ذكريات ذلك اليوم الحزين

بقلم: د. موسى الحمداني/ لندن

 

كان شهر سبتمبر ١٩٧٠ شهراًً مقيتاً كريهاً و عصيباً على الأمة العربية، و كأن الأقدار أعدته من بين كل الشهور و الأعوام ليكون سلة القمامة التي يقذف فيها التاريخ ما تجمع لديه من نفايات و نوائب و مصائب. كنت قد عدت إلى القاهرة بعد الاجازة الصيفية في الاردن حيث كانت الأحداث تتطور بشكل سريع و خطير. فقد كانت العلاقة بين المنظمات و الحكومة قد ساءت و توترت بشكل مقلق. في يوليو من ذلك العام أعلن جمال عبد الناصر قبوله لمبادرة روجرز و التي نصت من ضمن ما نصت عليه على وقف اطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر. كان قبول وقف اطلاق النار في ذلك الوقت ضرورياً لمصر لتلتقط انفاسها بعد ثلاثة سنين من حرب الاستنزاف. الآن نعرف أن ذلك القرار لم يكن فقط ضرورياً بل كان مصيرياً و و عبقرياً، فقد تمكنت مصر في الساعات الأولى من وقف اطلاق النار من تحريك بطاريات صواريخ ”سام“ للدفاع الجوي لمواقع أمامية بمحاذاة القناة، مما أعطى القوات المسلحة حماية تامة ضد التفوق الجوي الاسرائيلي. كان تحريك حائط الصواريخ للأمام هو الطلقة الأولى و الأهم في حرب ٧٣ و التي من غيرها لما تحقق العبور و لما وقعت الحرب أساساً. و هذه حقيقة تاريخية مهمة يتعمد إهمالها الكثيرون في الاعلام الرسمي العربي في زمن الاستخذاء و التطبيع. أي حديث عن حرب ١٩٧٣ يجب أن يبدأ بالحديث عن تحريك حائط الصواريخ و إلا كان حديثاً مجحفاً و مغرضاً.

كان لي تحفظات على بعض تصرفات الفصائل الفلسطينية في الأردن لكن لم أكن ارى بأساً في رفض تلك الفصائل لمشروع روجرز على أساس أن المنظمات لها وضع خاص وهي في حل من المسئوليات التي تقع على مصر كدولة، لكني لم اتقبل أبداً أن يُتَّهمَ جمال عبد الناصر بالتنكر للقضية الفلسطينية كما قالت حفنة من المتطرفين. كان جمال عبد الناصر الحاكم العربي الوحيد الذي سقت دماؤه الزكية تراب فلسطين التي جاهد فيها متطوعاً و ضابطاً و قائداً. كانت ثقتي بوطنية و نزاهة ذلك الزعيم كاملة، بل كنت أعتبره كالبوصلة التي تدلنا على الاتجاه الصحيح في دهاليز السياسة و متاهاتها، فإن انحرف أحد عن اتجاه عبدالناصر فقد انحرف عن الاتجاه الصحيح. كانت لي علاقة مع مجموعة فتح في اتحاد الطلاب و كنت أتلقى منهم كتيبات لا فائدة منها و احضر لقاءات لا طائل ورائها، توقف كل ذلك و لم آسف على شيء.

كانت المنطقة العربية و كأنها على كف عفريت و أحداثها متلاحقة. أصبح معتاداً أن تفاجئنا الصحف يومياً بشيء خطير مثير. كان الوضع في الأردن يزداد توتراً يوماً بعد يوم – من حادث اختطاف الطائرات و تفجيرها في الزرقاء على مشهد من وكالات الأنباء العالمية إلى اندلاع الحرب الأهلية المؤسفة في ١٧ أيلول. اضطر جمال عبد الناصر أن يقطع إجازته في مرسى مطروح و يدعو الى مؤتمر القمة الطاريء في القاهرة و الذي نجح في التوصل إلى حقن الدماء العربية.

أذكر أنني كنت أسكن في شقة قريبة من شارع المأمون و لا تبعد كثيراً عن الشارع الفرعي الذي يؤدي إلى بيت الرئيس. كان يشاركني السكن صديق و زميل يتقدمني في كلية الطب و كان دائماً غارقاً بين كتبه و مراجعه. في مساء يوم ٢٨ سبتمبر كان يبدو و كأن سحابة من الغم و الكآبة قد خيمت على المنطقة. كان هناك هدوء لا يبعث على السكينة بل يستحضر الإحباط. فمن بعيد أنظر إلى ذلك المحل التجاري في آخر الشارع، و الذي كان عادة يشع بالأضواء الساطعة، لكن لا أرى له أضواء. حتى الضوضاء و الأغاني و القهقهات التي كانت تنبعث من المقهى الشعبي في أسفل العمارة المجاورة اختفت، و كأن الناس توقفت عن الفرفشة و ارتياد المقاهي. لجأت مرة بعد أخرى الى الراديو لعل فيه ما يُسلّي النفس أو الخبر اليقين. كنت اتنقل بإبرة الراديو بين المحطات و كانت جميعها تذيع القرآن الكريم. سمعني زميلي و جاء يشاركني استغرابه و يسأل فيما إذا كانت هناك مناسبة دينية تفسر قراءة القرآن في المحطات الاذاعية، ففكرت برهة ثم تذكرت أن تلك الليلة كانت ٢٧ رجب فقلت بلهجة الواثق: ” طبعاً، انها ليلة المعراج“ لكن زميلي كان متشككاً فسأل ”و هل ليلة المعراج بهذه الأهمية؟“ فقلت له ”المناسبة مهمة طبعاً و تذكرنا بصعود الرسول الكريم لمقابلة ربه“. ثم أضفت إلى معلوماته أن عالماً جليلاً و علماً من أعلام الاسلام و هو الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر السابق، توفي في ليلة المعراج. أوجس زميلي أنني على وشك الانزلاق إلى دائرة الهلوسات و الفلسفات الدينية التي كان يعهدها في طبعي فانصرف إلى كتبه و أوراقه قبل أن أتمادى في سذاجتي. كان من لطف الله بنا أننا تقبلنا ذلك التعليل العليل، و لو على مضض، لأننا لو علمنا من الذي انتقل إلى رحاب ربه مساء ذلك اليوم لما عرفت أعيننا النوم.

استيقظت في صباح اليوم التالي و ذهبت كعادتي لألتقط صحيفة الاهرام التي كان يَدُسٌّ بها بائعها من تحت الباب. كنا قلقون على الأردن و المنظمات، رغم انعقاد مؤتمر القمة، و نترقب الأخبار بشكل يومي. أمسكت بالجريدة .. و صُعقت .. و خَرَجَتْ مني شهقة عاليه سمعها زميلي فجاء يركض ليراني أُبحلق مذهولاً في الجريدة الموشحة بالسواد فجذبها مني ليُصدم بدوره و يرتمي على الأريكة و هو يقول: كيف حدث؟ .. كيف حدث؟ كان العنوان الرئيسي يقول ”عبد الناصر في رحاب الله“. صَعَقَنا الخبر صَعْقاً و توجمنا من الذهول، لم يصرخ أيٌ منا و لم يولول و لم يذرف الدموع فقد كان هول الصدمة أقوى من أن يسمح بذلك و كان المصاب أفدح من أن تسعفه دموع أو صرخات. ورغم ايماننا بقضاء الله و قدره إلا أن هول الصدمة جعلنا نتساءل: كيف يموت عبدالناصر؟ نسينا أخبار الأردن و نسينا الفصائل الفلسطينية و لم يعد يهمنا مؤتمر القمة و لا مبادرة روجرز، فكل ذلك أصبح ثانوياً قياساً لذلك لمصاب الجلل الذي حل بالأمة العربية.

خرجنا الى الشارع و مشينا باتجاه ميدان روكسي، كانت الشوارع مقفرة و حزينه، كان أكثر المحلات مقفلاً و كانت المواصلات العامة تكاد تكون متوقفة، فذهبنا مشياً لنزور صديقاً لنا في مصر الجديدة. جلسنا نتساءل عن ماذا سيحدث للعرب بعد أن فقدوا قائد مسيرتهم. كان صديقنا أكثرنا تشاؤماً و كان يرى أن حظ فلسطين عاثر و كذلك مسيرة القومية العربيه و الوحدة أما الرابح الأكبر فهي اسرائيل و القوى الرجعية. كنت أرى أن تلك النظرة المتشائمة مبالغ فيها فكل رفاق عبدالناصر و زملاؤه كانوا يشاركونه ايمانه بمبادئه حتى من قبل قيام الثورة، و كنت لا أشك في أنهم سيستمرون على نهجه حتى نهاية المشوار- كم كنت غشيماً! فكما تبين لنا فيما بعد لم يكن من أولئك الرفاق من كان له كاريزما أو عزيمة جمال عبدالناصر و لا شجاعته و لا صلابة معدنه و لا حنكته السياسية و لا صموده أمام الشدائد.

في اليوم التالي كانت أعداد غفيرة من الناس يُكَّبِّرون و يسيرون باتجاه واحد و وجدت نفسي أمشي معهم حتى وصل الحشد إلى قصر القبة الذي لم يسبق لي أن رأيته من قبل، عموماً لم يكن ممكناً رؤية القصر الذي لم يظهر منه سوى أسواره المرتفعة. كانت المنطقة المحيطة تعج بعشرات الآلاف من البشر الذين عرفوا أنه تم نقل الجثمان الى ذلك القصر و كانوا جميعاً يُكَبِّرون و يهتفون و يرددون تلك الترنيمة الحزينة التي ظهرت في ذلك اليوم و هي ”الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ..“. لم أمكث طويلاً و قررت أن أعود أدراجي إلى الشقة حيث زارني نفر من الأصدقاء الذين كانوا أيضاً قد شاهدوا أمواج البشر في الشوارع المحيطة بقصر القبة. أصبح واضحاً لنا أنه من المخاطرة السير في الجنازة التي شُيّعت في اليوم التالي بمشاركة ستة ملايين مُشيّع جاؤوا من مختلف أنحاء الجمهورية. و هكذا التزمنا بيوتنا و أصبحت المشاركة في الجنازة، أو عدمها، حديثاً لطلاب الجامعة فيما بعد و الكل يتساءل ماذا كان سيكون عدد المشيعين لو كل الراغبين في المشاركة نزلوا الى الشوارع!

من ضمن ما نُشِر في تلك الأيام، كان هناك قرار حكومي يقضي بالسماح لحرم الفقيد أن تستمر في المعيشة في منزل الرئيس في منشية البكري طيلة حياتها. كنا نعرف أن الزعيم كان يسكن في منزل عادي لا يصل إلى درجة القصور و لا حتى الفلل الفاخرة التي كانت تذخر بها الأحياء الراقية في القاهرة. و كنا نعرف أيضاً أنه كان زاهداً في معيشته لا يطمع في متاع الدنيا و راضياً بما آتاه الله، لكننا لم نكن نعرف أنه لم يكن يمتلك بيتاً، و لا حتى أثاث بيت. عموماً لم تُبهرنا الحكومة بكرمها و اعتقدنا أنه كان خليقاً بها أن تتنازل نهائياً عن البيت لأسرته.

خيَّم الحداد على مصر لأسابيع و ارتدت نساء مصر السواد لأشهر عديدة و ظل ضريح الفقيد مزاراً للآلاف من أبناء الشعب حتى أنه ساورني قلق من أن يتحول، كما تحولت أضرحة أخرى من قبله، إلى رمز ديني يتقرب الناس بزيارته لله تعالى. بقيت وفاة الزعيم موضوعاً أساسياً للإذاعات و الصحف في تلك الفترة و استمر نشر مقالات الرثاء و نداءات من شخصيات معروفة لإطلاق إسم الزعيم الراحل على معالم مهمة في مصر مثل السد العالي و قناة السويس و ميدان التحرير و مطار القاهرة. و بدأت فعلاً حملة تبرعات، اقترحها و تبناها توفيق الحكيم، لإقامة تمثال كبير في ميدان التحرير، لكنها في النهاية لم تتمخض عن شيء. شرعت الدولة رسمياً للعودة للحياة الطبيعية الا أن المزاج العام كان يبدو و كأنه يرفض تصديق رحيل جمال عبد الناصر. في أكثر من مرة، بعد الاستفتاء على السادات، كان المذيعون يقعون في خطأ الإشارة للرئيس الجديد باسم الرئيس جمال عبد الناصر (كأن يقول: و الآن يدخل الرئيس جمال عبدالناصر .. ) و كأن السنتهم كانت ترفض أن تقرن أي إسم آخر بلقب الرئيس. حتى أنه شاعت نكتة تقول أنه تخليداً لذكرى القائد الخالد فقد تقرر إطلاق إسمه على أنور السادات!

كنت و زملائي نجتمع يومياً و نتحادث في شيء واحد و هو توقعاتنا عن ما سيحدث للعرب بعد رحيل الزعيم الكبير، و عن ردود الفعل العالمية. ففي بريطانيا (عدوته اللدود) قالوا عنه ”أنه أعطى المواطن العربي إحساساً بكرامته، و هذه بحد ذاتها تجعله يدخل التاريخ“. و وصفت صحيفة التايمز الجنازة بأنها كانت أكبر تجمع بشري في التاريخ، و كتبت عنها النيوزويك أن جنازات كندي و اتاتورك كانت مجرد صور فوتوغرافية قياساً لجنازة ناصر. و في فرنسا قالوا عنه أنه كان الزعيم الأكبر للعالم العربي و محور استقطابه و الوسيط و الحكم فيه. أما أمريكا فقد اعتبرته قمة لا نظير لها و وفاته خسارة للعالم.

واظبت الصحف و المجلات على نشر صور للزعيم في مختلف مراحل حياته و نشاطاته مع بعض التركيز على آخر ظهور له أثناء وداعه لأمير الكويت، و هي لحظات سجلتها الكاميرات في عدة لقطات. و أبلغ تلك اللقطات تعبيراً ظهرت بعد نحو شهر في مجلة لا علاقة لها بالسياسة وهي مجلة العربي الكويتية. كان رحمه الله يدرك أن قدره كان أن يرفع علم العروبة عالياً، و كان يدرك أن الأمة العربية ترى في قامته قامة لها و في شموخه شموخاً لها، و كأي جندي أبي كان حريصاً على أن لا تنكسر الراية التي يرفعها. كان زعيماً يعطي الزعامة حقها و يرفض أن يظهر أمام العالم ضعيفاً حتى في أصعب الظروف. ظهر الزعيم في الصورة واقفاً كعهده شامخاً مهيباً على المنصة في مطار القاهرة، لكن تعابير وجهه كانت تقول أنه كان يصارع المرض.

تحت الصورة كُتِبَ بيت الشعر التالي و الذي كان يعبر عن الموقف:
و لقد نظرتك و الردى بك محدقٌ …. و الداء ملءُ معالم الجثمان

و إلى جانبها كتب رئيس تحرير المجلة، الدكتور أحمد زكي، رثاءً مختصراً قال فيه:
”كان جمال عبد الناصر زعيماً عظيماً، لا شك في هذا.
و كان خطيباً يرجُّ الجماهير رجّاً، لا شك في هذا.
و قد تستمع اليه على شيء من حذر، فلا يُتمُ خطابه حتى تكون قد أسلمتَ له كلَّ محاذيرك و معاذيرك.
كان ينزل به الخَطْبُ، و بشَعبه، فتقول هذا آخر المطاف، فإذا هو يصمد على الخُطوب صُمود الجبل الصلد الأصم، و تمر عليه الزَوبعة و لا تزحزح منه حجراً“.

احتفظت بتلك الصورة طيلة فترة تواجدي في مصر لأني كنت أرى فيها زعيماً لا يستكين و لا يضعف حتى و هو يصارع المرض. كنت أرى فيها قائداً بطلاً وهب عمره لوطنه و شعبه حتى آخر رمق في حياته. كنت أرى في الصورة جمال عبد الناصر واقفاً شامخاً و في نفس الوقت أكاد المح إلى جواره جعفر بن أبي طالب الذي آلى على نفسه أن يُبْقي الراية خَفَّاقة حتى نَفَسَه الأخير متناسياً جراحه البليغة. لقد رفع جمال عبد الناصر الراية عالية حتى نَفَسَه الأخير .. راية شماء تخفق بعز العرب و مجدهم .. لكن عندما قضى كَلَّت الأيادي المرتعشة عن رفعها فوقعت الراية و تشتت شمل العرب و انفرط عقدهم و ضاع حقهم و مال حالهم و لطَّخوا بفسادهم و هوانهم راية العز و المجد و الإباء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى