمزيق اليمن، وتبديل الأدوات الحاكمة التي شاخت وتهرأت في مصر وتونس وقطر والسعودية والإمارت باخرى أشد ولاءً لأمريكا، وأكثر إستعداداً للإنزلاق تحت إبط “الشقيق الإبراهيمي الإسرائيلي” الذي يحلم – او يتوهم – بوراثة الهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط وتفكيكها الى كُسور عشرية، بدءاً بالعالم العربي، وإنتهاءً بالمحيط الإسلامي في تركيا وإيران وحتى باكستان، ما إستطاع الى ذلك سبيلاً.

عموماً، إذا رغب الحكام العرب “الصنائع” في إستشراف مصائرهم، وإستكشاف مستقبل أنظمتهم تحت الإبط اليهودي، فما عليهم الا التحديق في وضعية “الرئيس” محمود عباس الذليلة، بإعتبارها “الكتالوج” والنموذج الذي ينتظرهم ويشي بما ستؤول اليه أوضاعهم غداً.. فيما ستخضع خرائط بلدانهم الى مشارط الشرذمة والتشطير على غرار الجاري في ليبيا والسودان والصومال، وما جرى سابقاً في يوغسلافيا، إذ ليس في أجندة المُهيمن الصهيوني الإستراتيجية ان تبقى مصر دولة موحَدة تضم أكثر من مئة مليون نسمة، او تبقى السعودية كياناً وطيداً ومتماسكاً يكتنز ثلث نفط العالم.. وقلّ مثل ذلك عن بقية الأقطار الشرق أوسطية المُراهِنة على صداقة “ابن العم الإبراهيمي”.

أخ خ خّ يا عرب، كم هو موجع ومفجع ومروّع ان تتنازل أمة القرآن عن شرف عروبتها، وتتعذب روحها في فيافي غربتها، وتأبى شمسها الشروق في موعدها، وتتقاعس رجولتها عن إثبات وجودها، وترفض كلمتها التعبير عن حقيقة معناها، وتغيب كرامتها حد ان تهون على نفسها، وتتنازع حتى كُريات الدم البيضاء والحمراء في عروقها، وتعجز أصلاب رجالها وأرحام نسائها عن إنجاب القادة العظماء والأحرار من طراز جمال عبد الناصر الذي إمتلك همّة أحيت أمة، وفجّر ثورة رفعت رؤوسنا الى عنان السماء.

يا ويح القلب، فقد كان “أبو خالد” زارع الآمال، ورافع المعنويات، وصانع الأمجاد، ورادع الأعداء، ومصارع الأوقات والتحديات الصعبة، دفاعاً عن حق الأمة العربية جمعاء في الوحدة والحرية والإشتراكية، وتبوّء مكانٍ سامقٍ تحت الشمس.. ولولا هذه المزايا النادرة والمواقف الحاسمة والقدرات الجبارة التي إمتلكها هذا العملاق، لما خشيه جمع الأعداء الصهاينة والغربيين والرجعيين، وتحالفوا ضده وتآمروا عليه وعلى ثورته ومشروعه، ولاحقوه بحملات الإفتراء والتشويه حتى في قبره.

يُقال في دارج الأمثال: “كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا الحزن، فهو يبدأ كبيراً ثم يصغر”.. غير ان الحال مختلف بخصوص “ابي خالد”، فالحزن على فراقه بدأ كبيراً وما زال يكبر ويتعاظم يوماً بعد يوم، ليس فقط لانه فقيد حميم وعزيز على أحرار أمته، بل ايضاً لان نذالة وجهالة حكام الحاضر العربي، وهوانهم على الناس، ونزولهم عند هلوسات العقل الباطن، قد ضاعف مشاعر الحزن والأسى والحسرات لدى الجماهير العربية على غياب هذا القائد الأمين الذي دأب طوال عمره على إداء صلاة المسؤولية في محراب القومية العربية.. “وفي الليلةِ الظَلماءِ يُفتقد البدرُ”.

حقاً، لقد كان عبد الناصر جديراً بالقيادة، وخليقاً بالريادة، وحَريّاً بالزعامة.. غير أنه قبل كل ذلك كان مكافحاً كادحاً حتى وهو رئيس جمهورية، ولعل من آيات عَظَمته ونضاليته ان الامة العربية قد نهضت تحت قيادته، وهمدت عقب رحيله.. وما زال عرين الزعامة العربية شاغراً من بعده عسى ان تجود الأيام علينا بـ “ناصرٍ” آخر ، وليس ذلك على الله بعزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى